إن جمالية الألوان المشرقة في لوحات الفنانة نجاة مكي تعطينا لحظة خاصة مليئة بالارتياح والفرح، وسرعان ما نشهد في طياتها حركة الحياة وإيقاع الكون، فتطالعنا المرأة الماثلة أمامنا بشموخها وحضورها فتتماهى مع الألوان وكأنها في عرس للطبيعة، ونجدها في بعض أعمالها تستخدم رموز الثقافة الإماراتية، فتجسد ملامح من بيئتها وتراثها، من أصوات البحر، وألوان الخليج ورمل الصحراء، وأقمشة السدو، والأقمشة الملونة والمزخرفة التي تحاك منها ملابس النساء التقليدية التراثية، ونجد أحياناً اختصارات شكلية لهيئات نسائية مجردة ومتكررة في تشكيل هندسي رمزي على شكل مثلث وأشكال أخرى.
تحدثنا د. نجاة مكي من خلال أعمالها عن جمال الحياة والمرأة، لوحاتها نابعة من إحساس مرهف وهي تحمل أبعادا انسانية واجتماعية، وتشير إلى التوازن الرائع بين الإنسان ومحيطه والذي يتكامل معه ليبدع حياة ملؤها السعادة. تعكس أعمالها صورة المرأة بأنوثتها وتجلياتها، وهي غالبا ما تكررها في لوحاتها، تأكيدا على حضورها واستمرارية وجودها، فهي رمز الأمومة والوجود بأكمله.
سيدة السرد
تنقلنا الفنانة نجاة مكي من خلال أعمالها الى عالم سحري، وكأننا وسط أجواء الف ليلة وليلة، وفتنة الحضور الأنثوي، فالمرأة حاضرة لتقص علينا أجمل الحكايات، إن ثلاثية الزمان والمكان والحدث حاضرة في لوحات نجاة مكي، التي ترتكزعلى وحدة الموضوع وصراع الإنسان مع مصيره. فنجاة مكي، هي سيدة السرد في أعمالها، تسطر في طياتها انتصارها من قيود اجتماعية كبلت المرأة في مراحل سابقة.
وهكذا نجد بأن أعمالها تعكس مدى ارتباطها بالمجتمع وتؤكد على أهمية وحضور المرأة. وهنا نستحضر قول مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: “إن المرأة نصف المجتمع…ولا ينبغي لدولة تبني نفسها أن تبقى على المرأة نصف مجتمعها غارقة في ظلام الجهل، أسيرة لأغلال القهر، مقيدة مشلولة الحركة” (39) ، 1وهذا دليل على ان دولة الإمارات العربية المتحدة تعتبر من الدول الرائدة في المنطقة في مجال تمكين المرأة ومنحها المكانة التي تستحق في المجتمع، فمنذ تأسيس دولة الإمارات، سارعت الحكومة في الاهتمام بشؤون وقضايا المرأة حيث شكل تأسيس “الاتحاد النسائي العام” عام 1975 بمؤازرة وتشجيع من مؤسس دولة الإمارات الشيخ زايد مع رائدة العمل النسائي الشيخة فاطمة بنت مبارك، المدماك الأول لتمكين المرأة، وتفعيل دورها في المجتمع. ونذكر هنا دورها البارز في مجالات عدة، فعلى الصعيد السياسي، أضحى عدد النساء في حكومة الإمارات خمس وزيرات، وبرزت أيضاً في المجال الديبلوماسي، والاقتصادي، وسوق العمل بعد تأسيس مجلس سيدات الأعمال في الدولة، الى جانب مجالات التربية والتعليم وغيرها. تقول نجاة مكي: “المرأة لها حضور مباشر. وعلى الرغم من اختلاف الثقافات واللغات، فإنها تبقى كشجرة نخيل باسقة. تضرب جذورها في أعماق الأرض، متفائلة صبورة مكافحة محبة، فهي اللون بكل ما فيه من قوة وكثافة وعنفوان، وهي الخط بما يملك من إيقاع وامتداد وشموخ، تنظر الى المدى، تتطلع الى المطلق، فكأنها الظل الذي يؤوى إليه في قيلولة الصيف، وهي النور الذي يشع، فيمد العالم بالمعرفة…من خلال هذه العناصر يكمن حضور المرأة، بقامتها الشامخة في رمزية أسطورية” 2
د. نجاة مكي :
البحث والتجريب المستمر
لجأت الفنانة نجاة مكي منذ بداياتها الى استخدام مواد وتقنيات مختلفة في اعمالها النحتية (البلاستيك، الحديد، الزجاج، الفيبركلاس…) وايضاً في لوحاتها (ألوان زيتية، اكريليك، مواد طبيعية، نسيج، ورق، كولاج، أقمشة سدو وغيره)، وقد أسهم ذلك بخلق ميزة فنية وهوية إبداعية خاصة بها. وقد استخدمت في معرضها الشخصي الذي أقيم عام 1987، “الألوان الفوسفورية”، في أعمالها الفنية التي عرضتها في غرفة مظلمة، مع وجود مصدر ضوء خاص لتلك الألوان، فتبرز في العتمة وتشع نوراً، ، الامر الذي اعطى للمشاهد تجربة بصرية مختلفة عن السائد في مشاهدة العمل من خلال الإضاءة وطريقة العرض، ولا تزال الفنانة تستخدم هذه التقنية التي تميزت بها، وقد قدمتها بأسلوب مبتكر خلال معرضها الشخصي الأخير “أنوار القلوب”، الذي أقيم في متحف الشارقة للخط، على هامش فعاليات مهرجان الفنون الإسلامية، الدورة 24، وفي معرضها الشخصي أيضاً المعنون “أكتب بالألوان” في غاليري “عائشة العبار” في دبي، الذي احتضن أعمالها الفنية (لوحات، تجهيز، منحوتات)، التي تميزت بألوانها الزاهية والمشرقة، وعرضتها تحت ضوء الأشعة فوق البنفسجية، بهدف منح الزائرين للمعرض فرصة للتفاعل وللشعور بالبهجة اللونية واختبارها، وقد أحضرت الفنانة الى صالة العرض شبكة صيد قامت بطلائها بالألوان الفوسفورية، وعلقتها بسقف المعرض لتتدلى كشلال، يفيض ليملأ الأرض خيرا وجمالاً، فهو يرمز الى الصراع مع الطبيعة، فان مهنة صيد السمك تعود ببدايتها، كما يؤكد الباحثون، إلى العصر الحجري، وبقيت كما هي، لكنها اختلفت بضرورتها ما بين الحاجة الملحة للحياة، والمتعة في الوصول إلى الهدف وارض النجاة.
ان إعطائها الألوان الزاهية دليل على انتصار الانسان على العقبات والقدرة على التحدي والتغلب على الصعاب واستمرار الحياة، فقد تزامن ذلك المعرض مع جائحة “كورونا ، وعبرت عن تلك المعاناة والفترة العصيبة فجاء المعرض بمثابة دعوة للنهوض مجددا من خلال الفن والقوة الجمالية للون وتأثيره على النفس والادراك البصري، ارادت الفنانة من خلال هذا المعرض بان يتوحد المشاهد مع اللوحة، ويتلمس عمق تجربتها الفردية أمام أثر اللحظة الآنية التي عايشها العالم في فترة الأزمة الصحية المتعلقة بـ “كوفيد ـ 19”، تقول : “ أرسم إيقاع البشر في خطوط اللوحات، ومشاعر التوتر والقلق، وتأثير ضربات القلب، وحالة عدم التوازن والاضطراب التي مررنا بها جميعنا، يوازيها محاولة العالم لاكتشاف الدواء، وتخبط الأقاويل في بداية الأزمة، دونما حل جذري، ما جعل الناس تسلم بقدرة إلهية بإمكانها إن تخلصهم من هذا الوباء”. غالبا ما تتضمن أسطح لوحات د. نجاة عناصر ومفردات تتكرر باستمرار، فنجد الدوائر الصغيرة والخطوط المستقيمة والمنحنية، وكأن في تكرارها نوع من التدوين والإصرار على معرفة المجهول وتوقا للوصول الى بر الأمان. وترمز الدائرة عند نجاة مكي الى الحياة الازلية والى الكمال والى صفاء الروح التي منحت للإنسان.
جسدت د. نجاة، تداعايات “كوفيد 19” أيضا في عمل فني تفاعلي، عرض في متحف الشارقة للفنون، خلال المعرض السنوي لجمعية الامارات للفنون التشكيلية، 37، المعنون “ترابط”، حيث عرضت 19 عشر قطعة معدنية تتدلى من السقف، كل قطعة تم ربطها باسلاك، كرمز على العجز، اصطفت مع بعضها البعض، فوق زجاج يعكس المدى اللامتناهي مما يضاعف عدد القطع، كنوع من اجتياح للصالة، ولحياة الانسان، ان لمس أي قطعة يصدر ضجيجا وحركة غير متناسقة، فكوفيد لم يمر بهدوء في حياتنا، حيث ترك تداعيات كثيرة، ويبرز هذا العمل الفني التفاعي مدى قدرة الفنانة في التعبير عن الواقع والتجاوب مع الحراك الإنساني، وابتكار أساليب وطرق فنية جديدة، ويشكل هذا العمل كما تشير الفنانة، دعوة لكل انسان في ان يبتكر السبيل المناسب له في كيفية التعايش، مستدعيا تفكيره واحساسه، وتفاعله مع العمل الفني. حيث ضجت الصالة بايقاع تفاعل واصطدام القطع مع بعضها البعض.
ان الإيقاع عنصر مهم في اعمال نجاة مكي، فهي تستمد الإيقاع من دقات القلب، ومن الطبيعة، لكونه يرتبط بالمسألة العاطفية. ويرتبط بالأم وبالشعور بالأمان. وكأن الفنانة تريد ان تحتضن العالم بأعمالها وتوصلهم الى بر الأمان وتقدم لهم العلاج لمختلف الازمات من خلال الفن. ان الفن عند د. نجاة مكي هو انعكاس لروح الوقار والهيبة. وهو يحوي شعورا بالعاطفة القوية، والنغمة الموسيقية، في كل خط من خطوطه.
1.“لمحات من حياة زايد بن سلطان آل نهيان”، إبراهيم محمد بوملحه، ص. 227 جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، 2011، دبي، الإمارات.
2.– نجاة مكي: “ايقاعات ملون”، ص: 2، إدارة متاحف الشارقة، 2011.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي