خطوات متمردة
ستكون العودة الدائمة إلى مارسيل دوشامب (1887 ــ 1968) لازمة كل حديث عن الفنون المعاصرة. فالفنان الفرنسي فعل كل شيء من أجل ينزع عن نفسه ثياب الفنان الحديث ليكون معاصرا حتى أن بابلو بيكاسو كان فد نظر إليه باعتباره مخربا ولم يكن حزينا لوفاته. لقد كان خطأً. هذا ما قاله بيكاسو مخترع الحداثة الفنية في الرسم وإن كان بول سيزان أباها.
يمكن مقارنة دوشامب ببيكاسو. ذلك ما يغيض الأخير. دوشامب كان هو الآخر مخترعا لكن في مكان آخر. مكان لا يمت بصلة إلى الرسم بل ينفيه بالرغم من أنه كان رساما عظيما أيضا. غادر الرسم إلى غير رجعة لأنه آمن بمبادئ وأصول الدادائية ولم يرغب في أن يكون سرياليا مثلما فعل يعض الدادائيين. ولكن “دادا” دوشامب كانت حدثا بناء. لقد اخترع من خلالها فنونا جديدة ستكون نائمة كما يُقال تحت الوسادة. تستيقط بين حين وآخر وسرعان ما تعود إلى النوم. ذلك ما حدث مع الالماني جوزف بويز وفنه الاجتماعي ومع حركة فلوكسس منتصف ستينات القرن الماضي وجماعة “الفن واللغة” التي تأسست في بريطانيا عام 1968.
اخترع دوشامب الفنون المعاصرة ولكن ما المقصود بالفنون المعاصرة؟ تغير سبل الرؤيا لكل فن من تلك الفنون تسميته.
“فن المفاهيم” “فن الحدث” فن الأرض” “فيديو آرت” “فن التجهيز” “فوتوغراف” “الأداء الجسدي “والقائمة مفتوحة على تمرد كان هدفه الاطاحة بالجمال انتصارا للفكرة. ما لم يحلم به الدادائيون انجزه دوشامب في حياة واحدة. وهو ما يستحق بسببه أن يكون أيقونة للفنون المعاصره ولكن تأثيره تأخر كثيرا. لم يكن العالم مستعدا في ستينات القرن الماضي لقبول جوزف بويز الذي جرى طرده من أكاديمة دوسلدورف بتهمة الإساءة إلى النظم والتقاليد التعليمية فيها. كان يجب الانتظار عشرين سنة لكي تتحول الفنون المعاصرة إلى مجموعة من الحقائق المعترف بها بصريا. أن يكون الفن معاصرا معناه أن يكون فن اليوم. ولكن فكر ما بعد الحداثة فرض معايير لا تستند إلى تحول ضروب الذائقة الجمالية بل تتعدى تلك المسألة إلى تغير عظيم في سبل الرؤية وطرق التفكير في الفن. لقد توفي جوزف بويز عام 1986 وهو المولد عام 1928 بعد أن أحدث هزة قد تفوق الهزة التي أحدثها دوشامب الذي سيُنظر إليه من جهة كونه المؤسس. كانت نبوءة بويز قد ذهبت به إلى نيويورك حين قدم عمله في الاداء الجسدي “أميركا تحبني وأنا أحب أميركا” هناك. كانت نيويورك هي عاصمة الفن الجديدة وكانت من وجهة نظره المدينة الأكثر تقبلا للفنون المعاصرة بالرغم من هجائه السياسي لأميركا.
في الطريق إلى العالمية
وبعكس ما حدث على مستوى العلاقة بالحداثة الفنية فإن الفنان العربي لم يتأخر في استلهام قواعد وأصول وتجليات فكر ما بعد الحداثة من خلال الفنون المعاصرة. فبعد عودته من الدراسة في بريطانيا عام 1984 باشر الاماراتي حسن شريف (1951ــ 2016) في التبشير بالتحول الذي تمثله الفنون المعاصرة باعتبارها فنون اليوم فأسس جماعة الخمسة التي ضمت إلى جانبه “محمد كاظم، حسين شريف، محمد أحمد إبراهيم وعبد الله السعدي”
كانت تلك الجماعة صيغة جماعية لاتساع دائرة معرفة جديدة بالفن تبنت رؤية مختلفة لمكانة الفن اجتماعيا من جهة ومن جهة أخرى لعلاقة الفنان بالأشياء من حوله وبالأخص منها ما هو شائع واستهلاكي ومهمل ومنبوذ باعتباره مادة غير فنية.
أعادت الجماعة النظر في طريقة النظر إلى الفن من جهة قدرته على احداث صدمة بصرية كما أنها غيرت تقنياته من خلال استعمال مواد لم تكن تحسب على المواد الفنية. وإذا ما تتبعنا الظاهرة التي قادها حسن شريف بشغف الفنان وهمة الناقد “المترجم” سنلاحظ اقبالا غير معهود بين الفنانين الخليجيين في السنوات اللاحقة على الممارسات الفنية المشاغبة والمشاكسة التي تنتمي إلى الفنون البصرية المعاصرة. وهو ما ظهر من خلال تجارب الكويتية منيرة القادري
والسعوديين فيصل سمرة وعبد الناصر غارم وأحمد ماطر والاماراتية ابتسام عبد العزيز والبحرينيين راشد آل خليفة وأنس الشيخ ووحيدة مال الله وزهير السعيد ولقد فتحت تلك الممارسات أبواب العالمية أمام عدد غير مسبوق من الفنانين العرب كما هو حال “منى حاطوم، منير فاطمي، ديانا الحديد، لميا جريج، قادر عطية، غادة عامر، صادق الفراجي، الفاضل، أكرم الزعيتري، وليد صادق ولارا بلدي”. ما لم يحققه الفنان العربي عبر أكثر من مئة سنة استطاع أن يصل إليه في غضون سنوات قليلة.
ابتسام عبد العزيز وعالم الأرقام
“لا أجد في الشوارع ما يشدني سوى الأرقام” بناء على تلك المقولة يبدو الاختزال لدى ابتسام عبد العزيز (1975) في ذروته. ولأنها لا تكترث بالصور فإنها تروي سيرة حياتها من خلال مقاطع مستلة من الواقع الذي تعيشه من غير أن يعني ذلك أن تلك المقاطع تنطوي على إلهام بعينه. بجوار الأرقام التي كانت تراها الفنانة أثناء جولاتها وتصنع منها معادلات رياضية كانت هناك الأشياء التي حرصت على جمعها باعتبارها لقى ذات دلالة. زجاجات فارغة وعلب والعاب أطفال وبقايا أخشاب وسواها من المواد المهملة التي تم الاستغناء عنها.
تقول الفنانة “أقوم بجمع تلك المواد وأغسلها وأنظفها. حينها أشعر أنني أقوم بغسل جثث مرمية. وأقوم بعد ذلك بطلاء تلك المواد باللون الأبيض وأدخلها في العمل الفني”.
ما أقدمت عليه ابتسام عبد العزيز يعد نوعا من المجازفة من أجل تأثيث عالم لم يكن مأهولا من قبل بالرغم من أن مواده كلها قد تمت استعارتها من عالمنا. هذه فنانة تعيد للحظات المنسية اعتبارها وكرامتها.
تفكر الفنانة في حياة موادها لا في المواد نفسها.
تلك حياة تهبنا فكرة عن البيئة التي احتضنتها ونفتها حين تم استهلاك مفرداتها التي لا تزال من وجهة نظر الفنانة تنطوي على سحر خاص.
وبسبب اتساع دائرة ممارسة الفنون المعاصرة بين الفنانين العرب فليس المطلوب نقديا تقديم جرد بكل أسماء الفنانين العرب المعاصرين. لكن يمكن التعرف على بعض ملامح تلك المحاولة الفذة من خلال تسليط الضوء على محاولات أكثر الفنانين شهرة على الأقل. ومن وجهة نظري فإن الفنانين العرب كانوا قد فهموا جيدا ما معنى أن يكون الفن معاصرا. لذلك يمكن النظر إلى تجاربهم من جهة كونها مساهمة جادة ورفيعة المستوى في تحرير الوعي الفني العربي من سلطة الذائقة الجمالية القديمة. ولم تكن تلك الفكرة لتنطوي على أي نوع من العداء لتلك الذائقة. سيكون علينا أن نعترف أن الفنان العربي كان شجاعا وجريئا حين اكتشف أنه قادر على مداعبة مزاج العصر والوقوف أمام أعاصيره.
منى حاطوم فنانة بهوية
حطمت منى حاطوم (1952) صنم هويتها المحلية بالرغم من حاجتها إلى أن تروي حكاية ما لأحد ما. صارت فنانة عالمية وهي اليوم اسم لا يمكن أن يُغفل في عالم الفنون المعاصرة.
يعتقد البعض أن ادراج اسمها في لائحة الفنانين البريطانيين هو السبب الذي يقف وراء اهتمام المتاحف واللقاءات الفنية العالمية بأعمالها. ذلك ليس صحيحا تماما. تملك حاطوم أسلوبا يتجاوز الشخصي إلى العام من خلاله تتحول القضايا الشخصية إلى قضايا ذات تأثير شامل.
ليس يسيرا أن يخترق فنان عربي حاجز التصنيف العالمي ليصل إلى قوائم الفنانين المعاصرين الأكثر شهرة. هناك خبرة السوق التي ليس في إمكان أي كان أن يحوز عليها كما أن المتاحف لها مقاييسها التي تقع خارج ما هو متداول من مفاهيم الفن.
منى حاطوم فلسطينية الأصل غير أنها بريطانية الهوية. تلك نقطة لصالحها. في الكثير من الموسوعات الفنية تُقدم حاطوم باعتبارها فنانة بريطانية. على مستوى الفنون المعاصرة لم تعد الهوية ذات معنى. غير أن حاطوم كانت تصر على هويتها الفلسطينية في معالجاتها ذات الطابع المباشر. فنانة بقضية. ذلك أمر سيميزها عن سواها من فناني الفن المعاصر. قضية هي في الوقت نفسه هوية.
راشد آل خليفة وما بعد التجريد
عام 2010 أقام راشد آل خليفة (1952 البحرين) معرضا بعنوان “اللوحة المحدبة: منظور جديد” ضم المعرض خمسين لوحة. يقول راشد في وصف ما دفعه إلى الانتقال إلى تلك المرحلة التي اعتبرها البعض قفزة في اتجاه المجهول “لقد تغيرت كثيراً، وأنا سعيد جداً، لأن هذه التغييرات تساعد الفنان على التحرك والتطور، ومن لا يفعل ذلك يبقى مكانه، وهذا خطأ، لأنه على الإنسان البحث عن كل ما هو متطور وجديد، وإذا ما نظرنا في تاريخ الفنانين الكبار، مثل بيكاسو، نرى انه استعمل كل ما يستطيع من أساليب الرسم وأدواته، فرسم على الخشب والسيراميك والورق وحتى أنه استعمل القهوة مادة للرسم. الإبداع في استعمال الوسائل الفنية ليس له حدود، والقاعدة تقول: ابحث… ابحث… ثم ابحث، ولا بد من أن تجد شيئاً”.
تلك هي الخلاصة التي انتهى إليها الرسام وهو ينتقل بشكل حاسم إلى التجريد الشامل والكامل. أربعون سنة من الرسم كانت كافية لكي تفقد الطبيعة مسوغها للبقاء باعتبارها ملهما مقيما في العمل الفني. ولا يقع ذلك التحول إلا بناء على حاجة داخلية املتها ظروف علاقة الرسام بحرفته. قد يُقال “إن راشد تغير” هو ما ورد في كلامه الذي يعود إلى أيام المعرض الذي أعلن فيه عن تحوله النهائي. ولكن المتابع لتحولاته الأسلوبية لابد أن يكون على يقين من أن الخيوط لم تنقطع بين ما يفعله اليوم وبين ما كان يفعله بالأمس. هذا فنان ينقب في تحولات المادة بكل ما تنطوي عليه تلك التحولات من سحر وإثارة مثلما كان يفعل تماما حين يتأمل تحولات المرئيات.راشد آل خليفة هو اليوم أكثر الفنانين العرب المعاصرين تجريبا.
لميا جريج وزمن الحرب
إن كانت لميا جريج (1972) قد ظهرت فنيا بعد الحرب الأهلية (1975 ــ 1990) فإنها لا تجد معنى لوجودها من غير النبش في وقائع تلك المرحلة الغامضة التي اقتتل فيها اللبنانيون وفي ذهن كل طرف منهم صورة للبنان مختلف. “سجلات لأزمنة ملتبسة” هو عنوان معرضها الذي أقامته عام 2013 في بيروت. ذلك المعرض هو محاولة لتقديم الماضي والمستقبل على طبق واحد وهو أيضا محاولة للبحث عن الزمن المفقود.
“هل كنا نخسر جزءا من ذاكرتنا الجمعية في كل لحظة حرب؟” ذلك سؤال ستتمسك به جريج من غير أن تجد له جوابا. لا في الماضي ولا في المستقبل. كلاهما غائمان وما من أحد يقبل أن يكون واضحا وصريحا أمام شفافية التاريخ. هل قال أحد من اللبنانيين “لقد أخطأنا”؟ جريج تقول “إن الجميع قد أخطأ” ولكنه الخطأ الذي لا يصنع تاريخا. هناك أمر مفقود في المعادلة. قد يكون رقما أو كلمة أو إشارة غامضة. لا تزال بيروت التي تلاحقها الفنانة ب”الكاميرا الخفية” تقيم في أزمنة رمادية ملتبسة. حُرمت المدينة التي تعرضت للخراب من تسمية المخربين بأسمائهم. حين أعفي الجميع من الذنب. لم يعد هناك قاتل أما القتيل فإنه لا يزال مقيما في لحظة القتل. بالنسبة لجريج فإن تلك اللحظة هي لحظتها التاريخية. ليس لأنها تتعلق بالفقد والخسران ولا لأنها تكتسب قيمتها من خلال يقظة الحق المغتصب بل لأن كل ذلك صار جزءا من الارشيف. ارشيف شعب صار التعرف عليه والتعريف به لا يتمان إلا عن طريق الذاكرة باعتباره تراثا شعبيا.
صادق الفراجي وصورة الماضي
كل ما يقوم به صادق الفراجي (1960 بغداد) هو محاولة وصل ما انقطع من غير أمل في الوصول إلى الصورة التي تكتمل من خلالها الفكرة. لذلك تحتل الحكايات المقتضبة المأسورة تحت قناع سميك من العنف جانبا مهما من عالمه بل أنها تشكل الخيط الخفي الذي يقوده إلى المكان. هناك حيث لا يزال قرينه يقيم.
يبحث الفراجي عن متلق يشاركه في محاولة الخروج من متاهة الذاكرة وهو غالبا ما يخير ذلك المتلقي بين الصور والأفلام والكتابات والحكايات والأصوات التي يصنعها عن طريق تخيلها.
سيكون الحاضر عامرا بالرؤى مثلما كان الماضي الذي مر كما لو أننا لم نعشه. يصر الفراجي على الإمساك بذلك الماضي بقوة لكي نصدق أن كل شيء يمكن أن يكون جديدا عن طريق الفن.
منيرة القادري وخيال الصحراء
تجمع منيرة القادري (1983 الكويت) في فنها بين الإيحاء الروحي واستلهام الطبيعة التي لا يشكل وجودها حدودا فاصلة بين الإنسان ومحيطه. فالفنانة التي تعرف على سبيل المثال ما الصحراء بكل تأثيراتها النفسية والبصرية يمكنها أن تنتمي بطريقة استفهامية إلى الكائنات الخيالية التي مرت بتلك المساحة التي هي أقرب إلى أن تكون فكرة عن المطلق.
وإذا كانت القادري قد سعت إلى أن تطبق عناصر الفن الاجتماعي على مجتمعها بشكل خاص والمجتمعات الخليجية بشكل عام فلأنها وجدت أرضا خصبة ساعدتها كثيرا على الربط بين الفكرة والصورة. وهي علاقة جدلية تجمع البيئي بالاجتماعي بالسياسي بالثقافي في صياغة فنية صادمة. لقد شكلت تلك العلاقة مصدر تحد بالنسبة لها.
بالنسبة لمنيرة القادري فإنها لا تنظر إلى الصحراء بعينين غربيتين استشراقيتين غير أن نزهاتها هناك لم تكن تخلو من خيال غربي يعلو بفطنتها المحلية إلى مستويات الكشف المتجدد. ذلك نوع من المعرفة الذي لا يمكن اهماله أو النظر إليه جزئيا. فالفنانة لا تبحث في الصحراء عن مفردات تراثية بقدر ما تسعى إلى الاتحاد بالمشاهد الكونية التي تجمع الكائن البشري بالطبيعة. تلك محاولة لإحياء علاقة عميقة يعثر من خلالها الطرفان على أسباب حياتيهما في الوقت الذي يتحدان فيه.
رندا مداح وسرديات المكان
ولدت رندا مداح في قرية مجدل شمس بالجولان المحتل عام 1983. بعد أن أنهت دورة في النحت والرسم في مركز أدهم إسماعيل بدمشق عام 2003 انتقلت إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق لتدرس النحت ما بين عامي 2005 و2007. انضمت بعدها إلى دورة أقيمت في القدس لتعلم فن الجرافيك. توزع نتاجها الفني بين الرسم والنحت وصناعة الأفلام.
اقامت الفنانة معرضها الشخصي الأول “ربطة شعر” برام الله عام 2016. تضمن ذلك المعرض منحوتات نُفذت بالبرونز والطين والجبس. اما معرضها الثاني وكان بعنوان “ترميم” فإنها اقامته بباريس عام 2018 وتضمن اعمالا نُفذت من خلال فني الفيديو والفوتوغراف إضافة الى انجاز اعمال اسمنتية. سلطت الفنانة في ذلك المعرض الضوء على مقاربة الهدم والترميم. هدم المكان واقعيا والفشل في محاولة إحيائه في الذاكرة. أقامت أيضا معرضا من غير عنوان في قاعة “اوروبيا” بباريس أثناء اقامتها الفنية هناك. كان ذلك المعرض مخصصا لأعمال نُفذت بالرصاص على الورق. حصلت رندا على جائزة الامتياز من مؤسسة تاكيفوجي اليابانية. تركز مداح في أعمالها على الصدمة التي تنطوي عليها سرديات العلاقة بالمكان الذي تم اخفاؤه بطريقة مقصودة.
عبد الناصر غارم والخلاصات الغاضبة
عبد الناصر غارم (1973 السعودية) الذي ذاعت شهرته يوم بُيع أحد أعماله “رسالة رسول” من خلال مزاد كريستيز دبي ب “842500” دولارا اختار أن يكون فنانا مفاهيميا، بما لا يدع مجالا للشك في عزوفه عن الدخول إلى سوق الفن من جهة استرضاء الذائقة الجمالية السائدة. من الواضح أنه لا يعرض أعماله الفنية من أجل أن يبيعها.
على طريقة الألماني جوزيف بويز يتبع غارم فلسفة “الفن الاجتماعي” وهو أسلوب في التفكير الفني يقف ضد انفصال الفن عن مشكلات الحياة المباشرة غير أنه لا يصف تلك المشكلات بشكل مباشر على طريقة الواقعية الاشتراكية بقدر ما يحاول الوصول إلى خلاصاتها من خلال مشاهد صادمة يغلب عليها الغضب. وهو ما يوحى بأن ذلك الأسلوب لا يدير ظهره للسياسة بوجهها النقي، من غير التورط في مزادها.
غارم يمثل شريحة جديدة من الفنانين في المملكة العربية السعودية تفكر في الفن في إطاره العالمي. غير أن المفاجئ والمريح في الأمر أن أولئك الفنانين وقد استوعبوا “العالمية” بكل شروطها صاروا يلوحون ب”محليتهم” وهي قوتهم الفكري والجمالي الذي يمكن أن يقدموا خلاصاته إلى العالم.
فيصل سمرة وحكاية اللاشيء
“أريد أن تتحلى مواضيعي بمداخل وطبقات متعددة وأن تقرأ بطريقة حارقة ومباشرة ولكن أيضا بطريقة فلسفية روحية” يقول فيصل سمرة (سعودي ولد في المحرق البحرينية عام 1956). في معرضه اللندني “بناء. هدم. إعادة بناء” يظهر الفنان في فيلم وهو يحطم كرسيا، وهو رمز الحكم. وإذا ما كان في معرضه الاحتباس الحراري قد سخر مما سمي بالربيع العربي فإنه في ذلك المعرض ينهي الحكاية الرسمية بمشهد تحطيم الكرسي فلا شيء يبقى. لا شيء من شأنه أن يشير إلى السلطة. وليس هناك سوى الفوضى.
ما لا يمكن رؤيته وسط أكاذيب السياسة يؤكده الواقع. لقد سقطت أنظمة الحكم غير أن فكرة السلطة سقطت معها ولم يعد هناك شيء. يقود الفنان قطيعته من الماضي إلى المستقبل مرورا بالحاضر. يحلل سمرة ما جرى للعراق منذ عام 2003 فينتهي إلى ذلك اللاشيء الذي توقعه ولن يكون ذلك اللاشيء سوى حطام كرسي.
رائدة سعادة بطلة أفلامها
ولدت رائدة سعادة عام 1977 في قرية أم الفحم بفلسطين. درست الفن في اكاديمية بتسلئيل بالقدس وحصلت على شهادة الماجستير. عام 2000 فازت بجائزة الفنان الشاب التي نظمتها مؤسسة عبد المحسن القطان بلندن.
توزع اهتمامها الفني بين فن التجهيز والإنشاء والأداء الجسدي وصناعة أفلام الفيديو والفوتوغراف.
وهو ما أغنى تجربتها في النظر إلى العالم الخارجي من جهة القدرة على تحويله إلى مفاهيم عبر مزيج متنوع من التقنيات. فهي تمزج على سبيل المثال بين الأداء الجسدي وفن الفيديو حين تكون بطلة أفلامها وهي أيضا تمزج بين الفوتوغراف والاداء الجسدي حين تكون موديلا لصورها التي غالبا ما استعارت رؤى الآخرين لتجري عليها عمليات إزاحة تكون بمثابة تأويل شخصي معاصر.