الفن هو الوسيلة الوحيدة لأن أقدم نفسي، وتاريخي، وحضارتي للأسرة والمجتمع، وأتمنى أن أكون قد قدمتُ شيئًا
يعَدّ الفنان عبد الرحيم سالم في طليعة الفنانين الإماراتيين الروّاد، الذين ساهموا في تشكيل المشهد الفني في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأحد المؤثرين الكبار في الساحتَين المحلية والعربية. فضلًا عن كونه أحد الأعضاء المؤسِّسين لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية في الشارقة، والتي شغل فيها منصب رئيس مجلس الإدارة لأكثر من دورة. أسَّس سالم عام 1984 -إلى جانب كل من الفنان الراحل حسن شريف والفنان حسين شريف- مجلة “التشكيل” وهو من أوائل الفنانين الذين توجهوا في السبعينيات إلى القاهرة ضمن بعثة لدراسة الفنون، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في قسم النحت من كلية الفنون الجميلة، جامعة القاهرة عام 1981، وعمل عند عودته في حقل التعليم، كمدرس للفن في إحدى المدارس الحكومية في الإمارات، وأسهم بإعداد سلسلة من الكتب الفنية للأطفال لصالح وزارة التربية والتعليم، وشارك بوضع أول منهج أكاديمي لتعليم الرسم في المدارس.
قدم سالم أيضًا العديد من الدورات الفنية في مقر الجمعية وغيرها، فأسهم في تعليم وتثقيف جيل الشباب في حقل الفنون.ترتكز أعماله الفنية على التراث والموروث الثقافي وتأصيل الهوية في الفن، وتجسد ممارساته الفنية التصوف، ومواضيع السحر، والأساطير الشعبية، والتقاليد والعادات المتوارثة. وهو فنان شغوف يقضي معظم أوقاته في إبداع أعماله الفنية، وهو “يرسم أسرع مما يتكلم”؛ وذلك نظرًا إلى غزارة نتاجه الفني. بدايةً، اعتمد سالم في ممارساته الفنية على قلم الرصاص والباستيل والفحم، وعُرِفَ بمهارته في فن الكولاج واستخدام اللونَين الأسود والأبيض لإبداع أعمال تجريدية تعبيرية، تتسم بالحركة والغموض، وبعدها أتت مرحلة استخدام الأكريليك في تنفيذ أعمال تجريدية، لكنه دائمًا ما يعود إلى التشخيص، فهو كما يصفه: “بمنزلة الأكسجين لي ”
وغالبًا ما تضم لوحاته الإيمائية في طياتها أشكالًا وخطوطًا متقاطعة تبرِز التباين بين الظل والنور والأبيض والأسود في الكثير من مراحله، وهو يسعى إلى “صياغة ثيمات عالمية عن طريق خصوصية الإشارات البصرية التي يرتكز عليها، على الرغم من أن أعماله تنطق بجذوره وتعبّر عنها”(1)
الفن والمجتمع
حمل الفنان عبد الرحيم سالم همَّ المرأة والمجتمع، وكان هاجسه ولا يزال تقديم الجانب الإنساني من مجتمع الإمارات، ويركّز في أعماله غالبًا على التراث والموروث الثقافي، وهو يسعى إلى توظيف التراث الشعبي توظيفًا ديناميكيًّا للتأكيد على التقاليد الأصيلة للمجتمع الإماراتي،فيستحضِر الحكايات الشعبية و”الخراريف” التي ترتكز على الذاكرة الجمعية وما صاغته المخيلة من رموز ومعارف تراكمية،
فتطالعنا “مهيرة” التي جسَّدها في معظم أعماله الفنية كرمز سعى من خلاله إلى تغيير النمطية السائدة في التعامل مع المرأة والنظر إليها، فهي عنده حرة وقوية ومنفلتة من أي قيود، وقد لُقّب سالم بـ “عاشق مهيرة”؛ لكثرة ما سكنت تلك المرأة الأسطورة أعماله الفنية، ولكثرة ما رصد تحولاتها عبر الزمن، كأنها الشاهد على فكره وهواجسه وطفولته وحكاياته، فمهيرة الحاضرة دومًا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من فكره وفنه وإرهاصاته، لقد سخَّر عبد الرحيم سالم أسلوبه الفني لقضية مهيرة، وهو البارع في النحت والمنفتح على شتى أنواع فنون الحداثة وما بعدها، فعلى الرغم من انخراطه مع البعض في تجارب مفاهيمية وأعمال تجهيزية وتركيبية وغيرها، فإنه ما لبث أن عاد إلى اللوحة حاملًا لواءَها، فهي وحدها في نظره القادرة على تجسيد تصوراته الفنية والفكرية.
الأصالة في استلهام التراث الشعبي
عند دراستنا للفولكلور أو الفن الشعبي الإماراتي، نجد أنه يتمتع بالتنوع والقدم، وتراكم ثقافات وفنون حضارات متعددة، انتقلت من بلاد فارس ودول أفريقيا والهند وذابت في المجتمع الإماراتي والخليجي عمومًا. ويعتبر التراث الشعبي الإماراتي بمنزلة رابط للشؤون الإنسانية رغم أذواق الشعوب المختلفة في دولة الإمارات، سواء كانت فنونها نابعة من حاجات معيشية أم جمالية.
تعتبر الأساطير والحكايات الشعبية ظاهرة من أهم ظواهر الثقافة الإنسانية، ومصدرًا ملهمًا للفنان، وقد أدرك الفنان عبد الرحيم سالم -منذ بداياته- قيمة الحكاية الشعبية وأهمية الربط بين موروثه الشعبي وأعماله الفنية، وبحث لعدة سنوات عن الأساطير والحكايات الشعبية، وعالم السحر، في محاولة لربط هذه الموضوعات إبداعيًّا مع الفن. يقول سالم: ” يُعَدّ الفن الشعبي بمثابة سجل حيّ يدوِّن فيه الإنسان مختلف مراحل حياته وخلاصة تجاربه”.
يشير سالم إلى أن الهدف من استلهام التراث الشعبي في الأعمال الفنية المعاصرة هو اطلاع الجيل الجديد من أبناء الإمارات على حقبة من الزمان كان أجدادهم فيها مثالًا يحتذى به في الكفاح والصمود والتحدي، ناهيك عن الدلالة الاجتماعية في الحكاية الشعبية والوظائف الثرية والمتنوعة التي تؤديها في حياة متلقِّيها، فالأدب الشعبي يزخر بعميق التجارب التي تعبِّر عن آمال الناس وطموحاتهم وإرهاصاتهم واهتماماتهم، فضلًا عما تحويه من أبعاد رمزية عن تجارب الإنسان وما تطرحه من قضايا ومشكلات وشخصيات افتراضية تتسم في كثير الأحيان بالشجاعة والحكمة.
أبعاد المنجز الإبداعي في استلهام التراث الشعبي
شكَّل مجتمع الغوص على اللؤلؤ جانبًا مهمًّا من تراث مرحلة زمنية فاصلة، تركت أثرها على الوجدان والذاكرة والإبداع أيضًا، فلا عجب أن يتناول الفنان عبد الرحيم سالم علاقة الإنسان بالبحر ويستلهم أجواء الغوص على اللؤلؤ وصورة البحار وفن النهمة، لتقديم عرض فني أدائي ضمن فعاليات بينالي الشارقة 15 في مدينة كلباء، قدَّم خلاله صورة مغايِرة ومعاصِرة لاستلهام الأحداث والأجواء التراثية الخاصة بتلك المرحلة، ورافقته فرقة فنية شعبية تعبِّر عن روح الجماعة وجمالية الموروث، وللوهلة الأولى قد يخيَّل للمشاهد أن استلهام التراث جاء ليعبِّر عن ظروف مرحلة ذهبت، لكن عند الوقوف على المشهد الأدائي وأبعاده التي يطرحها سالم، يدرك أن الشخوص والأحداث مرتبطة بالبحر والغوص، أما الأهازيج فجاءت بمثابة محاكاة للواقع المعيش،فقضية إنسان اليوم لا تختلف عما عاشه البحار وما واجهه من صعوبات وتحدٍّ للمخاطر ومصارعة الأقدار والمجهول.
“البحار المجهول وفن النهمة”
البحَّار المجهول، عنوان العرض الفني الأدائي، الذي استحضر فيه سالم التراث الشعبي والتقاليد والعادات الموروثة والفنون البحرية، وهو عرض أداء حي يتمحور حول أهازيج البحر الإماراتية، رافقت سالم فرقة شعبية تؤدي فن النّهمة، وهو فن مقصور على البحر والبَحَّارة، ويحتوي على أغانٍ وشلات وأهازيج يغنيها النّهام؛ بهدف بعث الحماس في نفوس الصيادين وتشجيعهم على العمل والصيد الوفير، ويعبِّر أيضًا عن شوق البحارة والغواصين إلى زوجاتهم وعائلاتهم، ويكشف عن حجم معاناتهم في موسم الغوص، فيتماهى سالم بفنه وحركته مع ما تقدِّمه الفرقة وسط أهازيج “اليامال”، وهي لون غنائي تقليدي يواكب سير العمل في السفينة ويتحدث عن تاريخ الصيد والغوص في الخليج العربي، ويجسد روح النخوة والألفة بين البحارة، ويُستخدم أيضًا لضبط إيقاع حركة المجداف أثناء الإبحار، وهو يلهم سالم لإبداع عمله الفني بعد أن استبدل شِباك الصيد بالقماش، وسطح المركب بساحة مصنع الثلج في كلباء، وقارب العمل الفني بالصيد الثمين، والفرقة الشعبية بالبحارة:
“يا هي يا مال… يا هي يامال… يلا صباح الخير رزقك ع الله يا طير… هي يا مال… هي يامال… عبود… عبود…”
يربط الفنان عبد الرحيم سالم في هذا العمل الفني الماضي بالحاضر والتراث بالمعاصرة من خلال تنفيذه لعمله الفني، وسط أجواء من البخور والرقص والموسيقى الشعبية وفن النهمة، حيث التراث والموروث الثقافي و”التاريخ حاضرًا”،
وهو الشعار ذاته الذي يرافق البينالي في هذه الدورة.
1 – “بينالي الشارقة 15: التاريخ حاضزاً”، دليل البينالي، مؤسسة الشارقة للفنون، 2023.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي