محمد أحمد إبراهيم … من جبال خورفكان إلى بينالي البندقية

• مفاهيم جديدة في النحت وهدم متعمد لذائقة التقليد

• أعماله تأتي من الطبيعة وتنحاز إليها

• كسر لمثالية الانسجام بين الكتلة والفراغ

• الشكل النحتي يتخذ تكوينه أثناء إنتاج العمل

معالي نورة الكعبي والفنان محمد أحمد والقيمة مايا أليسون وبقية أعضاء فريق التنظيم، بينالي البندقية 2022 .

بحضور معالي نورة بنت محمد الكعبي وزيرة الثقافة والشباب شاركت الإمارات في الدورة الـ59 من بينالي فينيسيا للفنون 2022 لتضفي تراكمًا نوعيًا على تاريخ مشاركاتها السبعة في هذا المعرض العالمي الذي اختار أن يركز هذا العام على ثلاثة موضوعات هي “تصوير الأجساد ومحيطها”، و”العلاقة بين الأشخاص والتكنولوجيا”، و”الصلة بين الأجسام والأرض”. وقد اختيرت أعمال الفنان الإماراتي

غلاف الكتاب المصاحب للبينالي

محمد أحمد إبراهيم للمشاركة في هذه الدورة لانسجام أعماله مع شعار المعرض نظرًا لأن هذا الفنان يدمج بين الرسم والنحت، وتركز جُل أعماله على خلق التواصل بين الأجسام، والطبيعة، والأرض.

منحوتات محمد أحمد في بينالي البندقية

حمل المعرض عنوانًا له علاقة بالزمن (محمد أحمد إبراهيم: بين الشروق والغروب) وأشرفت عليه القيِّمة مايا أليسون، المدير التنفيذي لرواق الفن ورئيس القيِّمين الفنيين في جامعة نيويورك أبوظبي. جاءت الأعمال المعروضة لتشكل ذروة نضج تجربة هذا الفنان الذي تمتد مسيرته الفنية لنحو 40 سنة تقلب فيها بين عدة مدارس واتجاهات إلى أن وجد لنفسه الطريق الخاص به.

وعلى هامش هذه المشاركة كشف الجناح الوطني للإمارات عن تفاصيل كتاب «محمد أحمد إبراهيم: بين الشروق والغروب – أعمال فنية: 1986- 2022»؛ إذ تتولى مؤسسة سلامة بنت حمدان آل نهيان مهام المفوض الرسمي للجناح في البينالي بدعم من وزارة الثقافة والشباب. في الكتاب رصد شامل لأعمال هذا الفنان يتناول اللوحات التجريدية التي قدمها، وتجارب عمله مع المواد الطبيعية وابتكار فن الأرض في الثمانينيات والتسعينيات، وتطور تجاربه لاحقًا في إنتاج المنحوتات والمجسمات. وقد أشرف على الكتاب الفنانة الإيطالية المقيمة في الإمارات كريستيانا دي ماركي، وشارك في كتابة مواده العلمية مجموعة من النُّقاد والكُتاب.

على مدى سنوات، أسهمت مؤسسة سلامة بنت حمدان آل نهيان -وهي مؤسسة غير ربحية- في تنمية المجتمع وتطويره في دولة الإمارات من خلال دعم الإبداع والترابط ضمن جميع قطاعاتها. ومن مقرها في مدينة أبوظبي تشرف المؤسسة على مجموعة متنوعة من البرامج والمبادرات في مجالات الفنون، والثقافة، والتراث، والتنمية البشرية، وتنمية الطفولة المبكرة في دولة الإمارات وخارجها. تطمح جميع أنشطة المؤسسة للاستثمار في المعرفة وتنمية قدرات أفراد المجتمع الإماراتي، وذلك لمساعدتهم في استكشاف قدراتهم ومواهبهم، واغتنام إمكانياتهم الكاملة. وهي واحدة من كبار الرعاة لمشاركة فناني الإمارات في بينالي البندقية.

سنحاول فيما يلي استعراض مسيرة هذا الفنان منذ بداياته الأولى حتى لحظة وصوله إلى بينالي البندقية، وأبرز المحطات التي أثرت في تجربته.

أعمال نحتية بألوان فاقعة في بينالي البندقية

قفزة البداية

في مدينة جبلية تطل على البحر اسمها (خورفكان) في دولة الإمارات العربية المتحدة يمكن للسكان أن يتمتعوا بمنظر شروق الشمس في الصباح من جهة البحر، لكنهم في المقابل محرومون من مشهد الغروب الذي تحول دونه الجبال العالية التي تحيط بالمدينة من جهة الغرب. في تلك الفضاءات الساحرة نشأ محمد أحمد إبراهيم ومارس مشاغباته الأولى والتحق بمدارسها، وما أن وصل إلى مراحل الثانوية حتى بات يشعر بروح الفن تتأجج داخله، وصارت تُسند إليه مهام رسم الخرائط والوسائل التعليمية، وشجعه المدرسون على الرسم، لكن نظرًا لشح الإمكانيات في فترة نهاية السبعينيات لم يتمكن من الحصول على الأدوات الفنية والكانفاس والمرسم المناسب لينطلق في هذه الموهبة، وكان عليه أن يبحث عن مكان آخر يصقل فيه هذه الموهبة.

ولما كانت مدينة خورفكان تضم عددًا من المناشط الثقافية في المسرح والشعر فقد جرب نفسه في الكتابة ودوَّن الكثير من الخواطر، بل إنه كتب مشاريع مسرحيات مطولة، لكن ذلك لم يستمر طويلًا؛ إذ سرعان ما سافر بعد تخرُّجه من الثانوية العامة في عام 1980 في بعثة لدراسة الآثار في العاصمة الباكستانية لاهور، لكنه عاد من هناك بعد عام واحد فقط لأنه وجد أن الآثار رغم أهميتها التاريخية ليست هي العالم الذي كان يبحث عنه.

في جامعة الإمارات

لم يكن أمامه بعد ذلك سوى الالتحاق بجامعة الإمارات في عام 1982، ولأن الجامعة لا يوجد فيها كلية للفنون الجميلة اختار دراسة علم النفس، لكنه عوض دراسته الفنية بالقراءة التي توفرت له في مكتبة الجامعة؛ إذ وقع بين يديه كتب ومراجع الفن ونظرياته وفلسفاته الجديدة. وفي الجامعة تعرَّف على شعراء وفنانين شباب من الجيل المتعطش للتجديد، والمغايرة، والحداثة. ومنذ تلك المراحل بدأ يضع بصمته الفنية مرة على أغلفة كتب أصدقائه الشعراء، ومرات في الملصقات والمجلات الأدبية التي

محمد أحمد ابراهيم : نقوش على جبال خورفكان

أصدرها الشباب بجهودهم الذاتية. ومن أصدقاء تلك الفترة الشاعر أحمد راشد ثاني، والشاعر علي العندل، والفنان مرعي الحليان، وعبدالله العويس، وآخرون.

شهد النصف الأول من الثمانينيات تحوُّلًا ثقافيًا عظيمًا في الإمارات أثَّر تأثيرًا كبيرًا في تكوين وتشكيل وعي جيل كامل من أبناء البلاد؛ ففي هذه السنوات انطلق معرض الشارقة للكتاب وأحدث نقلة معرفية واسعة، ثم تلاه معرض أبوظبي للكتاب، وأنشئت جمعية الإمارات للفنون التشكيلية عام 1980 في الشارقة، وعلى الفور بدأت الجمعية في تنظيم معرض سنوي لمنتسبيها، وبدأت الصحف اليومية في تخصيص صفحات وملاحق ثقافية تهتم بالأدب والفنون البصرية، وتكاثرت المعارض الفنية والأمسيات والندوات بزخمٍ عالٍ جدًا، وواكبها عودة بعض الفنانين من أبناء الإمارات الذين ابتعثوا للخارج لدراسة الفن في مصر والعراق وإنجلترا، وكذلك اختار بعض الفنانين العرب المهمين الإقامة والعمل في الصحافة والثقافة الإماراتية. كانت تلك لحظة تنوير حقيقة وكبيرة وجد محمد أحمد إبراهيم نفسه في وسطها. ظل محمد يزور المعارض ويقرأ مجادلات الحداثة والمعاصرة في الصحف، وشهد الندوات والسجالات بين مؤيدي الحداثة ومعارضيها. ووجدت أعماله طريقها للمعارض السنوية التي بدأت تنظمها جمعية التشكيليين، وقبل أن ينتهي عقد الثمانينيات كان محمد أحمد إبراهيم اسمًا صاعدًا في سماء الثقافة والفنون.

بين الرسم والنحت

ذهبت جل أعمال محمد أحمد الأولى إلى التجريب في منطقتين هما الرسم والنحت، فكان على صعيد الرسم يبدأ بتشكيل تكوينات على شكل حروف هيروغليفية ومنقوشات قديمة مركزًا على خلق إيقاعات من متواليات هذه الأشكال، وانتقلت هذه النقوش من الأوراق والإسكتشات إلى الجدران ثم إلى الصخور الجبلية والأشجار. كانت هذه العمليات بمنزلة ورشة مفتوحة في الطبيعة.

ربط الأشجار بالقمش الملون في شوارع المدينة، بإذن من الفنان.

قدم محمد أحمد إبراهيم تجاربه بوعي مختلف وبأسلوب جديد، لكنه وجد نفسه في مواجهة الوعي التقليدي. وكان دعاة التجديد في تلك الفترة يخوضون صراعات عنيفة مع تيارات التقليد والمحافظة. تعرض الفنانون الذين كسروا نمطية التفكير ونادوا بالمغامرة في الفن لهجوم عنيف من دعاة التقليد بعد أن رأى هؤلاء اللوحة التجريدية والفنون المفاهيمية التجريبية والأدائية تزلزل قناعتهم حول الفن. لكن، لا شيء يمكن أن يمنع تطور الأفكار والمجتمعات؛ إذ سرعان ما تداخلت المدارس، والأفكار، والتيارات الفنية وامتدت مفاهيم التغيير لتطول كل شيء. اختار محمد أحمد إبراهيم أن ينتمي إلى معركة التجديد ورأى نفسه أحد فرسان هذه المعركة، وبدأ في إنتاج أعمال فنية تكسر مفهوم اللوحة، وقد صارت الجبال الصخرية في مدينته خورفكان معرضه الفني المفتوح، وصارت الأحجار الصلبة أدواته الناعمة.

من أعمال تلك المرحلة:

  • لف الأوراق والقطع الملونة على الأشجار
  • لوحات فنية في المعارض السنوية لجمعية التشكيليين
  • رسومات لأغلفة كتب الشعراء ومجلاتهم
  • رسومات على الجدران والصخور والجبال في مدينة خورفكان

الصداقات الكبيرة: حسن شريف وجوز كليفرز

في نهاية 1986 تعرف محمد أحمد على الفنان حسن شريف (1951 – 2016) المتخرج من معهد بايم شو في لندن. وقد تمكن حسن شريف أن يؤسس للفن المفاهيمي في الإمارات مناديًا بكسر المفهوم التقليدي للوحة متشربًا ومتأثرًا بأفكار مارسيل دوشامب وخاصة رفضه لفكرة أن يتم إنتاج العمل الفني لإرضاء ذوق النظر؛ إذ بدلًا من ذلك أراد دوشامب استخدام الفن لخدمة العقل أيضًا.

هنا، دخل محمد أحمد إبراهيم في فضاء حسن شريف وكان واحدًا من أصدقائه المقربين. خالط محمد جميع فناني تلك المرحلة وتعرف على معارضهم وتجاربهم، وكان يذهب إلى المدن الثقافية الكبيرة في أبوظبي ودبي والشارقة، لكنه عاد إلى الجبال والأشجار في مدينته البعيدة، ومارس جنونه بحرية هناك. استمر في لف الأشجار بالأقمشة ذات الألوان الفاقعة في الشوارع العامة. أراد متعمدًا أن يخدش الذوق ونمط التفكير. لم يكتفِ بالنقش على الصخور في الطبيعة بل حملها وجاء بها إلى المدينة وعلقها في صالات المعرض، ثم تطورت الفكرة إلى قيامه بالرسم على صخور الجبال والنقش عليها بتمائم ورموز تُشبه رسومات الكهوف القديمة مما أزعج بعض الناس ولاقى قبول بعضهم الآخر. ثم رآه الناس وهو يربط الأحجار بالبلاستيك وبالأسلاك المعدنية وزادت متعته، وفي المقابل ارتفعت الأصوات التي استغربت هذا السلوك الفني الغريب. وقد عُرفت هذه الممارسات في العالم باسم (فن الأرض) الذي انتشرت مدارسه حول العالم.

بين الإمارات وهولندا

وفي صداقة أخرى عظيمة ارتبط محمد أحمد إبراهيم بالفنان الهولندي الراحل جوز كليفرز، وظل يتناوب على محترفه ومرسمه في مدينة سيترد الهولندية، ورتب زيارات لهذا الفنان، وعرَّفه على أصدقائه من الفنانين الإماراتيين وهم جماعة الفن المفاهيمي (حسن شريف، ومحمد كاظم، وعبدالله السعدي، وحسين شريف) ومعهم بالطبع محمد أحمد، وقد شكلت هذه اللقاءات والصداقات عمقًا وأثرًا في تجربة محمد أحمد، ورأى فيها السند الفلسفي والمرجعي، والمساحة التي يستطيع أن يعبر فيها عن نفسه بكل حرية. وهو أمر دفعه إلى المضي قُدمًا في اقتراح أفكار ذات مفاهيم جديدة لأعماله، وشيئًا فشيئًا أصبح يلعب في المنطقة المفتوحة والعائمة التي تقع ما بين الرسم والنحت.

عمل لمحمد أحمد – جائزة النحت الأولى بينالي الشارقة الدولي للفنون 1999
جائزة النحت الأولى – بينالي الشارقة الدولي للفنون 2001

وفي فترة التسعينيات صار اسم محمد أحمد يتكرر في المعارض الفنية داخل الإمارات وخارجها، وقدم أيضًا معرضه الشخصي في الشارقة جامعًا فيه حصيلته من الصخور المربوطة بالأسلاك والبلاستيك، واللوحات، وصور ممارساته في الشوارع. ثم عمق هذا الأسلوب بإنتاج أعمال نحتية مستخدمًا مواد طينية وعجينة من الورق المقوى، وقدَّم أشكالًا جديدة لعب فيها على انسجام الكتلة والفراغ، واستطاع أن يحصد جوائز بينالي الشارقة الدولي للفنون (مرتين) في فئة النحت. كما راحت أعماله تعرض في الكثير من المحافل الخارجية في أوروبا وآسيا. كان اللافت في تلك الأعمال أنها أصيلة ونابعة من روح المكان والأرض؛ فالمادة الطينية التي يبني بها أعماله النحتية تتكون من لحاء أشجار، وبقايا أخشاب، ورمال، وأوراق كرتون يخلطها هو بنفسه ويجففها، أما من ناحية الشكل فان كل قطعة نحتية تحمل تكوينها الخاص الذي يأخذ شكله النهائي أثناء تصميم العمل، ومن ثَمَّ لا يمكن تكرار نفس الشكل مرتين، بل تتخذ كل قطعة مساحتها في الفراغ وتصبح قائمة بذاتها.

على مدى أكثر من 30 سنة ظل هذا الفنان يخوض في التجريب الفني، ويبتكر لغته الخاصة، ويكتسب معارفه الجديدة كل يوم. ارتحل في برامج إقامة الفنانين في أكثر من بلد أوروبي وآسيوي، وشارك في أكبر معارض الفنون في العالم، واقتُنيت أعماله في متاحف كثيرة إلى أن وصل اليوم إلى بينالي البندقية؛ أكبر محفل فني عالمي، وبرعاية ودعم غير محدود من دولة الإمارات ومؤسساتها الفنية.

بينالي البندقية… المفاهيم والأفكار والرؤى

تميز معرض (محمد أحمد إبراهيم: من الشروق إلى الغروب) بأنه قدم مجموعة من المفاهيم التي يؤمن بها هذا الفنان، وتؤطر رؤيته للفن، وتحدد لغته البصرية ورؤيته للعالم والوجود. فيما يلي بعض النقاط الجوهرية التي يمكن أن نستشفها من هذه الأعمال:

مفهوم النحت

ظل النحت طوال تاريخه يخدم الصيغ التقليدية في تجسيد المجسمات الثلاثية الأبعاد للأشكال الإنسانية والحيوانية، ثم تطور إلى تجسيد الأعمال التجريدية مع احتفاظه بعنصر (المثالية) في تنسيق زوايا المادة وانسيابية التكوينات والحدود الهندسية للعمل، في حين نجد أن هذه المثالية غير موجودة في أعمال محمد أحمد التي قدمها في البينالي؛ فهناك أشكال عبثية وغير متساوية الأطراف والخطوط، ولا ترهن نفسها للالتزام بأي نوع من الانضباط، إنها تتشكل من ذاتها وكأنها عنصر بدائي ينتمي إلى عشوائية الأشكال، لا إلى هندستها المتقنة، إنه خيار الانتماء إلى الطبيعة ومحاولة البحث عن الجمال في ذاته لا في مثاليته فقط.

الألوان الفاقعة

لماذا يلجأ الفنان محمد أحمد إلى تلوين منحوتاته بهذه الألوان الفاقعة والصارخة إلى درجة اقترابها من ألعاب الأطفال؟ لأنه ببساطة يريد أن يكسر النظرة التقليدية للمادة النحتية بوصفها تؤدي غرضًا منفعيًا أو جماليًا، وهو هنا يضيف إليها عنصر اللون الفاقع ليلغي لونها الأصلي، وهذا فعل تجريد وهدم في الوقت نفسه. المنحوتة هنا تبدو كأنها لبست اللون لتغطي جوهرها، وعلى المتفرج أن ينظر نظرًا عميقًا إلى هذه الألوان ليكتشف العمق، تمامًا كما هو الحال مع البشر الذين قد ينخدع المتفرج بمظهرهم الخارجي وبملابسهم الزاهية.

معنى الشكل

هل يحمل الشكل المجرد أي معنى؟ يمكن أن يطرح هذا السؤال كل من يمر بقرب هذه المنحوتات. أو بمعنى آخر، ما الذي يريده الفنان من تجسيد هذه الأشكال الغريبة التي لا نعرف هل هي لبشر أم لحيوانات؟ لماذا لا يلتزم بالأبعاد والشروط الكلاسيكية للعمل النحتي ويريحنا من التفكير والبحث عن الحقيقة؟ وقد يجيبنا بكل بساطة: القطعة النحتية وليدة لحظتها وزمنها، إنها لا تجسد ملامح شيء بعينه، وإنما هي تكوينات نحتية حرة تتخذ شكلها الخاص من لحظة الفنان أثناء إنتاجه العمل الفني، من حركة يده ومن مغامرته العقلية في ابتداع التكوين النحتي. يستطيع المشاهد أن يربط بين هذه التكوينات وبين تجسيدٍ أو شكلٍ ما متخيل في ذهنه، لكنه حين يمعن النظر، وحين يلتف حول القطعة المجسدة ويدور من حولها لن يكتشف شيئًا سوى أن هذه القطعة تمثلُ ذاتها فقط، وهي لا تشبه تكوينات البشر أو الحيوانات أو النباتات إلا نادرًا.

فن الأرض

بينما يلجأ الكثير من الفنانين إلى أعمال الحرق والمعادن الصلبة والمواد الكيميائية يختار محمد أحمد أن ينتمي إلى الأرض، ويُعد مرسمه في مدينة خورفكان هو المصنع الذي تُنتجُ فيه هذه المواد المكونة من بقايا كراتين، ومواد عضوية، ونشا، ولحاء شجر، وصمغ، وبعض أوراق الشاي، وأوراق شجر، وغيرها. هذه الأعمال لا تضر بالبيئة بل تعيد استخدام المواد المهملة في إنتاج أعمال فنية، ومن ثَمَّ فإن هذه الأعمال يمكن أن تترك في الطبيعة وبين الجبل، وقد تمر عليها الشمس من (الشروق حتى الغروب) من غير أن تهدد حياة أي كائن طبيعي.

البعد اللوني المجرد

نلاحظ أن معرض محمد أحمد في البندقية ضم منحوتات ملونة، وأخرى تركها باللون البني وهو لون مادة العجينة نفسها، وبعضها بيضاء في المرحلة الوسط ما بين لونها الأصلي وما بين لحظة طلائها باللون وكأنه يريد التأكيد على فكرة أن العمل الفني يكتسب مفهومًا متغيرًا في كل لحظة من مراحل إنتاجه. هناك عناصر كثيرة تلعب دورًا في هذه النظرة، من بينها عنصر (التغيير) بوصفه بعدًا ثابتًا، تمامًا كالإنسان الذي (لا يعبر النهر مرتين)، إذ كلما تحرك رأى العمل من زاوية ثانية وتغير معها لون القطعة، وهكذا في عملية مستمرة ولا نهائية.

تظل العملية الفنية بحاجة إلى كسر الأنماط وإيقاظ المخيلة لخلق إبداعات جديدة دائمًا، والفنان الحقيقي هو الذي يمتلك هذا الخيال وهذه الجرأة على رفض الصيغ التقليدية الجاهزة، والخروج بمفاهيم مغايرة تؤسس لوعي جديد وتثير في الروح رغبة القفز فوق جميع الحدود الواهية.

العجينة النحتية تتكون من بقايا الأوراق والأشجار
الكتاب

شاعرٌ وأديبٌ من جيل الثمانينيات في الإمارات، صدر له العديد من الكتب عن الفن والشعر والمسرح والرواية.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.