أعطى العربُ ” الخطَ العربيَ ” أوْ ” الفكرِ الساكنِ ” كما يقولُ الأولونَ عناية خاصةٍ عندَ كتابةِ القرآنِ ، منطلقينَ منْ مبدأٍ هوَ في الواقعِ قولَ علي بنْ أبي طالبْ : ” الخطُ الجميلُ يزيدُ الحقُ وضوحا ” ، وقدْ أخذَ الخطُ العربيُ مكانةً رفيعةً المستوى ، لارتباطهِ بالثقافةِ العربيةِ وبالعقيدةِ الإسلاميةِ . فاللغةُ العربيةُ ظلتْ تعتبرُ الوعاءَ الواقيَ للشرائعِ والقوانينِ السماويةِ والدنيويةِ التي سنها الإسلامُ ، فهيَ لغةُ القرآنِ . والخطُ العربيُ هوَ ” أيقونةُ العربِ ” كما أطلقَ عليهِ الباحثُ تيتوسْ بوركهارتْ Titus Burckhardt . . . والجديرَ بالذكرِ أنَ المكانةَ الفنيةَ التي استطاعَ الخطُ العربيُ أنْ يحتلها متأتيةً منْ ” قدسيةِ اللغةِ العربيةِ ” . فهوَ بمثابةِ شعارٍ للترابطِ القوميِ والولاءِ الروحيِ. يعتبر الخطُ العربيُ فنا رائدا وأساسيا ، ويوجدَ العديدُ منْ العواملِ التي ساعدتْ على ارتقاءِ الخطِ العربيِ إلى فنٍ قائمٍ بذاتهِ ، وتكمنَ فيما يمتازُ بهِ منْ مقوماتٍ تشكيليةٍ وجماليةٍ أسهمتْ في ارتقائهِ ، ما جعلَ الفنانينَ التشكيليينَ يقبلونَ على استلهامهِ في أعمالهمْ الفنيةِ . فالحروفُ العربيةُ تتميزُ بقابليةِ التحويرِ وتنفردُ بخصائصِ عدةٍ : كالليونةِ والمطاطية التي نجدها في الخطوطِ اللينةِ كالثلثِ وكالمدِ ( امتدادُ الرأسِ ) والبسطِ ( الامتدادُ الأفقيُ ) والتدويرُ ( تقعرُ وتحدبُ الحروفِ ) والهندسةِ والتربيعِ ، وتعددَ الشكلِ في الحرفِ الواحدِ كما نجدُ في الخطِ الكوفيِ . والخطُ العربيُ هوَ ” الفنُ الملتصقُ دائما بالزمانِ ” ففي عمقِ الطبيعةِ الصحراويةِ . . . إنَ معادلةً ( الزمانُ – اللامرئيَ ) كانتْ بمثابةِ القاعدةِ التي بنيتْ على أساسها سيكولوجيا الفردِ العربيِ وذهبيتهِ . . . وهيَ منْ أهمِ الحوافزِ البنيويةِ لنظرةِ العربِ التجريديةِ نحوَ الأشكالِ والتعبيراتِ الفنيةِ ، ما أتاحَ للفنانِ المسلمِ تركيبُ لوحةٍ فنيةٍ ذاتِ أبعادٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ . . . وقدْ استفادَ الفنانُ المسلمُ منْ خاصيةِ التحويرِ في الخطِ العربيِ ، أيْ التبديلِ والتغييرِ في الأشكالِ المألوفةِ للحروفِ والكلماتِ ، فقامَ بتوظيفها جماليا لإبداعِ أشكالٍ فنيةٍ خطيةٍ ، واستخدمها أيضا للوصولِ إلى شكلٍ جماليٍ جديدٍ ، يقومَ إما على التشكيلِ الزخرفيِ الهندسيِ كالدائرةِ والمربعِ والمستطيلِ . . . أوْ على تشكيلٍ زخرفيٍ تصويريٍ تمثيليٍ للإنسانِ أوْ الحيوانِ أوْ النباتِ . . . معَ الحفاظِ والالتزامِ بقواعدَ وأصولِ الحرفِ والخطِ .
إنَ للخطِ العربيِ قدرةً هائلةً وغيرَ محدودةٍ على التشكيلِ والتنويعِ باستمرارٍ ، ما ألهمَ الخطاطينَ على إبداعِ واستحداثِ أنماطٍ كتابيةٍ عديدةٍ ، واستخدامها كعنصرٍ تشكيليٍ وفنيٍ . وقدْ تعددتْ أنواعَ الخطوطِ العربيةِ وتطورتْ على مرِ العصورِ حتى تجاوزتْ الثمانونَ نوعا ، وذلكَ طوعا لحاجةِ الاستعمالِ والتأنقِ والتجديدِ ، والارتقاءُ . ويعتبرَ اليومِ فنَ الخطِ العربيِ فنا رائدا يحتوي على بنيةٍ جماليةٍ ، وهوَ عنصرٌ أساسيٌ وهامٌ ارتكزتْ عليهِ الفنونُ البصرية الحديثةُ والمعاصرةُ .
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي