ينحاز (بينالي الشارقة 15) للإنسان والمكان معاً، ويذهب للتعبير عن الحاضر المعيش من خلال قراءة التاريخ المجتمعي، ويضع نفسه في موقع فريد وانتقائي حين يشحذ مساحات العرض بمجموعة هائلة من الأعمال المعاصرة التي صدرت عن فنانين متسقين مع قضايا كبرى في مجتمعاتهم الممتدة على مسطح الكرة الأرضية المتغير وفق متغيرات وحوادث شتى. ويستحضر (بينالي الشارقة 15) التاريخ مرتكزاً على رؤية الباحث والناقد الراحل أوكي إينوزور، الذي وجد في الشارقة المكان الأمثل لإقامة حدث يبقى حاضراً في الأذهان عبر السنين، وهو الناقد الذي أثر بأفكاره ورؤاه في تحفيز وتطوير المؤسسات الفنية المعاصرة في أنحاء العالم وكذلك البيناليهيات الكبرى، لذا فقد استدعت قيمة البينالي حور القاسمي مفهوم التاريخ وفق ما طرحه إينوزور وعملت على إعادة صياغة التاريخ من جديد تبعاً لهذا الطرح، وخلال هذه الدورة من بينالي الشارقة، وقد أمكن لها أن تعايشه في مراحل زمنية متعاقبة كزائرة وفنانة وقيمة ثم كرئيسة لمؤسسة الشارقة للفنون، التي انبثقت في الأساس عن البينالي ثم رعت وجوده وطورته بالقدر الكبير الكائن اليوم. وبحسب اللمحة العامة الصادرة عن البينالي فإن مقترح إينوزور حول “تجمعات ما بعد الاستعمار” وتعدد مفاهيمه الأساسية إنما يشكّل منطلقاً نحو حوارية بينالي الشارقة 15 حول مفهوم الذات في مرحلة ما بعد الاستعمار، والجسد بوصفه مستودعاً للذكريات، والهجونة والاندماج، واسترجاع المعروضات المتحفية، والنظرة العنصرية، والاستمرارية عبر الأجيال، والحداثات الكونية، والتأصيل وتفكيك الاستعمار.
تنتشر أعمال الدورة 15 من بينالي الشارقة عبر كثير من مواقع العرض والأبنية والساحات التي تتوزع في أرجاء مدينة الشارقة بساحة المريجة بما تضمه في محيطها من الأروقة الفنية والبيوت القديمة، ومواقع ساحة الخط في بيوت الخطاطين ومتحف الشارقة للخط وبيت الخزف وكذلك حصن الشارقة ومبنى شارع البنوك، ومواقع ساحة الفنون في بيت عبيد الشامسي وبيت السركال ومتحف الشارقة للفنون،إضافة إلى سوق الجبيل والطبق الطائر، كما تتوزع أماكن العرض في مدن كلباء وخورفكان والذيد والحمرية، فيما يعرض البينالي الخامس عشر لأكثر من 300 عمل فني أنجزها ما يزيد عن 150 فناناً من أنحاء العالم أمكنها جميعاً التواجد ضمن مفهوم “التاريخ حاضراً” ذلك الذي أتاح مجدداً الفرصة أمام استعادة الفنون والعروض المتحفية جنباً إلى جنب أعمال التجهيز في الفراغ والأداء الحركي وفنون الفيديو والفنون الصوتية والموسيقية والسينمائية.
وقد جاءت أعمال البينالي عبر سلسلة من المعارض والمشاركات الفردية التي تم اختيارها من أرجاء العالم لتساهم معاً في التأكيد على مفهوم الحضور التاريخي، حيث بحث الفنانون في محيط وجودهم بالعالم المعاصر وتجاوبوا عبر أعمالهم مع عناصر زمنية ومكانية قائلة بالزخم الإنساني في صراعاته من أجل البقاء ومقاومة شراسة الحروب مع طرح ومناقشة تفسيرات شتى للوجود والمعتقد والرهان المتفاوت نحو مواصلة العيش ومجابهة قضايا المصائر المحتومة عبر الثورات التحررية والهجرات التعنتية.
فيما افسحت هذه الدورة من البينالي المجال أمام الفنانين البارزين من كافة الأجيال، كما منحت الفنانين الناشئين فرصة التواجد مع الأسماء الفنية الراسخة، وسنحاول في هذه القراءة أن نتتبع مجموعة من الرؤى الفنية التي عرض لها البينالي لفنانين إماراتيين وعرب وفنانين من دول عدة من العالم المحيط على امتداده شرقاً وغرباً، ومن الإمارات سعت الفنانة ميثاء عبدالله (Maitha Abdalla) في عملها التركيبي المتنوع “هل ستنتمي الآلهة؟” والذي جاء عبر وسائط فنية عدة قوامها الجص والمعدن والخشب والراتنج والغراء واللوحات الزيتية ورسوم الفحم على القماش والستائر القماشية والفيديو نحو مقاربة التنقاضات والتباينات ضمن مشهد درامي يهتم أساساً بمجاراة الصراع على السلطة وتبيينه، حيث تبدت الهيمنة والسلطوية متمثلة في رمزية الخنزير ومقابلة في الوقت ذاته للوداعة التي تمثلها ها هنا شخصية الديك الموجودة في ثنايا العمل من أجل خلق حوارية بصرية تحاول جاهدة في سبيلها للتفكر في كنه الهوية الذاتية وتعقيداتها وتناقضات بنيتها إن كانت، ومن الإمارات أيضاً واصلت الفنانة أسماء بالحمر (Asma Belhamar) شغفها بالعمارة والتصميم وصنع النماذج الهندسية المعبرة والدالة، حيث صاغت عملها المؤلف من الجص والنماذج ثلاثية الأبعاد والطباعة التجريبية والفيديو وعنوانه “آثار الفريج” لتخلق محاورة معمارية دالة تمزج بين العمارة الإماراتية المتمثلة في التراكيب الخارجية لقصر الشيخ خالد بن محمد وبعض النماذج المعمارية ذات الأصول الآسيوية التي ترمز بها الفنانة للعمالة المهاجرة وما لهذه العمالة من آثار ما على المشهد المعماري القديم في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وعن تجارة الرقيق في شمال إفريقيا والبرازيل قدم الفنان حسن حجاج (Hassan Hajjaj) فيلمه الوثائقي “تآخي الكناوة والكابويرا” حيث نشأت الكناوة الإفريقية ضمن مجتمع الرقيق، وهو المجتمع الصغير الذي دأب على تأدية الغناء الجماعي والرقص الإيقاعي والإنشاد الشعري الروحي ما ميز وجوده عن غيره من الجماعات والأعراق المحيطة، فيما قامت الكاوبيرا البرازيلية باعتماد الرقص والموسيقى لمواراة الطابع القتالي للجماعة والحفاظ على هوية العبيد الثقافية، والمدهش كما بينه حجاج هو ذلك التشابه الكبير بين الكناوة والكابويرا على الرغم من بعدهما الجغرافي عن بعضهما البعض ووجودهما على شرق وغرب الأطلسي الشاسع الفاصل بينهما في اعتمادهما للفن الحركي والصوتي من أجل الحفاظ على كينونة المجتمع وهوية الجماعة لدى كل منهما، وكأن الفن قد آخى بينهما ولا غير.
وقد سعت الفنانة هيلينا ميتافريا (Helina Metaferia) من خلال أعمال مختارة من “طريق الثورة”، وهو عمل تركيبي بوسائط وأبعاد متعددة إلى محاولة كشف التناقضات القائمة في صميم الهوية الأمريكية، وإعادة تقييم مفهوم المواطنة في سياق الهجرة القسرية، وقد ضمت المختارات الفنية وثائق فيلمية لعروض أدائية لأحفاد قادة حركة الحقوق المدنية الأمريكية وسرد قصصي عائلي لأمهات جابهن الاستعمار والعنصرية والتشدد الديني، كما ضمت المختارات مجموعة من الوحدات النسجية المطبوعة بتقنية الشاشة الحريرية والمجمعة معاً بواسطة الخياطة اليدوية.
بينما تخيرت الفنانة زهرة أوبوكو (Zahra Opokku) من نصوص كتاب الموتى المصري القديم مادة أعمالها الموزعة على فصول في كتاب “اسطورة الحياة الأبدية”، حيث اعتمدت الفنانة على الأخشاب والكتان والطباعة بتقنية الشاشة الحريرية وطبقات الطلاء والرمال والقطن الخام والبرونز وألياف الجذور والخيوط النسجية في تقديم تراكيبها المعبرة عن الزمن والحقائق المدركة والأبدية ودرب الأسرار والنصر والموت ويوم الحساب.
وتألف عمل الفنانة عزيزة شادنوفا (Aziza Shadenova) ظلال مكنوزة، وهو من إنتاج مؤسسة الشارقة للفنون كذلك من عدة لوحات وأفلام وعروض أدائية ومزهريات وتراكيب خشبية مزدانة بالكريستال المدلى في سبيله لمحاكاة ظلال أشبه بذاكرة وأحلام الفنانة في طفولتها في أوزبكستان، حيث يظل الانعكاس البصري للماضي حياً بطريقة ما عبر الطيف والظل والصورة الحلمية المهيمنة على المحيط، فهي تسعى لرؤية ما لا يمكن رؤيته، وتجسيد ما لا يمكن له أن يجسد.
وقد نجح عمل بشرى خليلي(Bouchra Khalili) وعنوانه الدائرة في الفوز بإحدى جوائز البينالي، وهو عبارة عن عرض إسقاطي لفيديو ثنائي القناة وأفلام 16 مم محولة إلى فيديو، معروضة على شاشات مكعبة وورق مصقول، وبحسب البيان المنشور مع العمل فإن هذا العمل التركيبي متعدد الوسائط يستقصي إرث حركة العمال العرب ومجموعتها المسرحية “العاصفة” التي نشطت في باريس خلال الفترة من عام 1973 وحتى 1978، وضمت عمالاً غير مسجلين من شمال إفريقيا وعدد من الطلاب الفرنسيين المتضامنين مع قضيتهم في السبيل للتعريف بواقعهم المتردي وظروفهم الحياتية القاسية من خلال العروض الأدائية والصوتية.
أما عمل الفنانة هجرة وحيد(Hajra Waheed) وعنوانه ترنيمةII ، فهو أيضاً من الأعمال التي نجحت بالفوز بإحدى جوائز بينالي الشارقة 15، وهو مؤلف من بناء أبيض كبير مخروطي الشكل ليتيح للتراكيب الصوتية من مصادر عدة أن تتردد خلاله، حيث يظل المعزولين داخل هذا البناء ضمن سطوة صوتية تحاكي بقدر ما فعل المستعمر القديم مع الأفراد والجماعات، حيث تتردد أصوات أغنيات نضالية مؤثرة ومختارة من ثورات ومناهضات سابقة في إفريقيا وأسيا والأمريكتين.
كما نال عمل “مجتث” للفنانة دوريس سالسيدو (Doris Saldedo) واحدة من جوائز البينالي أيضاً، وهو عمل مكون من 804 شجرة ميتة وحديد وينتمي لأسلوب الفنانة التي تميل لتقديم منحوتات ذات طبيعة اجتماعية وسياسية، وفي عملها الضخم هذا قامت الفنانة بإنشاء منزل رمزي من الأشجار الميتة المنحوتة والمجمعة معاً ليكون بمثابة مأوى للمنفيين واللاجئين والمصابين بالصدمات النفسية الحادة، وهو انحياز ضد الرأسمالية التي عملت على تدمير البيئة واقتلعتها من جذورها الضاربة في عمق الوجود الإنساني، ليبقى الفن في هذا السياق قادراً على القول والمجابهة والانحياز لإنسانية الإنسان ضد كل عمل من شأنه أن يمحو أو يزيح ما هو أصيل ومتجذر.
شاعر وروائي وباحث في الفنون البصرية، نال ماجستير تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 2008، كما نال بكالوريوس الفنون التعبيرية من قسم الديكور بكلية الفنون الجميلة بالمنيا عام 1996، وكان قد شغل منصب مدير تحرير مجلة (التشكيل)الصادرة عن جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، كما ترأس لجنة الندوات الفكرية الدولية لملتقى الشارقة للخط ومهرجان الفنون الإسلامية وجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي بإدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة حتى عام 2012،