عبد القادر الريس: “مجموعة التجريد”، الوان مائية على ورق، 126x144 سم، 2022.

الكوجيتو المجروح
مدخل فني إلى خيمة الروح

كثيرا ما جرى الحديث عن “جرح نرجسي” في هويتنا المعاصرة؛ ولكن “نرسيس” يظلّ دوما مريضا بحبّه لنفسه فلا يرى من يحبّه: لا يرى “إيكو”، ربّة الميثولوجيا، التي أحبّته لكنّه كان مشغولا عنها بحبّه لنفسه مثل شبح مسجون في مرآة. علينا أن نفكّر إذن في جرح من نوع آخر، “جرح جمالي” أو تشكيلي: جرح في المرآة نفسها على نحو يجعل نرسيس وجها لا يرى نفسه إلاّ من خلال جروحه؛ ثمّ عليه أن يحبّها. لأنّه لا يملك وجهاً آخر كي يرى نفسه.

ولكن كيف يمكن أن نفكّر في جرح جمالي؟

يقترح بول ريكور مفهوم “الكوجيتو المجروح” : هو “أنا” لا يفكّر في ذاته إلاّ بقدر ما يفقدها. قال: “الكوجيتو المجروح، كوجيتو يطرح نفسه، ولكنه لا يملك نفسه”(1) ولكن “من” هو الكوجيتو المجروح؟ هو “أنا” أدرك متأخّرا، بألم كبير، أنّ “أفكّر” لا تلائم “أنا أكون” دوما. بل يمكن أن “أكون” ما لا أفكّر فيه، وما لا أعي به. ثمّة إذن مساحة مظلمة في كل وعينا بأنفسنا لا يستطيع “التفكير” أن يلقي ضوءه الخاص عليها. ومع ذلك، نحن نواصل “كينونتها” بكل جوارحنا. إنّ فرويد قد يساعدنا، حسب ريكور، على إعادة قراءة ديكارت بوصفه فيلسوفا ادّعى بناء “كوجيتو” قادر على امتلاك كل مساحة “الوعي” بمجرد التفكير. لكنّ ما ينتج هو بناء “الكوجيتو الوهمي الذي يحتل بداية مكان الفعل المؤسس”؛ وهكذا لم تبق أمام الفلسفة من مهمة مناسبة سوى “تفكيك الكوجيتو الكاذب” من خلال ما سمّاه ميرلوبونتي “أركيولوجيا الذات” (2) .
إنّ الكوجيتو المجروح هو “أنا” لا يلتقي بنفسه إلاّ من خلال وسائط لا يسيطر عليها. فمن يريد أن يعرف ذاته عليه أن يؤجّل ذلك حتى يظفر بالجرح المناسب. وذلك يعني أنّ عليه ألاّ يطمع في وعي مباشر بنفسه، إذْ لا يوجد يقين مباشر بأنفسنا، بل فقط محاولات متعددة وهشّة تتراوح بين شفافية مستحيلة (أنا = أنا) وهيمنة غير ممكنة (أنا بلا آخـــــر). “إنّ الكـــــلام لا يكــــون على الإطــــلاق شفافا لنفسه” (3) .
تتمثّل الصعوبة إذن في هذا الرهان: كيف أكون “أنا” نفسي مع العلم وأنّه لا يوجد “كوجيتو” يقيني كالذي حلم به أو ادّعاه ديكارت. إنّ ديكارت إذن فيلسوف أو كوجيتو مستحيل. وتشتدّ خطورة هذا الوصف بقدر ما تبدو الحداثة رهينة هذا الانقلاب في “الوعي” البشري: الحداثة بوصفها سياسة جديدة في الوعي بأنفسنا. لكنّ هذا الوعي قد دخل في أزمة بمجرّد أن صرنا نطرح عليه أسئلة لا يراها لأنّها تتعلق بالوجه الآخر من القمر. إنّ “أزمة مفهوم الوعي” (4) ليست مشكلا شخصيا، بل هي سمة داخلية في علاقة الإنسان الحديث بنفسه ومن ثمّ يفترض ريكور أنّ أزمة الوعي ليست حدثا طارئا بل هي قد كانت هناك منذ البداية: هذا ما أخفاه عنّا ديكارت متعمّدا. لقد قرّر بدلا عنّا شيئا غير ممكن: “أنا أفكّر إذن أنا أكون” أو “أنا أوجد”،- كان ذلك ادّعاءا خطيرا حجب عنّا أنّ التماهي بين التفكير والكينونة هو مجرد افتراض جيّد، ولكن غير حقيقي. إنّ الوعي بأنفسنا مهمّة علينا أن ننجزها، وليس شيئا نعثر عليه. ولذلك يعرّف ريكور قائلا:” الوعي هو هذا الذي لا يستطيع أن يجمع نفسه” (5) نحن لسنا نحن إلاّ في النهاية، عندما ننجح في تشكيل أنفسنا. من يصير ديكارت بالنسبة إلينا؟ عندئذ.

“إنّ فلسفته تشهـــــد بأنّ أزمـــة الكوجيتو كـــــانت متزامنة مـــع تأكـــــيد الكوجيتو” (6) .

وعلى من يفكّر أن يقبل بهذا التحدّي الأصلي في مهمّته. يتعلق الأمر عندئذ بكيفية قطع الطريق الشائك والمعقّد من “الأنا” المستحيل إلى “الهوية” الممكنة. وهذا يعني أنّ جميعنا لا يمكن أن يلتقي بنفسه إلاّ في ضمير الغائب: في معنى “الهوية”. لا توجد “ذات” مباشرة يمكننا أن ندّعيها بلا رجعة. كلّ منا يمكن أن يُقال عنه : “هو”. وربما يتّضح لنا لماذا فضّل النحاة عندنا صيغة الثلاثي المجرّد لضبط دلالة أيّ فعل: كل فعل لا يعني كل دلالته إلاّ في صيغة “الماضي”. ومن ثمّ ينطبق عليه معنى “الهوية”. “هو”، أي “كان نفسه”. ولكن لأنّه لا أحد يوجد في الماضي- فالماضي بُعد لم يعد يرانا- فإنّ أيّ “أنا” هو لا يعني “نفسه” إلاّ عبر عدسات هشّة عليه أن “يغيّرها” في كل مرة. عليه في كل مرة أن “ينعكس” في عاكس أو شاشة ما حتى يظهر لنفسه. إنّ نورنا يقبع خارجنا، كي نظهر إلى النور. ومن ثمّ نحن نحتاج دوما إلى “انعطافة” أو “لفّة” كي نلتقي بأنفسنا: إنّ الشفافية ادّعاء مرآوي سرعان ما يقذف بالأنا في أرض مهجورة، حيث لا أحد. ومن يستطيع أن يحتمل أنّه “لا أحد”؟ حتى أعتى أنواع الوحدة، هي مأهولة. نعني: يسكنها الغائبون. أولئك الذين نستمدّ من الاعتراف بهم نسبنا الخاص بوصفنا نحن أيضا “آخرين”. لا يوجد طريق سالك إلى الأنا. بل فقط معابر ووسطاء جيّدون. نعني: آخرين مدرّبين جيّدا على ملاقاتنا وتشكيلنا في أفق أنفسهم.

إنّ الأنا ليس “شيئا”، ومن ثمّ هو لا يدّعي أنّه هو “عينه” في كل مرة إلاّ على سبيل الوعد: ليس ثمّة نواة لأيّ شخص عليه أن يكرّرها إلى ما لا نهاية، بل فقط قدرة خاصة على تشكيل “ذاته” بكل حرية. أعدك بأن أكون نفسي في كل مرة. لكنّ هذا الوعد ليس شيئا. هو لن يكون “عينه” بلا رجعة. وسوف يضطر كل أنا إلى تغيير أقواله حول نفسه إلى النهاية. نعني سوف يضطر إلى تحمّل “آخريّته” بوصفها تنتمي إليه، وليس جزءً من وجوده يمكن التخلّص منه. كل آخر هو خسارة، إذا نحن نظرنا إليه بوصفه شيئا، أي هوية جاهزة ومطابقة لنفسها بشكل مطلق. وذلك يعني من دوننا.
لا يعني “الجرح” إذن إساءة خارجية، أي إساءة أشياء، بل هو توقيع على الجسد الخاص لكل منّا. كل “أنا” هي “هنا” سابقة، أي شكل من “المكان” الذي تحوّل بفضل هشاشتنا إلى “كينونة” علينا أن نرعاها. لا تكون إلاّ بفضل علاقتك بمكان ما. وإنّ الأنا هو الذي ينقل المكان من عالم الأشياء إلى عالم الكينونة. هل أنت مكان نفسك في كل مرة؟ من يجرح المكان؟

كل قوة ريكور تأتـي من كونه قد اعتبر أنّ “معركة الكوجيتو قد انتهت” (7) : لم يعد للأنا أفكّر ما ينتصر عليه. كأنّ الوعي “الحديث” قد انسحب من أفق الفرد الأوروبي المعاصر. لكنّ ذلك ليس سوى شطر فقط من المشكلة التي تؤرق الفيلسوف: لا أحد يمكنه أن يظلّ بلا أنا. ومن ثمّ علينا أن نميّز بين انتهاء “معركة” الأنا وبين وجود “أنا”. إنّ الأنا هو مجبر دوما على استئناف علاقته بنفسه، مهما كان “مجروحا” بالآخرين. وهكذا بدل بناء “فلسفة كوجيتو” على طريقة المحدثين من ديكارت إلى هوسرل، يقترح ريكور مهمّة متواضعة لكنّها شرسة: علينا أن نمارس “تأويلية الذات”، أي أن نؤوّل أنفسنا ونحن “على مسافة متساوية بين الدفاع والتقريظ للكوجيتو وبين مهاجمته وإسقاطه” (8) . علينا أن نعامل الكوجيتو مثل “أب” متعب، من اليقين المفقود، أب فلسفي لم يعد واضحا ما إذا كان منه “ما لا يكفي أو ما يزيد عن الحاجة” (9).

إنّ نقطة ضعف الكوجيتو الذي ادّعاه ديكارت هو حسب ريكور طمعه في “تأسيس نهائي” لنفسه. أراد أن يبني يقينا أكبر من طبيعته. وكل أنا يفعل ذلك هو يعاني من “طموح تأسيسي”، أي من مرض “الحقيقة الأولى”. لا أحد يمكنه أن يكون حقيقته الأولى. نحن نوجد لكنّنا لا نؤسّس وجودنا. ما ينساه كل أنا هو أنّه يسكن جسدا خاصا، وعليه أن يعامل نفسه بوصفه نفساً “مقتلعة من كل معالم الزمان والمكان”؛ لقد “شكّ” ديكارت لكنّه أخفى عنّا “يأسه”، جعلنا نعتقد أنّ “الشك الديكارتي ليس اليأس الكيركيغاردي”. (10) كان الحل الفلسفي هو اختراع هوية بلا صفات، هوية تقول “أنا أفكّر”، وتعرّف نفسها كذلك، لكنّها لا تعرف معنى آخر يجعلها “من تكون”.(11) ما فعله ديكارت هو تجريد “الأنا” من السؤال “من؟”(11) والزجّ به في صدَفة فارغة اسمها “الكوجيتو”/ “أنا أفكّر” دون أي محتوى “آخر”، أي بلا آخر، بلا جسد، بلا مكان،.. و”عند هذا الحدّ فإنّ الأنا تفقد نهائيا كل تعيين خاص حين تصبح فكرا أي فاهمة (عقلا)”- ولكن لماذا لا يستطيع الفكر أن يكون هوية؟ إنّ الفكر يجرّد الأنا من “هويته السردية”، يحرمه من أن يدّعي أنّه “شخص محسوس معيّن”، ويحوّله إلى هوية “لاتاريخية”، إلى “كوجيتو فوري” (12) يمكن إطلاقه متى نشاء بوصفه “هوهو” دوما على نحو أبكم.

إن ما يقترحه ريكور هو إعادة الأنا إلى “شخصية السرد” التي تختفي وراء أقواله. عندئذ فقط لا تكون الأنا “ذاتية مقتلعة” كما تصوّرها ديكارت. نحن “نسخة ذاتية” فقط من أنفسنا، لكنّنا لن نعرف ذلك إلاّ إذا نجحنا في الإقرار “بهشاشة اليقين” الذي لدينا عنها. علينا أن نقرّ بأنّ “أنا الكوجيتو حين تترك لذاتها تصبح مثل سيزيف المحكوم عليه بحمل صخرة يقينه والصعود بها في كل لحظة، عكس انحدار الشك” (13).

إنّ من يفكّر على هذا النحو يخفي عنّا سيزيف الذي يقف وراء قناعه. لقد اخترع ديكارت نمطا من الذات أقام كل حجة وجوده على التخلّص من “كل صبغة نفسانية، وبالأحرى من كل إحالة إلى سيرة ذاتية” (14) . لا يمكن لمن يفكّر أن يقول “أنا” إلاّ على سبيل المجاز. عليه أن يتخلّى عن “الشخص” الذي يتكلّم كي يفسح المجال أمام “أنا أفكّر” بلا هوية، ادّعى كانط أنّ “عليها أن تصاحب كل تصوّراتي”. ليس لهذه الأنا ما تحكيه لنا عن نفسها، لقد تجرّدت من قصّتها من أجلنا. قال ريكور:” إنّ إشكالية الذات تخرج هنا وقد ازدادت عظمة بمعنى ما، غير أنّ ذلك يتمّ مقابل خسارتها لكل صلة مع الشخص الذي نتكلّم عنه” (15) .

لقد اعتقد ديكارت أنّ الدخول إلى الأزمنة الجديدة يتطلّب التخفّف من “هويتنا السردية”، من “نسخة الذات” التي لدينا، من “السيرة الذاتية” التي يمكن أن تجعل الأنا أفكّر “شخصا”. إنّ كوجيتو ديكارت إذن ليس “هوية شخص تاريخي” بل تقنية “تفخيم” للأنا حتى يستولي على العالم دون أي حاجة إلى جسم يتألّم من أجله. قال: “هل هناك ما هو أعمق وألصق بالنفس من الألم؟ ومع ذلك فقد تعلّمتُ فيما مضى من بعض الأشخاص الذين كانت أذرعهم وسيقانهم مبتورة أنه كان يلوح لهم أحيانا أنهم يحسون ألما في الجزء المبتور من أجسامهم، وهو الأمر الذي دعاني إلى التفكير أني لا أستطيع أيضا أن أستوثق من وجود أذى حقيقي في أحد أعضائي جسمي، وإن أحسست في هذا العضو ألماً” (التأمّل السادس، الفقرة 14)

كان الكوجيتو إذن مفخرة فلسفية مخاتلة؛ هو موقع جريمة ضد الجسد الخاص، وليس مفهوماً مريحا. من يفكّر، حسب ديكارت، عليه أن يبدأ بمعاملة جسده الخاص وكأنّه عضو مبتور: عليه أن يعامل ألمه بوصفه إشاعة.

كان ديكارت يعتقد أنّ دفع هذا “الثمن” هو أمر لا بدّ منه. ولكن هل نحن مخيّرون في ذلك؟ قال ريكور: “إن الحداثة تدين على الأقل لديكارت بأنّه وضعها أمام تخيير مخيف كهذا” (16).

ولكن ماذا لو كان ثمة طريق آخر إلى ارتسام أفق الحداثة لم يره ديكارت؟ نعني: طريقا لا يمرّ بالنفس التي تفكّر بل بالجسد الخاص الذي يتألّم؟ طريق “الجسد المجروح”؟ – ليس الجسد مجرد “جسم” ممتدّ كما ظنّ ديكارت، كما يفعل علماء الفيزياء، بل هو فضاء انفعالات، مساحة لمسيّة، تربة لقاء استثنائية لاحتمال معنى الكينونة في العالم. لا يوجد “جسم” بلا أعضاء، بل فقط جسد خاص بهذا الشخص أو ذاك. الجسد الخاص خارطة للسيرة الذاتية وليس كتلة طبيعية نعثر عليها خارجنا. لكنّ الجسد لا يفكّر. ومن ثمّ علينا أن نزوره حيث هو: في مرآته حيث يرى نفسه. ولكن من بإمكانه أن يقول الجسد كما يرى نفسه؟ – ثمّة مفهوم واحد يجمع الجسد في نظرته إلى نفسه، ولا يشاركه في ذلك أيّ عضو آخر،- ألا وهو “الوجه”. كل جسد هو خاص بقدر ما هو وجه لا يمكن لأحد أن يدّعيه. الوجه هو القناع الوحيد للجسد، لكنّه ليس قناعا لأحد غيره. وربّما هذا ما أوقع نرسيس في حب نفسه، ولم ينجح في عشق المرأة (إيكو) التي تراه. فشل نرسيس في أن يرى وجه جسد آخر جعل منه “كوجيتو مجروحا”، أنا بلا آخر. أنا يفكّر لكنه لا يرى غير نفسه،- ولم يكن ديكارت غير التنفيذ الجريء لنرسيس بلا وجه، أي بلا جسد خاص. ومن ثمّ غير قادر سلفا على حبّ نفسه

لو نظرنا الآن إلى كل تاريخ الحداثة بوصفه تاريخاً للجسد، تاريخا صامتاً، مسكوتا عنه، غير مفكّر فيه، لجسد طرده ديكارت مبكّرا من برنامج الحقيقة،- لهالنا حجم سياسة المعنى التي منعت الجسد الحديث من اختراع “الكوجيتو” الخاص به: إنّ كوجيتو الجسد لا يزال وعداً غير محتمل. ثمّة كوجيتو مستحيل وغير مفكّر، ينتشر متخفّيا أو متنكّرا، في الأزمنة الحديثة، طيفاً ساخرا، من “الشيء الممتدّ” الديكارتي إلى “الجسد اللحمي”(body-flesh) لدى ميرلوبونتي وأخيرا إلى الجسد-الجندر، العابر للأجناس، مرورا بجسد نيتشه “المريض” بوصفه جسد الحقيقة. لكنّه لا يبلغ حدّه الداخلي إلاّ عندما يجد نفسه “مجروحا”: في اللحظة التي يخرج فيها الجسد الخاص من منطقة “أنا أستطيع” إلى ميدان “أنا هشّ”، “أنا معطوب”، “أنا لا أستطيع”. وحسب مرلوبونتي لا نكتشف ذلك إلاّ عندما نتفاجأ بأنّ “الآخر” هو “في المقام الأوّل جسد آخر”. جسد ليس أنا، جسد لا أكونه أبدا. مساحة أخرى من “الأحاسيس” أو من “الآلام” لا يحق لي أن أعود بها إلى البيت: هي موضوع غير قابل “للتملّك”.

ولكن كيف يمكن للجرح أن يكون توقيعا استثنائيا للجسد الخاص بكلّ منا؟ – طبعا، للجسد توقيعاته العضوية، القديمة. لقد كان يحمل منذ البداية جروحه التي شُفيت وتحوّلت إلى أعضاء. لكنّ الجرح الذي يمكن أن يتمرّد على أيّ أنا أفكّر هو الجرح الذي يدخل في هويته، في “وجه” الروح التي يدعيها جسد ما في المرآة. هو الجرح الذي يدخل في هوية الجسد الخاص. الجرح الذي يخترع الصلة الخفية بين “الركح” (skênê) حيث تظهر الأجساد وبين “الجسم” بوصفه “خيمة” (skénos) للنفس حسب استعارة أفلاطون. ما يفعله الجرح هو نصب الجسد الخاص بوصفه خيمة للنفس.

أمّا اليوم فيبدو لنا أنّ أفضل امتحان لهذا الكوجيتو المجروح هو طبّ التجميل الذي يعمل على جروح الوجه البشري: ماذا تفعل “إستطيقا الجروح” حين تعيد وجها ما إلى مكانه؟ إلى مرآة ذاته؟ هل تخلق “جرحا جماليّا”؟

إنّ الجرح معطى “تشكيلي” شديد التميّز، فرض تفاوضا وتعاونا لصيقا بين الطب والاستطيقا. وإذا بنا نجد أنفسنا أمام حدث فريد: إنّ “الجراحة التشكيلية”(Plastic surgery) إنّما تجد هنا منعطفا رائعا يدعو إلى التفكير: لم يعد يجدر بالفلسفة أن تبحث عن “ماهية” أنفسنا في ملكة تفكير تقبع “خارج” أجسادنا، علينا أن نبرهن عليها بواسطة الخطاب؛ إنّ ما نسمّيه “أنفسنا” هو عملية تشكيلية حيث تؤدي أعضاؤنا أدوارا حاسمة. إنّ النفس هي ما يراه الجسد في المرآة: الإحساس بأنّ هذه “اليد” وهذا “الوجه” وهذا “الجلد”، الخ. هي مساحتي “اللمسية” التي تجعلني أعود إلى نفسي في كل مرة. ولذلك فإنّ الجروح لا تقع خارج أنفسنا، بل هي تدعونا إلى إعادة تشكيل الجسد كما رأى نفسه أوّل مرة. ولذلك فإنّ الجرّاح الذي يرمّم وجها أو فكا أو جمجمة أو يدا أو ثديا أو حرقا أو شفة، الخ.. هو “يشكّل” ذاتًا، ويعيد هوية إلى مكانها. وليس فقط يقوم بإجراء مادي تقني. إنّ الجسد المجروح هو أيضا كوجيتو مجروح، وليس مجرد شيء ممتدّ على منضدة الطبيب. وراء كل جسد مجروح هناك هوية مجروحة علينا ترميمها. لكنّ ذلك يعني أنّ الهوية ليست ماهية معطاة بلا رجعة بل خارطة حواس متحرّكة. إنّ الجرّاح يعيد للأستطيقا معناها الأصلي: هي ليست “جماليات” (نظرية في الجميل) بل فنّ “المحسوس” (aisthêtikós). ربما كان الفلاسفة على حق عندما لم يجدوا من تعريف آخر لمعنى “الجمال” سوى “الإحساس” به، ولكن لأنّه لا وجود لإحساس بلا أعضاء، بلا جسد خاص، اضطرّ الميتافيزيقيون إلى طرد “الإحساس” من “الجمال” بتهمة الانتماء إلى الجسد، إلى هذا الكائن من الحواس، غير الموثوق به بشأن الحقيقة. وهكذا فما فعلته الجراحة التشكيلية هي أن أعادت “الاستطيقي” إلى “الجسد”، وأعادت الجمال إلى المحسوس بوصفه الثروة التشكيلية الوحيدة لهويتنا البشرية.

وأخيرا، ماذا يمكن أن يكون “العقل” في ثقافة ما حينما يكون علينا أن نفكّر بكوجيتو مجروح؟ إجابة فيتغنشتاين: لن يكون التفكير عندئذ سوى ممارسة “علاجية”: نحن نداوي أمراضا لغوية ولا نبرهن على حقائق باردة. فجأة بات الجسد الخاص ضربا غير مسبوق من الكوجيتو: “كوجيتو مجروحا”، “كوجيتو محطّما” بالمعرفة، أصابه “لاوعيه”، جسدا مصابا بالحقيقة مثل عدوى سرديّة عن الغائب، جسدا لا يملك “نفسه”، وفجأة صارت الفلسفة مثل جراحة تشكيلية: تعيد ترميم صورة النفس ولكن فقط كما يمكن أن يقولها جسد خاص. من يفكّر يرمّم عقله المجروح بالحقيقة؛ من يعيش يرمّم جسمه المجروح بالهوية.

يوسف الدويك: “الجدار”، اكريليك على قماش، 150X160 سم، 2008.

بول ريكور : “صراع التأويلات”، ص. 289, دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2005.
2. نفسه.
3 .نفسه، ص 296.
4. نفسه، ص 139
5. نفسه، ص140.
6. بول ريكور، الذات عينها كآخر (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005)، ص 74.
7. نفسه، ص 73

8. نفسه، ص 73.
9. نفسه، ص74.
10. نفسه، ص 75
11. نفسه، ص 77.
12. نفسه، ص 78.
13. نفسه، ص 81-82.
14. نفسه، ص 84.
15. نفسه.
16. نفسه.

كاتب

باحث ومفكّر ومترجم. أستاذ التعليم العالي في الفلسفة المعاصرة بجامعة تونس المنار. متخصص في الفلسفة الغربية المعاصرة. له مؤلفات وبحوث منشورة بالعربية والفرنسية في تونس والعالم العربي وفرنسا وألمانيا، وتُرجمت بعض مقالاته وبحوثه إلى الألمانية والانجليزية.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.