على الورق نكتب أسامينا، حكاياتنا، أحلامنا، نمضي ونترك بصماتنا. على الورق أسرار ورسومات تحتوينا، على الورق نحيك الواقع ونرقع الخيال، ونبني أسطورتنا، على الورق ننسج خطوطًا من زحمة التقلبات الناتجة عن حالتنا النفسية، والأحداث التي تدور من حولنا، ومعرض الفنانة باتريشيا هو عالم صُنع من ورق. تتجرد أرواحنا تلقائيًا عند دخول صالة العرض، فندرك أننا في عالم استحالة، أشبه بعالم اللا وعي، عالم أبيض لكن يشاكسه مخزون حضاري وإرث ثقافي، وأيديولوجيا تحيل إلى ما هو مكتنز في الذاكرة وغير متطابق مع الواقع أحيانًا كثيرة.
للورق أهمية في حياتنا؛ فمن لا يحتاج إلى الورق؟ لقد تعدد استخدام الورق حتى أصبح فنًا قائمًا بذاته، وهذا يُحيلنا إلى فن الأوريجامي الياباني؛ فن طي الورق “أوري” وتشكيله لصناعة المجسمات الورقية. لقد وجدت باتريشيا أن للورق تأثيرًا إيجابيًا، وجدت بالممارسة أن ذلك الفن يساعد في كسر التوتر وتوليد الطاقة الإيجابية؛ لذلك تواظب عليه باستمرار، وقد أحالته بفضل حسها وإبداعها الفني العالي من عالم صغير يضم إرهاصاتنا، وأفكارنا، وإبداعنا إلى عالم كبير يحتوينا ويضمنا تحت جناحيه. لقد أبدعت الفنانة في صناعة عالم من ورق. في مركز مرايا للفنون عالم غني ويحتوي على الكثير من الرموز الثقافية والإنسانية، وإن بصيغة الفن الأقلي وأحادية اللون فلون الورق الأبيض يحمل في طياته الكثير من الأحاديث والرموز.
تستمد الفنانة باتريشيا لغتها البصرية من عندياتها، وما قد اكتسبته في ممارساتها الفنية من تجارب وإستاطيقية أفرزت رؤية فنية وفكرية خاصة تُراوح بين الممارسة الفنية والتنظير. وهي تشير إلى تأثرها بمفهوم “ما” الياباني (بمعنى فاصل زمني، أو وقت مستقطع، أو فراغ)، الذي يدور حول الوقت والمكان، ويملأ الفراغ بالمعاني، ويصدح بصوت الصمت. بالنسبة لها فإن الفراغ الموجود بين أعمالها له أهمية تعادل الأعمال نفسها، وتضيف أنها تريد أن يشعر المشاهد في معرضها “فراغات فاصلة” بهذه الفواصل الزمنية ويختبر وجودها.
تستخدم باتريشيا في بناء أعمالها مادة الورق، وغالبًا ما تعمد إلى تفكيكه وحياكته ليغدو عملًا فنيًا قائمًا بذاته. تستعين الفنانة بعناصر تُستهلك يوميًا، وتُعيد تدويرها مثل أكياس الشاي، وفلاتر القهوة، ومناديل المائدة. تحمل أعمال باتريشيا مدلولًا أنثويًا؛ فالحياكة عمل تقليدي للنساء اللواتي يعملن في بيوتهن، وهي تميل إلى صناعة عملها الفني أكثر من التلوين، وتجنح أعمالها صوب التركيب والتجريب. تحتفي باتريشيا من خلال أعمالها الفنية بالمرأة بصفتها رمزًا لتقديم الضيافة في المنزل والمجتمع، وهي بصفتها رمزًا موجودة في المعرض؛ فحضورها طاغٍ على كل شيء.
تسعى باتريشيا إلى رواية حكايات من خلال أعمالها من خلال ورق مفكك ومخيط يدويًا، وهي تدعونا أن نفك رموز عملها وعناصره. إنها تتعمد إحالة الدال إلى مدلول آخر؛ لتبدع أعمالًا تضج برمزيتها، ومعانيها، ودلالاتها الفلسفية.
تدور أعمالها حول المرأة وأهميتها في المجتمع؛ فنجد في أعمالها “نسوية” طاغية، وفنًا تنحصر مفرداته في الأعمال المنزلية لربة المنزل. وهذه المهارة بالنسبة لباتريشيا قد تكون في خدمة الفن؛ فهي في نظرها ليست مجرد عمل حرفي بل فنًا قائمًا بذاته.
الهوية الجماعية وتسلسل الضيافة
تدور أعمال باتريشيا حول مفاهيم اجتماعية، ومنها مفهوم الضيافة وطقوسها من منطلق موروث ثقافي.
ولما كانت مدنية الإنسان وطبعه الاجتماعي يفرضان عليه الدخول في علاقة مع الغير تسعى باتريشيا إلى تجسيد قيم الاختلاف، والتعدد الثقافي، والحِوَار بين الثقافات في أعمالها الفنية وإحالتها إلى المجال الفكري التفكيكي المرن والمنفتح؛ الأمر الذي ينعكس على عملها الفني البصري، فيُغنيه بتشكيلات رمزية متنوعة.
ومن منطلق استيعاب الطبيعة الحقيقية غير المشروطة للاستقبال تشير الفنانة من خلال أعمالها إلى أن مفهوم الضيافة يمكن أن يمر من استقبال شخص ما إلى التلقي من شخص آخر في نسق للتبادل والمعاملة بالمثل معزِّزةً التماسك، والتناسق الاجتماعي، و”الجمعنة” (sociabilité).
تُعد “الضيافة غير المشروطة” أو “الضيافة الخالصة” بالنسبة لجاك داريدا “مبدأ”، وهو يشير إلى “أننا عرضة غير قابلة للاختزال لمجيء الآخر”. إن الضيافة هي ممارسة شائعة منذ العصور القديمة، وقد شَكَّلت عند مختلف الشعوب لا سيما العرب التزامًا بتوفير المساعدة وأحيانًا المأوى والدعم دون طلب المعاملة بالمثل. لقد سعت باتريشيا في أعمالها الفنية إلى إبداع لغة جديدة فنية خالية من القواعد المسبقة لاستقبال المتلقي، الذي هو بمنزلة الزائر المجهول، اللا متوقع، غير المعروف، والذي سيجرب ويستمتع بلذة التواطن في لغة وعالم باتريشيا، والتعرف على عالمها وإقامة حوار معها. تقول باتريشيا: “الضيف هو ذلك الشخص الذي يستقبل الضيافة، أنا هو ذلك الضيف، نحن كلنا ضيوف، نحن مدعوون للدخول وللزيارة وللمشاركة، أود أن أدعو الضيف لقراءة الكلمات ولدخول الفراغات الفاصلة بينها”. وتعد قصائد وكتابات جلال الدين الرومي مصدر إلهام للفنانة، وهي تستحضر في عملها “الضيف” قصيدة “بيت الضيافة” للرومي:
هذا الإنسان بيت للضيافة
في كل صباح يصله زائر جديد…
كن ممتنًا لكل من يأتي؛ لأنهم أُرسلوا
كرُسل من البُعد الأزلي كي يدلوك على الطريق
زخرفة وحياكة واقع من نور
تتحقق في أعمال الفنانة باتريشيا خصائص ومفاهيم عدة للفن الإسلامي؛ كالنور. وهي ترتكز على العناصر الهندسية والزخرفية في تشييد بعض أعمالها الفنية؛ فنجد توافقًا بين الإطار الشبكي للعمل الفني ومبادئ الهندسة والعمارة الإسلامية، ويجسد تكرار هذه العناصر الزخرفية مفهوم التعددية في الفن الإسلامي، كما هو الحال في الزخرفة والدائرة؛ فالدائرة هي الشكل الذي يدل على الدوران المستمر المشابه للطواف، وهندسة القباب، ورقصات الدراويش، وغيرها. وتشدد باتريشيا على اهتمامها بالإيقاع، وهو من أهم خصائص الفن الإسلامي للابتعاد عن الجمود، إضافة إلى خاصية الترداد والتكرار في المنظومة الزخرفية… وتتميز أعمالها بالوضوح، والتوازن، والحركة، ويغلب عليها الطابع التجريدي، تمامًا كالفن الإسلامي الذي يبتعد عن قاعدة المحاكاة والتجسيم، ويرفض مطابقة الواقع؛ فهي تجنح إلى تحليل الواقع المرئي وتحويله إلى واقع فني يختلف عن الأول في شكله ومضمونه؛ أي صياغته من جديد من خلال الابتعاد عن تشبيه الشيء بذاته إلى تمثيل الكلي والمطلق.
عالم من ورق
في عملها الفني “الدائرة”، تعتمد باتريشيا على المنظور الروحي الذي “يقوم على الوجود الأزلي”. وقد ظهر ذلك بالطواف حول الكعبة، ودوران المولوية، وبإكسير الحياة L’eliseir vitae الذي عُرف منذ عهد سومر ووصل إلى المسلمين. وهذا ما نجده عند الدخول إلى صالة العرض في مركز مرايا للفنون؛ إذ يطالعنا مجسم دائري مصنوع من ورق يجد الزائر نفسه بحركة لا إرادية يطوف حوله أو بداخله إلى ما لا نهاية، ويطلع على الفراغ والفواصل الزمنية التي يحيلنا إليها في أجواء من السلام والسكينة.
تقول باتريشيا: “الدائرة مكونة من خط منحنٍ مستمر، إنها وحدة تحافظ على الاتزان؛ إذ تتكون من نقاط على مسافة ثابتة دائمًا من النقطة المركزية. إن التوازن في الدائرة يلهم أعمالي، ويمكن الاطلاع على الفراغ الفاصل والوصول إليه من خلال تكرار الأنماط، وإعادة تشكيل وتحويل فلاتر القهوة المعلّقة والمتصلة ببعضها. إن تصميم هذا العمل من خلال جمع فلاتر القهوة المطوية وتحويلها إلى رمز قائم للسلام والسكينة يحمل في جوهره هوية فنية، ويدفع المشاهد إلى اختبار فواصل زمنية من خلال توزيع قطعه المختلفة. يدعو هذا العمل المشاهد لدخول المساحة وتجربة لحظة سكون من خلال هذه الفواصل الزمنية المحددة مكانيًا”. لا يسعنا إلا القول أن أعمال باتريشيا تعكس رؤيتها الخاصة للوجود والعالم، ولقد أبدعت باتريشيا في معرضها في صالة مركز مرايا للفنون بتجسيد سياسة الاستقبال للآخر انطلاقًا من الوعي بالمسؤولية الفريدة من أجل الكونية الإنسانية.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي