في أول جملة من كتاب «الفلسفة الخالدة»، يقول ألدوس هكسلي بأن ليبنتز هو أول من استعمل صيغة الفلسفة الخالدة (Huxley, 1947, p.1)، أو بتعبير آخر «الفلسفة الدائمة». غير أن العبارة وردت أصلًا عند الفيلسوف الإيطالي أوغستينو ستويكو (Agostino Steuco) في عنوان كتاب أصدره عام 1540م. نحن في بداية عصر النهضة الإيطالية التي أحدثت رجَّة كبيرة في الوعي الأوروبي بالأفول التدريجي للعصر الوسيط، وعودة الإنسان إلى الضَّوء بعد أن حجبته الآماد اللاهوتية الطويلة. في هذه الإرهاصات الأوَّلية التي شمَّر فيها بعض الفلاسفة من طينة فيتشينو (Ficino) وجيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (Pico della Mirandola) عن السَّاعد بحثًا عن الإنسان الذي تلاشت صورته بسبب اللاهوت السّلبي للعصر الوسيط، والذي ينبغي البحث عن صورته من جديد في «اللاهوت الأصلي أو الحنيفي» (Prisca theologia)، أي النظر في الحكمة المتعالية التي تواترت في الزمن وفق تعيُّنات محليَّة هي في الوقت نفسه مطابقة ومختلفة، تحتفظ بالتَّقاليد وتتجاوزها في الوقت ذاته، تبعًا لجدلٍ كشف هيغل عن طبيعته: «النَّسخ» (Aufhebung). إن الحكمة المتعالية وشقيقتها الفلسفة الخالدة، لا يمكن حدسهما تبعًا للزَّمن الفيزيائي أو «كرونوس» الذي جعل ممكنًا كل القيم التي بُنيت عليها الحداثة، وعلى رأسها فكرة التَّقدُّم والعقل، بل وفق فكرة الزَّمن الخالد أو «أيُّون» (aiôn) التي تنخرط فيها بعض التيَّارات والتوجُّهات، وأعني بها على وجه التحديد التصوُّف والتفكيك (تجلٍّ من تجليَّات ما بعد الحداثة)، الذين يشتركان في أمورٍ كثيرة سنُبيّن بعضها وفق الفكرة النَّاظمة للفلسفة الخالدة.
1. الطيَّة، واللانهائي، والباروك
لماذا كان هكسلي يعتقد بأن الفيلسوف ليبنتز هو أوَّل من صاغ عبارة «الفلسفة الخالدة»؟ كان ليبنتز في الحقيقة محطَّة من هذه الفلسفة المتواترة عبر الزَّمن الأيُّوني، وهو نُسخة حديثة عن الكاردينال نيكولا الكوزي (Nicolas de Cues) صاحب «الأكثر» في «الأصغر» والذي ترجمه ليبنتز في الطيَّة أو «المونادا» (الذرَّة الرُّوحية) التي تحمل في ثناياها جماع العالم وأشيائه المتناثرة. إنها الطيَّة المفتوحة على اللانهائي، مثل المرايا المتقابلة والتي ينعكس فيها الشيء إلى ما لانهاية (Deleuze, 1993, p.3-4). ليست «الطيَّة» هنا سوى الوجه الآخر لما هي عليه الفلسفة الخالدة؛ إنها الاسم الآخر للباروك المفتوح هو الآخر على النّهائي والسَّرمدي، والذي يستثمر في الاقتصاد العاطفي والاستشعاري، بالموازاة، وأحيانا في تقابلٍ مع العقل، قيمةً من قيم الحداثة. الباروك هو قيمة ما بعد حداثية، حتى وإن كان قد تقيَّد زمانيًا بفجر الحداثة باكتشاف أمريكا (1492م) إلى غاية غسق الحداثة مع الثورة الفرنسية (1789م)، أي قرابة ثلاثة قرون.
لكن الباروك لا يُفكَّر فيه بمنطق الكرونوس، الزَّمن الفيزيائي والمتعقَّل والمتسلسل في حقبٍ أو عصور، بل يُفكَّر فيه بنظام الأيُّون، الزَّمن الخالد والمحدوس والمتنقِّل بطفرات وتحوُّلات، مثل الطيَّة التي يلتقي فيها نائيها بقاصيها، ويتواقت فيها أعلاها بأسفلها أو صغيرها بكبيرها، تبعًا لقاعدة الكوزي حول «تواقت النقيضين» (coincidentia oppositorum) وقبله صيغة ابن عربي «علم تآلف الضرَّتين». الأيُّون الباروكي هو الطاقة الحيَّة المنتشرة في تلافيف الزَّمن وصفائح النُّصوص والأفكار المتراكبة؛ فهو يخضع إلى «منطق الثقافة» (Lambert, 2004, p.8) الذي يعني مبادئ التحوُّل والطفرة والطيَّة، مسار «تكتوني» يقول لامبير، لأنه تركيب ثقافي وتوريق حضاري، يكشف عن مضامين حيَّة وخالدة تتجسَّد محليًّا في كل فترة زمنية بأصالتها وفرادتها وعطائها الآني. هذا التَّوريق الحضاري يُبرزه بشكل جليّ منطق «النص» الذي يشتغل جيولوجيًا بتراكُب صفائح نقدية ونظرية فوق بعضها بعضًا عبر التَّسلسل الزَّمني الذي يتطلبه الكرونوس. لكن ألا يتسلَّل الأيُّون بين طيَّات الكرونوس تعبيرًا عن الحكمة الخالدة العابرة للأزمنة والأقاليم؟
2. النَّص، والنَّسيج، والطَّبقات الجيو-نصيَّة
إحدى الأخطاء التي انجرَّ عنها سوء فهم التَّفكيك وإلحاقه بنوعٍ من الهدم والتَّخريب، هي عدم الوقوف مطوَّلًا عند القيمة الأنطولوجية والجمالية لفكرة «النَّص». لأن النَّص لا يقول فحسب القيمة الدَّلالية والسّيميائية والثَّقافية لما يتجسَّد في الكتابة من خطابات وإشارات، بل يُعبّر كذلك عن عمليَّة معقَّدة من التَّراكم الجيولوجي والتَّداخل النسيجي. النَّص هو نسيج من العلامات (tissu, fabric)، لأن في جذره اللاتيني «textus» يمكن الوقوف على تداخل الخيوط وانتظامها وفق مخطَّطٍ من التَّقطيع والانثناء، شبيه بتصميم الأزياء. عملية «القصّ» بالمعنى المزدوج في التقطيع والسَّرد، هي عملية تنتهي بخلق شيء جديد انطلاقًا من المادَّة الأوَّلية للقماش. يُشير دريدا في «صيدلية أفلاطون» إلى هذا التَّراكب النَّصي الممكن تسميته بالجيو-نصي بهذه الصّيغة: «إنَّ حجب النَّسيج يمكنه أن يستغرق قرونًا عديدة في حلّه. ينطوي النَّسيج على نسيج آخر ويستغرق حلّه قرونًا عديدة بإعادة تشكيله كجسم حيٍّ […] لا يتعلَّق الأمر بالتطَّريز، إلا إذا ما اعتبرنا أن معرفة التَّطريز هي أيضًا أن نتمكَّن من متابعة الخيط الممدود» (دريدا، 1998، ص13). ومتابعة الخيوط المنسوجة هي متابعة الأفكار المصنوعة، ونظام النَّص هو على شاكلة نظام العقل، يقوم على المتاهة والتَّشعُّب والتَّداخل والتَّراكب، وهي كلها قيم باروكية بامتياز.
يضيف دريدا في موضع آخر: «ما نسميه “التَّفكيك” يخضع بلا شك إلى مقتضيات التَّحليل، في الوقت نفسه مقتضيات نقدية وتحليلية. يتعلَّق الأمر دائمًا بفكّ أو نزع التَّرسُّب أو حل أو تنقيع الرُّسوبيات والأشياء المصطنعة والفرضيات والمؤسسات» (Derrida, 1996, p.41). في النص الأول برز دريدا «نسَّاجًا»، وفي النص الثاني «جيولوجيًا»، ينزع الرُّسوبيات النَّصيَّة المتراكمة بحثًا عن الأصول الأولى التي هي ليست في ماضٍ سحيق، مغلَّف بغبار الزَّمن والصِّراع، بل في حاضرٍ ينفلت نحو الآتي، أي في أثرٍ نفقده «هنا» لنبحث عنه «هناك» بإرجاءٍ دائم وشبحية لا تنضب. ها هنا تتجلَّى أثار الفلسفة الخالدة التي لا يُعرَف مبتدؤها، ولا يُفقه راهنها، ولا يُدرَك مستقبلها، لأن هذه الفلسفة الخالدة النَّابعة من غياهب الـ«أيُّون» أو الزَّمن السَّرمدي، هي أيضًا، في تعيُّناتها الواقعية والمحليَّة، نثرٌ للحظات الـ«كايْروس» (kairos) أو الزَّمن العفوي والطَّارئ والزَّائل في محض استهلاكه الآني، والحامل لفرص جمَّة وعوائد وفيرة.
3. أيُّون وكايروس: العُمق النصِّي بما هو حفر جيولوجي
إن العملية التَّفكيكية التي كان يدعو إليها دريدا، في الغالب إشارةً لا عبارةً، وعمليًا لا نظريًا، إنما هي ممارسة تشتغل على النَّص مثلما يشتغل النسَّاج على القُماش، وعلى شاكلة الجيولوجي الذي يشتغل على الطَّبقات الرُّسوبية والصَّفائح المتراكبة بما يُعرف بـ«الوصف الطبقي» (stratigraphy). على المنوال نفسه، يقرأ التَّفكيك في النص تاريخ الكتابة المتجليَّة في الطَّبقات والصَّفائح النَّصيَّة؛ ليس فحسب الأرشيف والتَّأريخ لتحديد الأزمنة والخصائص، بل أيضًا عملية التَّركيب والتَّنضيد. نحن إزاء ممارسة تشتمل على العقد والحل، والرَّبط والفك، والوصل والفصل، والتَّرقيع والتَّقطيع، بما تجود عليه اللغة من علامات وإيحاءات وبلاغيات، هي حبائك من الأفكار والصُّور، منزوعة الهوية في التَّأليف والعملية في التَّوْليف، لأنها تأتي من الطَّبقات اللَّاشعورية للذَّاكرة البشرية، أي من تلك الفلسفة الخالدة التي تتجرَّد من كل هوية محصورة وتتعرَّى من كل إرادة في القبض والهيمنة، لأنها الزَّمن الأيوني بآماده الواسعة والكونية (أو «البُرْهة») الذي ينعطف على الزَّمن الكَايْري (كايروس) بأزمنته اليومية المتحوّلة (أو «الهنيهة»).
هذه الطَّبيعة المزدوجة للزَّمن هي الوجه الآخر لتصوُّر ليبنتز والكوزي حول حضور اللَّامتناهي في الكبر في ثنايا المتناهي في الصّغر، بإجراءٍ في التَّبديل أو التَّداخل أو «كْيَاسْموس» (chiasmus)، خلَّدته الفلسفة في صورة «الإنسان الكبير» أو العالم، و«العالم الصغير» أو الإنسان، من نميسيوس إلى إخوان الصَّفا. الإجراء الزَّمني هو طيَّة في نظام الحركة والمصير، يربط الكوني بالمحلّي، أو الأيُّون بالكايروس؛ مثلما الإجراء النَّصي هو ثنية في نظام الفكرة والصُّورة، عندما تنبسط، فهي تكشف عن تراكب الأزمنة النصيَّة بمضامينها المتغايرة، أي بوجه الاختلاف الرَّاديكالي الذي سمَّاه دريدا «differance». الاختلاف الرَّاديكالي هو «التفكُّك» الذي يُميّز كل حقيقة وجودية، لا مناص منه (مثلًا، الزواحف التي تُبدّل جلدها مثل الأفاعي). وليس «التَّفكيك» سوى تفعيل هذا التفكُّك الذي له قيمة «نحتية»، من حيث أن النَّحت هو التخلُّص من زوائد رُخامية للكشف عن الصورة المكتملة والجمالية للتّمثال. في هذه العملية في النَّحت (عملية مشابهة للنَّسج والوصف الجيولوجي)، فإنَّا نحذف بالإضافة، وهي بالضبط ما سمَّاه هيغل «النَّسخ» أو «أَوْفيبُونْغ».
4. النَّسخ، والتَّصوُّف، والفلسفة الخالدة
غير أن التَّفكيك الدّريدي هو «أَوْفيبُونْغ» غير هيغلي، يفلت من منطق المطلق والشمولية الذي ينطوي عليه الـ«أيُّون» نحو منطق التَّبعثر والتشتُّت، والطَّارئ واللَّامتوقَّع، الذي يُميّز طبيعة الـ«كايروس». التَّفكيك هو في خاصّيته ومقامه «كايْري» البنية والمهمَّة: العفوي، والشَّبحي، والسَّريع، وهي كلها تجليَّات الحيرة والالتباس، المشترك الأساس بين التَّصوُّف والتَّفكيك (ألموند، 2011، ص85 وبعدها)؛ وهي الوجه الأنطولوجي للتَّشابك والتَّداخل بين الخيوط والألياف (النَّسيج)، وبين الأفكار والصُّور والمقولات (العقل). ليست الحيرة هنا سوى الدَّهشة أمام النِّظام الجمالي المفرط لجلال العالم في تعقُّده وتحوُّله وتفكُّكه؛ تلك الدَّهشة التي عندما تدوم على مستوى النظام الأيُّوني فهي «تصوُّف»، وعندما تتعيَّن في النظام الكرونوسي وتنتظم في أنساق معرفية، فهي «تفلسف». كيف نُعرّف التَّصوُّف وأيُّ رابطةٍ يعقدها بالفلسفة الخالدة؟ يتحدَّث فريثيوف شوان عن الفلسفة الخالدة من باب الكوني الجامع للحقائق الشاملة التي تحتفظ بتعاليها دون تملُّك متعيّن في الحيّز والزَّمن، من باب الاستئثار والحيازة (Schuon, 2007, p.243). ولا يكون الاتّصال بهذه الحقائق بالعقل الآلي والإحصائي (ratio, reason)، وإنما بالعقل الحدسي (intellectus, intellect) الذي يتوصَّل بمجالٍ هو العقل الكُلّي (noos)، وهو مجالٌ عقلي مفارق (noosphere)، مثلما نتكلَّم عن المجال الجوّي المفارق للكوكب الأرضي.
يهبُ هذا المجال العقلي الصُّور الرُّوحانية لكل تعقُّل وتكهُّن وتجسُّد الأفكار والأحلام والأطياف في العالم، ويتيح التوصُّل المباشر بالحقائق الميتافيزيقية دون وساطة الخطاب أو «لُوغُوس»، أي مجال العقل الآلي بالمعنى المنطقي في التذهُّن والاستدلال والحساب. هذا التراتب في العقول ضروري لفهم نمط المعرفة المستخلصة من نظام الوجود التراتبي. وإن لم تكن هذه المعرفة التراتبية وفق الوجود الهرمي جديدة، لأنَّ تجليَّاتها الفلسفية بارزة من أفلاطون إلى الكوزي، مرورًا بالفارابي وابن باجَّة وابن عربي، إلا أنَّ التَّحيين المعاصر لمباحث قديمة هو ما يُسوّغ قيمة الفلسفة الخالدة التي هي أيضًا «حكمة خالدة»، تحوَّلت في التاريخ إلى صور متنوّعة ومتمايزة، تارةً في الوحدة الوجودية (ابن عربي) أو الوحدة المطلقة (ابن سبعين)، وتارةً أخرى في المطلق (هيغل)، وتارةً أخيرة في الاختلاف (دريدا، دولوز). هذه الحكمة الخالدة هي مثل الشَّمس الواحدة والمفارقة، المتجلّية في شظايا المرآة المتناثرة. كل شظيَّة تعكس الشَّمس ولا تُجزّئها، لأنَّ الشمس لا سبيل للوصول إليها أو النَّظر إليها دون هلاك متحقّق. كل الاستعارات الصُّوفية من هذا القبيل تنعت إذن «الوحدة» (الألوهيَّة مثلًا) التي لا سبيل للعقل إليها، وإدراكها يكون بوسائط هي تجليَّات في التاريخ، على شاكلة الشَّظايا المنفصلة والمتناثرة العاكسة للشَّمس الواحدة.
5. الفلسفة الخالدة بين التَّصوُّف والتَّفكيك
تنطلق الفلسفة الخالدة إذن من فكرة أن الحقيقة هي واحدة وأن الوجود هو واحد (نظام الأيُّون)، والتعيُّنات هي كثيرة ومتنوّعة تنتظم في جداول وعصور (نظام الكرونوس)، وهي متناثرة وتحمل إمكانات جمَّة (نظام الكايروس). من ثمَّ فإن هذه الفلسفة هي نظام في الوجود أو أنطولوجيا أكثر منها نظام في المعرفة أو ابستمولوجيا. فهي تُعبّر عن مقام الإنسان في العالم والكيفية التي يُدرك بها الحقائق حدسيًا (على المستوى الوجودي)، قبل أن يُدركها عقليًا (على المستوى المعرفي). وفي الإدراك الوجودي أو الأنطولوجي يتوصَّل الإنسان بالحقيقة الخالدة والواحدة التي تلج في نظام الزَّمن التَّاريخي، والتي تتعيَّن في رؤى ومذاهب قد تشوّهها بالاستئثار وما ينجرُّ عنه من صراع، أي تنخرط في العقل الحسابي، ومن ثمَّ في سلسلة من الحسابات والمناورات التي تنتهي بالاختصام (الحساب، ثم المقارنة، فالحسد، فالنّزاع، وأخيرًا الاقتتال) تبعًا لما بيَّنه جان جاك روسو «في أصل التَّفاوت بين البشر». من شأن الفلسفة الخالدة ألا تُذعن لهذا المخطَّط الحسابي (Schmidt-Biggemann, 2004, p.29)، بل تتطلَّب حدسًا من نوعٍ صوفي، أو انتباهًا حفريًا وجيولوجيًا من نوعٍ تفكيكي. لم يُشر أيان ألموند إلى الفلسفة الخالدة في كتابه «التصوُّف والتفكيك: درس مقارن بين ابن عربي ودريدا». لكن عندما يتناول بالتَّحليل والمقارنة بين تصوُّفٍ إسلامي غريب وبعيد كل البُعد عن تفكيكٍ غربي، فهو يشير إلى الفلسفة الخالدة دون أن يُصرّح بها، والتي تتمظهر باعتبارات متماثلة في التصوُّف والتفكيك، حتى وإن اختلفت الأزمنة والأساليب والثقافات.
في معرض مقارنته بينهما يقول «سأحاول تناول التَّصوُّف والتَّفكيك (ولأستخدم تشبيه بنيامين) بوصفهما شظايا مختلفة انتثرت من فازة واحدة تهشَّمت كلّها» (ألموند، 2011، ص24-25). يشير الكاتب إلى فكرة «الفازة الواحدة» التي تهشَّمت، والتي يمكن النظر إليها استعاريًا ورمزيًا إلى الفلسفة الخالدة التي تتعيَّن في شظايا النُّصوص والثَّقافات. وإن كان فالتر بنيامين قد أورد فكرة الفازة أو المزهرية المتشظّية في معرض حديثه عن مهمَّة الترجمة في البحث عن الأصول وربط الشظايا النصيَّة بتلك الأصول، إلا أن انتماءها إلى التُّراث القبالي (Kabbalah) لا ريب فيه، ويعود في أصله إلى إسحق لوريا (Isaac Luria)، الذي ينعت بالفازة أو المزهرية المنكسرة قصَّة الخلق وصدور العالم عن الواحد الذي يتوارى أو يتقلَّص قبل أن يتجلَّى ويتمدَّد بفعل الخلق. إسحق لوريا الذي عاش في عصر النهضة الذي شاعت فيه فكرة الفلسفة الخالدة، هو ترجمة في التُّراث القبالي (التقليص-التمدُّد) لفكرة الكاردينال الكوزي قبله حول تواقت النَّقيضين (القبض-البسط)، ولفكرة الفيلسوف ليبنتز بعده، حول الطيَّة (المونادا) بين الانثناء والانبساط.
6. ابن عربي ودريدا: طيَّة الفلسفة الخالدة الحاوية على نثر العالم
يعترف أيان ألموند بأن لا شيء يجمع بين ابن عربي ودريدا على مستويات عدَّة: ثقافية، ولغوية، ودينية. لكن من وجهة نظر الفلسفة الخالدة (التي لا يذكرها ألموند ولم يخصّص لها صفحات من كتابه)، القاصي والدَّاني قد يلتقيان مثل تواقُت النَّقيضين. وهي خاصّية الباروك بامتياز، بالجمع في نثر العالم بين تناثر الثَّقافات داخل بوتقة واحدة؛ تلك الثَّقافات التي «تتشاكل»، بالمعنى المزدوج في الالتباس وفي الاشتراك حول أشكالٍ متماثلة رغم المواد المتمايزة. أخطأ ألموند عندما أرجع هذا التَّشاكل الباروكي إلى «سرقة» (هكذا!)، عندما يقول «لعلَّ تاريخ الأفكار لم يكن سوى توثيق دقيق لسرقات حدثت في الخفاء» (ألموند، 2011، ص23). غير أن التَّماثُل بين الأفكار هو إجراء باروكي نابع من طيَّات الفلسفة الخالدة والمسافرة عبر الأزمنة الميتافيزيقية، ولا يمكن القول بأن اللَّاحق «سرق» السَّابق، بمجرَّد التَّشابه في المضامين. إنما هي أفكار مسافرة عبر المجال العقلي المفارق الذي يستقي منه العقل الخطابي مادَّة تعليله وتحجُّجه العقلاني. من ثمَّ فإن «التَّشاكل» بين ابن عربي ودريدا لا يُقرأ وفق الزَّمن الكرونوسي (التَّسلسل العِلّي أو السَّببي)، لأن دريدا لم يكن يعرف بوجود ابن عربي، ولم يتأثَّر به إن علم بوجوده، ولم يكن يتقن العربية لقراءة متونه، وإنما يُقرأ وفق الزَّمن الأيُّوني في سفر الأفكار عبر المجال العقلي المفارق.
يطرح ألموند السُّؤال-المفتاح الذي نلج بموجبه إلى لُبّ المسألة: «هل يُملّح دريدا إلى نجاح تفكيكي ما في الرُّوحانية اليهودية والإسلامية؛ نجاح لم يختلط بنظائرها اليونانية-المسيحية التي استندت استنادًا هلّينيًا كُليًّا إلى “لوغوس”؟» (ألموند، 2011، ص27). معلوم أن اللاهوت السّلبي الذي نقض النّسبة بين الإله والخلق، ومن ثمَّ استحالة معرفة الإله في ذاته (نفي ما يكون عليه وفق التَّصوُّر البشري)، لجأ إلى اللوغوس في شقّه البرهاني (من علم الكلام إلى اللاهوت المسيحي) للتَّوكيد على تلك الاستحالة. غير أن اللَّحظة البرهانية في النَّفي، التي هي شبيهة بنزع الزَّوائد المادّية في النَّحت، تجعل ممكنًا اللَّحظة الإيجابية في تشكيل صورةٍ يتَّخذها التّمثال. اللَّحظة البرهانية والنَّافية هي اللُّوغوس أو العقل البرهاني والآلي تجعل ممكنًا وبشكلٍ من اللَّادراية (على شاكلة «الجَهْل العَالـِم» Docta ignorantia عند الكاردينال الكوزي) اللَّحظة الحدسية، التي هي صوفيَّة وتفكيكيَّة، خفيَّة أو متوارية، لأنها لا تُعقل سببيًّا، بل أيُّونيًّا. بمعنى أن اللَّحظة الحدسية هي كشفيَّة، تجعل الظواهر الرُّوحية تنكشف بذواتها بالمعنى الفينومينولوجي للكلمة، والعقل الحدسي وحده من باستطاعته اقتناص هذه الأنوار النَّابعة من الزَّمن الأيُّوني.
وعليه، عندما يُشير ألموند إلى رفض التَّصوُّف والتَّفكيك للعقل، فإنَّ هذا الرَّفض لا ينبري وفق استراتيجية المقت التي تُسمَّى «كراهية العقل» (Misology)، وإنَّما يرسم حدود العقل البرهاني (شبَّهه ابن عربي بالعِقال، وهو الحبل الذي يُقيّد الدَّواب ويمنعها من الفرار) الذي يتعقَّل وفق الـ«كرونوس»، أي بشكل تسلسلي وسببي؛ بينما المسعى الصُّوفي والتَّفكيكي هو العقل الحدسي الذي يتعقَّل وفق الـ«أيُّون» في أحجامه الكبرى والخالدة، والـ«كايروس» في أبعاده الصُّغرى والآنية، أي تبعًا لنظام النَّثر والقصّ، من وحي النَّص الذي «يرجع إلى “طيَّةٍ ما”، تعمل على تشقيق النص ومضاعفته دون تكراره» (ألموند، 2011، ص54). «الطيَّة» (ومشتقاتها: الباروك، المونادا، تواقت النَّقيضين، الفازة المنكسرة…) هي الكلمة-المفتاح في فهم تمفصل اللَّامتناهي بالمتناهي، وربط العقل الكلّي بأجزائه المتعيّنة، والأيُّون الشَّاسع بالكايروس الآني والفوري. الفلسفة الخالدة هي هذا الاتّصال الملغز، المعلوم والمجهول في الوقت نفسه.
المراجع
- ألموند، أيان (2011)، التَّصوُّف والتَّفكيك: درس مقارن بين ابن عربي ودريدا، ترجمة وتقديم حسام نايل، مراجعة محمد بريري، المركز القومي للترجمة، القاهرة.
- DELEUZE, Gilles (1993), The Fold: Leibniz and the Baroque, foreword and translation by Tom Conley, The Athlone Press: London.
- دريدا، جاك (1998)، صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد، دار الجنوب للنشر، تونس.
- DERRIDA, Jacques (1996), Résistances de la psychanalyse, Galilée, Paris.
- HUXLEY, Aldous (1947), The Perennial Philosophy, Chatto & Windus: London.
- LAMBERT, Gregg (2004), The Return of the Baroque in Modern Culture, Continuum: London.
- Schmidt-Biggemann, Wilhelm (2004), Philosophia Perennis: Historical Outlines of Western Spirituality in Ancient, Medieval and Early Modern Thought, Springer: Dordrecht, col. “International Archives of the History of Ideas, 189”.
- SCHUON, Frithjof (2007), “The Perennial Philosophy”, in: Lings, Martin and Minnaar, Clinton (ed.), The Underlying Religion. An Introduction to the Perennial Philosophy, World Wisdom: Bloomington (Indiana).
باحث وأكاديمي،أستاذ التعليم العالي في الفلسفة بجامعة تلمسان (الجزائر). درس الدراسات العربية الإسلامية بجامعة بروفونس (فرنسا) وتحصل من جامعتها على الدكتوراه عام 2004 في مجال التصوف والتأويليات؛ ثم تحصل على دكتوراه ثانية في الفلسفة من جامعة أكس-مرسيليا (فرنسا) عام 2011 في مجال الفلسفة العملية ونظريات اليومي.