دَعْ أحزانَكَ تَتْبعُ مَجْرى النّهرِ
في الضِّفّةِ الأُخرى مَمشىً للوَحيدِينَ
الطّريقُ يتَّسِعُ كُلَّما تَوغَّلْتَ فيهِ.
جينالوجيا المكان وفلسفة الوجود
بمنهج ظاهراتي تتجلى فضاءات المدينة بكامل أبعادها الزمانية والمكانية، وترتبط بأبعاد التجربة الذاتية في بعدها الشعري الرمزي، فالفنانة والشاعرة والمخرجة السينمائية نجوم الغانم، قادرة على وصف فضاء وخلق عالم وإحالته إلى الذات وتجاربها العائدة إلى مرحلة الطفولة بأمكنتها المحفورة في الذاكرة، وإسقاطها على المراحل العمرية بكامل معاناتها ومشاهداتها وتداعياتها.
تستثمر نجوم الغانم الصور النفسية النابعة من عندياتها للتعبير عن حميمية وصدق مكونات المشهد الفني / أي المدينة التي ترتبط بالروح أكثر من ارتباطها بالهندسة، وتلتصق بالوجدان والخيال أكثر من التصاقها بالواقع. لكل فضاء في مدينة نجوم الغانم ركن من أركان بيت، شارع، شباك، باب، شرفة. وهي تستحضر مشاغل الحياة وحركة المدن الكثيفة، والتي في خضمِّها، يتراءى بيت الطفولة الذي نبحث عن ألفته في واقعنا، حيث نقوم دون وعيٍ بإسقاط الذكريات بمراحلها المتنوعة على ما نجده أمامنا.
فالمدينة لدى نجوم الغانم تمثل المنطلق والأصل، وهي الركن والبيت الأول، وهي العالم المتناهي في الصغر والمتناهي في الكبر، وهي تتوحد معها لتصبحا كيانا واحدًا، يسرد غاستون باشلار في كتابه “جماليات المكان” قائلًا: “فلو طُلب مني أن أذكر الفائدة الرئيسية للبيت لقلت: البيت يحمي أحلام اليقظة، ويتيح للإنسان الفرصة لأن يحلم بهدوء… فبدون البيت يصير الإنسان كائنا مفتتا”.
تستجمع نجوم الغانم ذاكرة المكان المنبثقة من ذاتها وعمق تجاربها لتشييد عملها الفني وملئ فضاءاته بلغةٍ تعبيريةٍ عميقةٍ كعمق الذات ولغتها الرمزية. وتتداخل في لوحاتها الخطوط السوداء والبيضاء، والأشكال والألوان الحارة التي تتراوح ما بين الأحمر والأصفر لتجسد جوهر المدينة الخارجي الذي يتماهى مع جوهر الإنسان الداخلي الباحث عن مرجعيته الزمانية والمكانية والإنسانية.
البحث عن ملاذ آمن
تبحث نجوم بين ناطحات السحاب التي صارت بمثابة رقعة إسمنتية خالية من الروح، عن ركن مركزي تشعر فيه بالأمان، وتلتمس فيه هويتها الراسخة، وعن أفقٍ فسيحٍ يستوعب همومها، فتأخذ المدينة في لوحاتها شكلها الأصلي لتعبر عن ذاكرتها الخاصة، وعن كنوز النفس المكنونة، وعن الوجود
الإنساني الذي يتأرجح بين الذات والخارج الشاسع، لتكشف لنا عن عبق الماضي وجمالية الحاضر، وهي بذلك تعطي مساحة للمشاهد بأن يتساءل ويتأمل في كل ما يحيط به، ويبحث عن ما وراء المادة وما وراء المظاهر، من أبعاد جمالية وروحانية، انها دعوة للتدبر وإعادة التفكير في مفاهيمنا وإدراكنا للواقع. هذا البناء والمفهوم الجمالي الذي تشييده الفنانة، نابع من ذاكرتها، وطفولتها، ونشأتها، فنجوم الغانم هي شاهدة على التحولات الجذرية للمدينة، خاصة في تلك الفترة التي كانت تنتقل بها ما بين أميركا والإمارات للدراسة، مما أتاح لها تكوين تصور عن المنطقة من بُعد.
تقص علينا نجوم الغانم حكاية المدينة فائقة الحداثة، وتشير بأنها دائماً في تحدي معها، حين تقول: “ تقتحم المدينة حياتنا وتزعزع السكينة في دواخلنا، فبدلًا من المناظر الطبيعة، كانت المشاهد أمام منزلي عبارة عن أسمنت وحجارة، وعن بناء يشيد وبسرعةٍ من العدم
وهي بذلك تشير الى مسألة الوقت، والتطور السريع عبر الزمن، والى فترة الاغتراب ومرحلة انتقالها بين عالمين ومدينتين مختلفتين، وتضيف قائلةً: “ أصبحنا نتماهى داخل المدن، وأصبحت أرواحنا هائمة في المدينة”.
حنين البلدان لسكانها
تبحث الفنانة في أعماق روحها عن الفن بكل أبعاده، لتتوحد معه. فالفن بالنسبة لها هو الإنسان، ومتى كان الفن موجوداً، وجدت الإنسانية في تجليات كثيرة، حيث تقول: “للفن جوهر خاص به، هو ما يربطنا كبشر بعلاقتنا معه. وهي علاقة غير مفهومة، وغامضة، وتكاد تكون فطرية حيث إن انتمائنا للفن هو انتماء فطري، الفن هو ما يغذي الأحاسيس، ويحث على الإبداع، وهو جزء أساسي من تكويننا”. ترصد الفنانة نجوم الغانم في أعمالها حالة الازدحام الشديد في المدن، والتي يحكم بناءها الكثير من الخيال من جهة تكوينها، وألوانها المتوهجة. وتعكس لوحاتها الصراع بين الإنسان وبيئته، بين الداخل والخارج، ولا تنفصل أعمالها الفنية عما قدمته في مراحل سابقة، سواء على مستوى الإخراج السينمائي، أو الفن، أو النتاج الشعري، حيث نتلمس ذلك في قصيدتها “حنين ُ البلدان ِ لسُكـّانها” تقول:
بين ضفتين
الإنسان والمدينة
يمثل العمل الفني المعنون “بين ضفتين” (2023-2022) مساحةً تأمليةً لجدلٍ وحوارٍ حول جملةٍ من القضايا التي اعتادت الفنانة نجوم الغانم أن تطرحها، وهو عنوان كذلك لفيلم وثائقي (1999) يروي معاناة آخر العابرين بين ضفتي خور دبي، وكلاهما امتدادٌ لمشروعٍ فنيٍ بصريٍ لا يخلو في بعض تأويلاته من رثائية توثيقية للمدينة باعتبارها فعلاً اجتماعياً وإنسانياً أكثر من كونها فعلاً هندسياً وعمرانياً.
تشير نجوم الغانم بأن “هذه اللوحة إنما هي انعكاس لواقعنا ولوجودنا، وهي تجسد مرحلة الانتقال من ضفة لأخرى، حيث تتجلى الأشياء بوضوح أحيانا وبغموضٍ في أحيانٍ أخرى، حيث نبتل بالماء أو لا نبتل، حيث تأخذنا الرحلة إلى أبعد مما نتصور، وقد نصل أو لا نصل، وقد نغرق مثل الكثير من الأطفال الذين غرقوا أثناء عبورهم الطريق، ولكن أرواحهم لا تزال هائمة في الذاكرة، وفي الفضاء وفي الماء، وفي المدن، فبعضنا وصل إلى ضفاف أخرين وبعضنا لم يصل”.
خارج الإطار
مما لا شك فيه أن نجوم الغانم تقترب في أطروحاتها الفكرية والفنية من النزعة الإنسانية والوجودية، فهي تتكئ على موروثها الثقافي وفهمها لتاريخ الأمكنة والزمن بما هو ماضٍ تأسس بشروطه، وبما أن المستقبل هو ما يتحقق بتأسيس الحاضر، بالتالي فالماضي والمستقبل “خارج الإطار”. وينطبق المفهوم ذاته على خطاب نجوم الغانم، حيث تضع خبراتها وملخص ثقافتها الواسعة في الفن والشعر والإخراج، لتأسيس منظومة مفاهيمية تقع بين فلسفة الوجود والإبداع بمختلف أنواعه.
“خارج الإطار” هو عنوان المعرض الشخصي الذي تقيمه الفنانة نجوم الغانم في غاليري عائشة العبار في دبي، والذي يضم مجموعة من أعمالها الفنية القديمة والجديدة، والتي نفذتها فيما بين الأعوام (1994- 2023)، ومن الجدير بالذكر أن تجربة الفنانة نجوم الغانم الفنية تعود إلى أبعد من ذلك بكثير، فقد بدأت مسيرتها في منتصف الثمانينيات بعد لقائها الفنان الراحل حسن شريف، وأنتجت حينها بعض اللوحات والأعمال النحتية في “مرسم المريجة” بالشارقة، وفي شهر يناير من عام 1985 شاركت في تأسيس “جماعة أقواس”، وفي المعرض الجماعي الذي أقيم ليوم واحد في السوق المركزي بالشارقة، وشاركت أيضاً مع جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في المعرض السنوي الرابع.
أسهمت نجوم الغانم في العديد من المجالات الإبداعية والفكرية في دولة الإمارات، فقد نشرت ثماني مجموعات شعرية، وأنتجت نحو عشرين فيلماً، بما في ذلك سبعة أفلام وثائقية طويلة، إضافةً إلى عدد من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة والأفلام الفنية. وقد فازت معظم أفلامها بجوائز إقليمية ودولية. اختيرت عام 2019، كفنانة ومخرجة سينمائية وشاعرة لتمثيل بلدها في جناح دولة الإمارات في بينالي البندقية، وفي عام 2021 أقامت معرضاً فردياً بعنوان “ملامح” في مركز مرايا للفنون والذي ضم أكثر من 2000 ألفي عمل فني.
نجوم الغانم فنانة وأديبة وشاعرة ومخرجة، متعددة المواهب من جيل الرواد، الذين فتحوا درباً للأجيال القادمة وهي من الذين يرسمون باللون والكلمة فلسفة الزمن القادم.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي