التراث والهوية : وشائج وتقاطعات
يعدّ التراث مرجعية تاريخية وثقافية أصيلة في توليد المعارف وتأصيل الهوية وتقوية الشعور بالانتماء. وهو يضم مجمل المنجزات المادية والصناعية، والنظم المعرفية والمنظومات الفكرية والأخلاقية التي تشكلت وتكاملت مع الأجيال المتعاقبة، لتشكل وحدة تعتبر الأصل في كل أمة، يرجع اليها كأرضية ثابتة للإنتظام في الحاضر والانطلاق الى المستقبل، وبالتالي فإن التراث يشكل بوحدته عامل تفاعل مع كل ما هو معاصر يتماشى مع الزمن ومتطلبات وحاجيات الإنسان.
لقد تجدد الوعي بأهمية الحفاظ على التراث في عالمنا المعاصر، كونه جزء لا يتجزء من ذاكرة الأفراد والأمم، وهو أمر مرتبط بسياق عالمي موسوم بتحولات كبرى على كافة الأصعدة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والبيئية. إن السعي في الحفاظ على التراث، وتوظيفه عقلانيًّا للاستفادة من منافعه حاضرًا ومستقبلًا، يؤدي إلى ترسيخ الهوية الفردية والجماعية، فالتراث هو محدّد للهوية، التي هي بمثابة “وعي لتقاطع انتماءات تتراتب في ظل انتماء رئيسي”(1)، ولكن مما لا شك فيه أن التراث يحتوي على آفاق إبداعية، تترجم بصريًّا في النتاج الفني عند العديد من الفنانين الإماراتيين. فالذخيرة التراثية الثقافية التي تمتلكها دولة الإمارات العربية المتحدة تعد من ضمن العوامل التي تسهم في التنمية الثقافية الفنية، ومنها عناصر التراث الشفوي والمعنوي والتراث المادي إضافة إلى التراث الفني والثقافي الإسلامي…
راهنية التراث في الفن الإماراتي المعاصر
يعد التراث أهم وثيقة تلامس حقيقة الوجود في محطات الزمن، لكن لا يمكننا معاصرة التراث من خلال الوثائق فقط، لأننا لا يمكن أن نلغي الزمن وجهود الشعوب التي أنتجت هذا التراث، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يمكن أن ننفي جهود الأجيال المعاصرة بالفعل في التراث، بما أنتجت، وليس بما ورثت، وبالتالي ليس المطلوب في الفعل الإنساني، أن يعيد نفسه أو تراثه، ولكن أن يصوغه بشكل جديد، لأن هذه الإعادة لا تجعله معاصرًا، وإنما تعني عقم الأجيال الجديدة لأن تؤسس لحركة فكرية وثقافية تضيف إلى التراث آفاقًا جديدة. ونحن لا يمكننا إعادة الزمن أو التاريخ، حتى نستطيع التحقق منه، لكننا نستطيع تتبع الآثار ودراسة الوثائق التي خلفها لنا الأجداد، ومن خلال تمثلنا لما نرثه، نعاصره، ومعاصرتنا له، تمكننا من إنشائه من جديد.
عند التطرق إلى واقع الفن الحديث والمعاصر في الإمارات، نجد أن الفنانين الإماراتيين ومنذ بداياتهم الفنية استطاعوا مواكبة التطور الحاصل في الغرب، وتبني أساليب ومدارس فنون الحداثة وما بعد الحداثة. لكن هذا الأمر لم يؤد إلى انقطاعهم عن تراثهم؛ فواقع الأمر أن انفتاح الغرب على ثقافات الشرق جعل الفنانين ينتبهون إلى تراثهم المحلي ويتمسكون به.
وبرغم وجود البعض من الفنانين الاماراتيين، الذين حرصوا على اعتماد الطرق الغربية في صياغة أعمالهم وانحازوا إلى هوية ثقافية سائدة ومسيطرة، فالبعض الآخر حاول العودة إلى تراث المنطقة من خلال استلهام الموروث الثقافي الفني والفنون الإسلامية. وقد استلهم البعض التراث الشعبي، واستحضر الحكايات الشعبية إلى جانب الأساطير والعادات والتقاليد الشرقية، والتراث الإماراتي من أزياء وبيوت قديمة وفولكلور، ولجأ الكثير منهم إلى التعبير من خلال أعمالهم الفنية عن القضايا الفكرية والإجتماعية الراهنة…
إن الانعكاسات الثقافية والفكرية للحداثة وما بعدها قد تجلَّت واضحة عند النظر إلى التنوع الكبير في نتاج الفنانين الإماراتيين، وتعكس مدى نجاح واستيعاب الفنان في الإمارات لأساليب واتجاهات الفنون الغربية، وتماهيه مع ما يخص السياقات التاريخية والحضارية التي أنتجته من جهة، وتقديمه رؤيته الخاصة من جهة أخرى، ما يعكس وعيه بخصوصية نتاجه وتراثه، وواقعه المعيش؛ فقد كرست العديد من التجارب شخصية مميزة للفنان الإماراتي ووعيه بأهمية إخلاصه لمفاهيمه الخاصة وموروثه الثقافي وسعيه لتمثله وفق طرق جديدة ومبتكرة.
استفاد الفنانون الإماراتيون من استخدام التراث في أعمالهم الفنية الحديثة والمعاصرة، وابتكار رؤيتهم وهويتهم الفنية التي حملت منابع الشرق العربي والإسلامي ومفرداته والموروث الثقافي الإماراتي من جهة ومفاهيم وأساليب فنون الحداثة وما بعد الحداثة من جهة أخرى، مما ترك لنا مساراً فنياً مميزاً يشير إلى أن الفنان الإماراتي يستطيع أن يعبر عن نفسه وموروثه الثقافي بلغة معاصرة مبدعة. وجدير الذكر ان الحركة الفنية في الإمارات قامت نتيجة لجهود الفنانين الرواد الذين يجمعهم الإحساس بالمسؤولية في الارتقاء بالحركة الفنية في الإمارات، لتواكب ما يحصل من حولها في الخارج، وقد حمل معظمهم على عاتقه نشر الثقافة البصرية وتأسيس الحركة الفنية. وبالنظر الى الحركة الفنية المعاصرة نجد تنوعاً كبيراً في الاتجاهات والأساليب الفنية، وبرغم ولوج البعض إلى أساليب ومفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة، يحضر الموروث الثقافي والتراث المحلي بشكل واضح في تجارب معظم الفنانين؛ مما يضفي الهوية الإماراتية على الفن الإماراتي.
الزين، نزار. تساؤلات حول الهوية العربية، سوريا-دمشق، بدايات، 2008، ص. 217.
المؤسس والرئيس التنفيذي لمؤسسة "التفكير فنياً" للنشر والثقافة والتعليم، مؤرخة وأكاديمية، ناشرة، باحثة وقيّمة فنية، فنانة بصرية، ورئيسة تحرير مجلة "التشكيل". تمتلك سجلًا حافلًا بالإنجازات الأكاديمية والفنية والثقافية، حيث تميزت بإسهاماتها الثرية في مجالات الفنون البصرية، التعليم العالي، النشر، والتوثيق الثقافي.
حاصلة على درجة دكتوراه دولة بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون البصرية وتقنيات الفن، وماجستير في الفلسفة وتاريخ الفن، بالإضافة إلى شهادة ليسانس في هندسة وعلوم المواد.
نشرت العديد من الكتب التي توثق الحركة الفنية والثقافية في العالم العربي، باللغتين العربية والإنكليزية، ومن أبرز أعمالها "الفن العربي بين الحداثة وما بعد الحداثة"، "التراث والحداثة والفن في عيون لبنانية"، "تطور الحركة الثقافية في الإمارات"، "التراث والإبداع"، و"عوامل نجاح الاقتصاد الإبداعي". كما أصدرت موسوعتين هما "فن وتراث وهوية" و"ذاكرة وفن"، حيث توثق الأخيرة بواكير الحركة الثقافية في دولة الإمارات بمختلف مراحلها والجوانب التي واكبت نشأة الحراك التعليمي والفني.
عملت في مجال التعليم الجامعي كأستاذة جامعية ورئيسة قسم الفن والتصميم، وأسهمت في تطوير المناهج وتنسيق البرامج التعليمية، مركزة على الجمع بين الجوانب النظرية والتطبيقية للفنون. أقامت وشاركت في العديد من المعارض الفنية الفردية والجماعية، وشاركت في لجان تحكيم محلية ودولية لتقييم الأعمال الفنية والجوائز، وفي العديد من المؤتمرات الثقافية، وأسهمت بتقييم المعارض الفنية، وتنظيم الفعاليات الثقافية.
حصلت على شهادة تقدير من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، تقديرًا لجهودها في البحث والتوثيق، وتم تكريمها كواحدة من أبرز 100 شخصية فكرية وأدبية وتاريخية ضمن موسوعة "منذ قدموس، نحن بناة حضارة"، دراسة أكاديمية معلوماتية. كما نالت تكريمًا على جهودها التطوعية ودعمها لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية وخدمة الفن والثقافة في دولة الإمارات.
بفضل خلفيتها الأكاديمية وتجاربها الموثقة، تسعى الدكتورة نهى هلال فران إلى توثيق الإرث الثقافي والفني العربي ليكون مرجعًا للأجيال القادمة، مع تركيزها الدائم على دعم المشهد الفني في الإمارات من خلال جهودها التطوعية ومبادراتها الثقافية.