- العناوين لعبة كلام أكثر من كونها لعبة فن
- البساطة تنتمي إلي كشخص قبل أن تنتمي إلى لوحتي
- مرور الزمن ينفي فرضية التكرار المطلق
- اللامفهوم يحكم الكثير من تفضيلاتنا الفنية
“مصور فوتوغراف يحمل كاميرا وهمية، يستمر بالتقاط صوره المتتالية ملاحقاً اللحظات التي تكوّن بمجموعها تمثيلاً عن الزمن” بهذا التصور يشاركنا الفنان السوري “صفوان داحول” مضمون تجربته الفنية التي لطالما تميزت بقدرتها على إثارة التساؤلات واستفزاز الفضول، سعياً خلف القصص التي حملتها تلك الوجوه، وحول جدلية التكرار في أعماله ككل، عن غياب اللون، وعن الانتماء للبساطة بماهيتها المعقدة، كما يشاركنا في اللوحة ذاتها بمفهوم خاص، ممتنعاً عن مصادرة رؤيا الآخر، فالتفسير المختلف يحمل بعداً قد يتسم بالدهشة بالنسبة له، نقرأه هنا..
صفوان داحول: “الحلم” وجه بملامح بلد
يعتبر موضوع عنوان المعرض من الأمور الحساسة بالنسبة للفنان، وهذا تابع لعلاقته باللغة، لماذا انتقلت إلى عنوان “اليقظة” في معرضك الأخير، بعد سنوات من “الحلم”؟
منذ البداية كان “الحلم” هو العنوان العريض الذي التزمت به، غيرت به قليلاً في بعض الأحيان، إلا التغيير كان جذرياً في المعرض الأخير.
“الحلم” مرتبط بحلم قديم كان لدي بأن أقيم معرضاً كاملاً من لوحة واحدة، وهذا المعرض كان عبارة عن وجه واحد يتكرر مراراً، ولكن في كل مرة كان يحكي قصة جديدة تخص هذا الوجه، الذي أعتبره بلداً أكثر مما هو وجه.
أعتقد أن “العنوان” بمضمونه لعبة كلام أكثر من كونه لعبة فن، فهو مجرد إيحاء للمشاهد، وقد يكون دليلاً لقراءة اللوحة، فهو أشبه بحجة للفنان ليقدم معرضه، لكن بالنسبة لي أتمنى أن يكون المعرض بدون عنوان.
هناك جدل جانبي في عالم الفن والنقد حول ضرورة أو عدم ضرورة تقديم الفنان للعمل الفني وشرحه، والتي يرّد عليها غالباً بضرورة الفن ذاتها على أنها جاءت تعبيراً عن قصور اللغة، كيف تنظر إلى هذه المسألة؟
بالنسبة لي دائماً أشعر بأني أفتقد للقدرة على شرح لوحتي، أولاً لأني أراها بسيطة جداً ولا تحتاج إلى الشرح لا كحالة بصرية فقط ولا حتى كموضوع، وثانياً أنني في الكثير من المرات أجد أن تفسير الآخرين للوحتي أهم من التفسير الذي قد أقدمه،
بمعنى أنني أعتبر أن المشاهد شريك في اللوحة يمتلك حق المشاركة بشرحها كما قرأها هو، ربما أكتفي بالقول بأنني أعتبر لوحتي رمزاً وليست وجهاً مكوناً من مجموعة عناصر، ففي كل لوحة هناك حكاية.
بمناسبة الحديث عن البساطة والتي يمكن القول أنها “السهل الممتنع” في الفن، لا بد من الوقوف عند هذا المفهوم المعقد ببساطته في أعمالك.
أنا أنظر إلى العمل الفني سواء كان بسيطاً أم يميل بتكوينه إلى التعقيد على أنه لغة، عندما تكون هذه اللغة محكية بطلاقة وبدون مشاكل بالعلامات والأدوات، أي عندما تكون هذه اللغة واضحة وصريحة وقادرة على الوصول إلى الطرف الآخر بكل بساطة فهذا هو جواز السفر لأي عمل فني بغض النظر عن الأسلوب.
أما البساطة على الصعيد الشخصي، فأنا أعتبر أن البساطة تنتمي إلي كشخص قبل أن تنتمي إلى لوحتي، فهي الأسلوب الذي اعتمدته في حياتي منذ كنت صغيراً بدون قصد وبدون ادعاء وبدون أسباب كبيرة، ولا يمكنني اعتماد أي أسلوب آخر، فهذا هو المكان الذي أنتمي إليه، ومن الصعب أن أنسجم مع أسلوب آخر.
من منظور آخر يمكنني القول أن البساطة مفهوم معقد أيضاً، فليس من السهل أن نعبر عن الفكرة بأقل التفاصيل الممكنة، لهذا يقولون عنها أنها السهل الممتنع، وهي بالفعل هكذا، لذا تقتضي أن يكون خلفها جهداً كبيراً بحيث لا تكون بساطة بمعنى السهولة.
الحديث عن “التكرار” كمفهوم كرّسته بتجربتك الفنية عمداً، يعتبر ضرورة لفهم هذه التجربة، كل هذه الوجوه من أين جاءت؟
ربما لأقرب الفكرة يمكنني القول أنني بمنظور داخلي أعتبر نفسي مصوراً فوتوغرافياً أكثر من كوني رساماً، لكن هذا المصور يحمل بيده كاميرا وهمية (غير مادية)، وبهذه الحالة أعتبر أني أصور يوميات شخص ما مدى الحياة، داخل مكان محدد، بينما تمر اللحظات التي تكوّن بمجموعها الزمن، حيث تختلف كل لحظة عن التي سبقتها، لهذا لا يكون هناك تكرار لأننا نؤمن أن الزمن يمر، وأن الشخص لم يعد هو ذاته، واللوحة أيضاً، خاصة عندما تتحدث عن الزمن.
لكن يبقى الزمن الذي تركته هو الأثر الذي يخصك، وبالتالي الجمال في الفنون، عندما نتأمل الفنون القديمة لكل الحضارات التي مرت على الكرة الأرضية نرى أنها تركت أثر يخص الزمن الذي تنتمي إليه، واليوم نحن في عام 2022م، ولا أعرف إلى متى سوف نستمر، الأثر الذي نتركه ينتمي إلى الفترة التي عشناها، وبالتالي نحن شاهد يوثق هذا الجزء من التاريخ.
وعلى الصعيد الشخصي أنا معني بالزمن، فعندما أعود إلى صوري الفوتوغرافية من مراحل مختلفة أتساءل عما إذا كنت الشخص ذاته أم أني أصبحت شخصاً آخر، فمع الوقت يتغير كل شيء، فالزمن مادة متحركة وبالتالي كل مرة تعطي نتاجاً مختلفا سواء إيجابياً أم سلبياً، ولهذا يعتبر مادة في غاية الأهمية بالنسبة للفنان، فعلى سبيل المثال أنا اليوم أعيش زمن يطغى على العالم فيه تفكير الحرب أكثر مما يطغى التفكير بالسلام، سواء على صعيد ما يحدث في العالم أم على صعيد ما يحدث في بلدي، لذا أذكر هذا في عملي كشاهد على هذه الفترة الزمنية، وبالتالي أنتجت أعمالاً مختلفة عما كنت أقدمه في الماضي، فعلى سبيل المثال لم يكن يخطر في بالي إطلاقاً قبل إحدى عشر سنة أن أرسم وجهاً مشروخاً إلى نصفين، لكنني اليوم أستطيع رسمه لأنني أعيشه، والسبب هو الزمن الذي مر بنا وأعطانا مشاهدات جديدة.
وبالحديث عن التكرار يمكننا ذكر “رامبرانت” الذي رسم لنفسه أكثر من أربعين بورتريه، بالتأمل في تفاصيل هذه التجربة المتعلقة بأحداث حياته نجد أن رده على موت زوجته وأولاده كان القيام برسم نفسه لمرات كثيرة تبين التغيرات التي طرأت عليه عبر الزمن، وربما من الصعب تفسير ما كان يدور في ذهنه، لكن يمكن القول أنه كان مختلفاً كل مرة.
مع مرور الزمن تقلصت علاقتك بالألوان، وقد ذكرت في إحدى المرات عندما سئلت عنها أنك لم تعد ترى الألوان، هل تخبرنا عن تدرج هذه العلاقة باتجاه محدودية اللون؟
أحياناً تحدث لنا الأشياء دون قصد مباشر منا، وهذا ما حصل لي، فلم أفكر يوماً أو أقرر أن أعمل على تخفيف الألوان في لوحتي، لكن قد يعود هذا الميل إلى التأثر بالدراسة والعلم، لكن يبقى هناك جانب خفي لا ندركه، ربما يرتبط بالعقل الباطن واللاشعور، عندما يصحبنا إلى مكان فيه أقل قدر ممكن من الألوان يجب أن نجرب، وأنا بالفعل جربت ووجدت أن هذا ما أريده بالفعل، والكثير من الأشياء في حياتي كان لها علاقة بالصدفة لا بالعقل.
في إحدى المرات في حديث مع صديقي الفنان محمود جليلاتي “رحمه الله” أخبرني أنه يشعر أن ثمة شيء ناقص في لوحتي، ولم يقصد النقد بل كان يعبر عن شعوره وحسب، إلى أن رسمت لوحة كبيرة الحجم ذات مرة، فأخبرني أن الشيء الناقص كان في المساحة، بمعنى أن عملي كان بحاجة إلى مساحة كبيرة، وكانت ملاحظته من أهم الملاحظات في حياتي، فعندما زدت مساحة اللوحة تخلصت من التفكير بالجسد والعناصر الأخرى، فالشكل أصبح يمتلك تكويناً خاصاً مستقلاً فيه تقطيع للشكل مع زوايا أكثر، وفراغ أكبر، وصار له قيمة مختلفة بالنسبة للأعمال الصغيرة، وهذا اكتشفته بالصدفة، والأمر ذاته بالنسبة للون، حيث شعرت أن الأمر مناسب عندما خففت الألوان، لم أتعمد الأمر ولم أكن أعرف أنه سوف يستمر لوقت طويل، ولا أعرف إلى متى سوف يبقى، فمازلت مستمراً منذ خمسة عشرة سنة بأقل قدر من الألوان وما زلت أتمنى أن أخفف أكثر من درجات الألوان التي أستخدمها.
ما هو “الحلم” بالنسبة لك؟
لا شيء أكثر من لعبة نعرف أنها بعيدة عن المنطق، لكننا نستمر بملاحقته لأن الأمر يصبح ممتعاً، لكن للأمانة ليس لدي أحلام، ولعل الأمر أشبه بالوصول إلى نجاح تحلم به طويلاً فتكتشف أن طعمه مر عكس ما كنت تظن، الحلم كذلك، أعتقد من الأفضل أن نلاحق الحلم دون أن نعرف ما الذي ينتظرنا، ربما لأن الحلم يساعدنا على الاستمرار في الحياة، فنحن مطالبين بالأجمل في كل الأحوال.
ما هو المميز في تعيش كفنان؟
أجمل ما في حياة الفنان أنه يتمنى أن يكون لديه ألف سنة ليعيشها، هذا أنه مهما حقق من اكتشافات في نطاق تجربته، يشعر أنه ما يزال في بداية الطريق، أو ما يزال في بداية اكتشافاته، فكلما لاحق اكتشافاً يجد أن هناك المزيد، ومهما حقق في سياق هذا الطموح يشعر بأنه حلقة بين الماضي والمستقبل، فهو يكمل مسيرة من سبقوه ليأتي من بعده من يكمل مسيرته، ولهذا أعتقد أن كل فنان يتمنى أن يمتلك القدرة على التأثير على هذا الكون للأفضل وللأجمل.
وربما يمكن إسقاط هذا المفهوم على هاجس التكرار، لكن بمعنى آخر يشبه الحديث عن تكرار حيوات مختلفة لنسجل لقطات بعيدة عبر الزمن، فأنا أؤمن بأننا جميعاً متشابهين بهذا الشيء، من حيث سيطرة هاجس معين على كل شخص ليستمر بتكراره، بالنهاية نحن جميعاً نكرر أحلام وأوهام فنانين سبقونا، فإذا نظرنا إلى الفن عبر التاريخ نجد أنه يكرر الأفكار ذاتها عن الحب والموت والحرب، فتبدو جدلية الحياة أشبه بدائرة تستمر إلى ما لانهاية، فالحروب لم تنتهي، والموت أيضاً، والحب كذلك.
فنانة وصحفية، درست في جامعة حلب قسم علم الاجتماع وتخرجت عام 2005،مختصة في رصد ومتابعة الحراك الفني والثقافي في دولة الإمارات.