تصحبنا الفنانة فاطمة الحاج في جولة بين أعمالها الفنية وما تطرحه من قيم اجتماعية، وفلسفية، وتاريخية تستحضر مجموعة من العلماء، والمفكرين، والثائرين وتتوغل في تفسيراتهم المختلفة لفهم الطبيعة، والحياة، والإنسان وفق طروحاتها الفكرية وأسلوبها الفني المتفَّرد؛ لتقدم لنا ُهِوَّيَتها الفنية وفلسفتها الخاصة للتاريخ والوجود.
تصحبنا فاطمة الحاج في جولة بين أعمالها الفنية وما تطرحه من قيم اجتماعية، وفلسفية، وتاريخية تستحضر مجموعة من العلماء، والمفكرين، والثائرين وتتوغل في تفسيراتهم المختلفة لفهم الطبيعة، والحياة، والإنسان وفق طروحاتها الفكرية وأسلوبها الفني المتفرَّد؛ لتقدم لنا هُوِيَّتَها الفنية وفلسفتها الخاصة للتاريخ والوجود؛ فمن (عنترة) وثورته للحب والحرية التي خرج منها منتصرًا، إلى (مفكر رودان) الذي تُمَجِّد من خلاله القراءةَ بوصفها الدافع الرئيسي وراء الحراك الحضاري، ثم (تشايكوفسكي) وسحر الموسيقى الكلاسيكية التي تتجلى في أعمالها كسمفونية بصرية تحاكي الروح، إلى (تاريخ الفن) وتفسيره المرئي لحضارة الشعوب وتراثها، وإلى (الشعر) وقصائد نظامي الكنجوي وغيره المجسدة في لوحاتها، وإلى الشخصيات الأسطورية الإغريقية والفينيقية التي تستحضرها من أجل إنقاذ ما آلت إليه أوضاعنا الراهنة، وتختم الفنانة سلسلة من أعمالها الفنية الجديدة باستحضار علماء العصر الذهبي للعلوم؛ لتضعنا أمام واقعنا القائم على قواعد النهضة والسقوط، عَلَّنَا نتمثل بأمجاد العلماء في الحضارة الإسلامية بوصفها دافعًا لإحياء الإبداع، والابتكار، والتأمل في غد أفضل.
إن إلمام الفنانة بأحداث المنطقة ومعاناة شعبها، إضاقة إلى شغف القراءة والبحث في تاريخ العلوم عند العرب أوصل الفنانة إلى عوالم أخرى بعيدة؛ لتستقي منها أعمالها الأخيرة التي لم تُعرض بعدُ، وهي تستحضر تاريخنا المُشرق، لا بالأمجاد والبطولات كما في السابق، بل بالعلم والإنجازات العلمية، وهي ترسم وتكتب وتجسد بعضها في أعمال ومجسمات ضخمة؛ فيطالعنا الجزري، وجابر بن حيان، وابن الهيثم، والخوارزمي، وابن سينا، وغيرهم من عظماء العلم والتاريخ.
تقدِّر الفنانة فاطمة الحاج أهمية دراسة تاريخ الحضارة الإسلامية وإنجازاتها العلمية، والتوغل في أبحاث تاريخ العلوم ودراسة تطوُّر الأفكار، وجدير بالذكر أن تلك الحقبة لم تكن قصيرة، أو أمرًا عارضًا، بل كانت حقبة مهمة جدًا في تاريخ البشرية توَّجت العرب إمبراطوريةً قوية بفضل علومها وأدبها. ولا يقتصر الأمر على حنين الفنانة إلى الماضي، وإنما أرادت أن تُذَكِّرنا بأمجاد العلماء في الحضارة الإسلامية بوصفها دافعًا لإحياء جذوة الإبداع والابتكار في هُويتنا وتراثنا؛ فحضارة اليوم لا تنفصل أبدًا عن الإنجازات العلمية السابقة.
نزهة في الطبيعة
تأثرت الفنانة كغيرها بتداعيات جائحة كورونا، وبأخبار المنطقة، وبشكل خاص انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020؛ تلك الفاجعة التي تركت لديها إحساسًا عميقًا بالاغتراب القصري -كما تقول- إذ كانت موجودة في باريس، وقد تجلى كل ذلك في تجربتها وأعمالها الفنية الجديدة. أقامت الفنانة فاطمة الحاج معرضها الأخير في غاليري مارك هاشم في باريس، الذي انتقل إلى بيروت تحت مسمى “نزهة في الطبيعة”، ويشتمل على مجموعة من الأعمال التي تعكس مشاهد المناظر من ساحات باريس، ومتاحفها، وحدائقها. وهي تشير أيضًا إلى نُزهتها مع قصائد العديد من الشعراء، ونستطيع أن نَلمح بين تفاصيل اللوحات أشباحًا لقلاع ملونة، ومشاهدَ حالمة لأميرات فارسيات مستلهمة من نصوص للشاعر نظامي الكنجوي، وهي تستحضر أيضًا وأحيانًا ضمن المساحة نفسها شخصيات أسطورية ربما من أجل إنقاذ لبنان والعالم من قسوة الظروف القاهرة والحروب.
المفكر وشقائق النعمان
تمتد الألوان نحو طقوس الحياة، فتتغير المواسم بتغير الزمان، فتنبت بين هذه الفصول ألوان وطبيعة خاصة تكرس نفسها لخلق بيئة فنية ذات مندرج فلسفي، فتنقسم الأعمال وفقًا لطبيعة الزمان نفسه في اقترابه من الأرض في فصول الحياة البدائية. تتجلى تلك العلاقة واضحةً بين الفنانة واللوحة من خلال مراحل تطور فكر الوعي؛ فاستلهام المفكر رودان وتقديمه في إطار اجتماعي وثقافي جديد هو مبادرة لتقديم الفكر بصور بعيدة عن النمطية وأقرب إلى الامتثال لخصوصية البيئة الأيكولوجية، وهذا ما عمدت الفنانة إلى تقديمه من خلال تقديم منحوتة “المفكر” للفنان أوغست رودان في أعمالها الفنية، والتي جسدت من خلالها فصول السنة الشمسية.
تدرك الفنانة أهمية الوعي في صناعة القيمة. إن استسلام الشكل للحظة فكر عميقة تستدعي استدراك أهمية اللحظة ودورها ومدى اقتراب الصورة من أول زهرة لشقائق النعمان تفتحت بالقرب من قدمي المفكر في لوحتها، فبذلك تقدم تصورًا واضحًا لحالة العشق الحقيقي في الأسطورة التي تنص على إعادة خلق أدونيس وتقديم دمه قربانًا للربيع، وهذا الدمج الواضح لهذه الصورة يضع المتلقي أمام مفارقة في غاية الغرابة لأهمية الحاجة إلى استدراك الثقافة وإعادة تفعيل القراءة في المجتمع، وابتكار فصل جديد للحياة الاجتماعية والثقافية، وإنهاء فصل من الدمار والحروب، وإعادة بناء العقل الإنساني على أساس العلم والمعرفة؛ فهذا هو منطلق الحياة وغايتها.
يأخذ موضوع القراءة منحًا رمزيًا في أعمالها، وهي تشير إلى أن الفن لا ينفصل عن الفكر. تسعى الفنانة إلى تشجيع الجيل الجديد على القراءة، وتحثه على التأمل والتوغل في تاريخه الثقافي، لكن “مفكر” فاطمة الحاج يتربع على عرش الطبيعة والألوان؛ فنجد لوحة المفكر في الشتاء، والمفكر في الصيف، وفي الخريف، وهكذا. فأعمالها تتعلّق بالإنسان وبحالاته، وهي تمجد اللون، وغالبًا ما تستشهد بقول بول كلي Paul Klee عندما صرح في تونس قائلًا: ” إن اللون هو أنا، لقد صرنا واحدًا”.
جمالية الفصول الأربعة
تجد الحاج نفسها في خضم الطبيعة، ترتبط بها ارتباطا وطيدًا. وأول ما يطالعنا في أعمالها خاصيتا الهدوء والسكون المتحرك، وهذا منتهى التعبير؛ ألا وهو “حركة السكون”؛ فجمالية الطبيعة الماثلة في لوحاتها تعطينا لحظة خاصة مليئة بالارتياح والفرح، وسرعان ما نشهد في طياتها حركة الحياة؛ فالأشجار تتمايل والألوان تتداخل في أوركسترا لونية منسجمة كأنها إيقاع إلهي يذكرنا بجمال الخلق. ونجد في بعض أعمالها ملامح بيوت، هذه المنازل التي تخبرنا عن حركة الإنسان الفاعلة في الطبيعة، وعن المجتمع البشري الذي ينعم بجمالها وخيراتها. ونجد أحيانًا اختصارات شكلية لهيئات بشرية، أو حيوانية، أو حتى مجرد هندسية. لعل لوحاتها تحدثنا أيضًا عن جمال الحياة في حالتي الحركة والسكون؛ فالحركة هي إيقاع الحياة، والسكون هو عبادة الخالق المبدع؛
لذلك نرى أن أعمالها الفنية تفتتح أمامنا سبل الحياة البعيدة عن الصراع والتناحر، والقريبة من السعادة في الاندماج بكل عناصر الخلق المتمثلة في الطبيعة، والمعبرة عن وحدة الوجود الظاهرة في دور الإنسان في الحفاظ على البيئة من جهة، والحفاظ على إنسانيته وقيمة وجوده من جهة أخرى. إن لوحاتها نابعة من إحساس مرهف وهي تشير إلى التوازن الرائع بين الإنسان ومحيطه، والذي يتكامل معه ليبدع حياة ملؤها السعادة.
ولدت فاطمة الحاج في منطقة الوردانية من قضاء الشوف في جنوب لبنان عام 1953، وحصلت على الدبلوم عام 1978 من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، ثم تابعت دراستها في أكاديمية الفنون الجميلة في لينينغراد، في روسيا (1978-1980)، ثم توجهت بعدها إلى فرنسا والتحقت بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية وحازت على شهادة دبلوم دراسات معمقة ما بين (1981- 1983). تأثرت خلال دراستها ببيار بونار Pierre Bonnard (1867- 1947) وإدوار فويلار Jean-Édouard Vuillard (1868 ـ 1940) وغيره.
درست الفن في معهد الفنون الجميلة في بيروت، وهي تعرض أعمالها بانتظام بين بيروت وباريس، إلى جانب عديد من العواصم العربية والأوروبية الأخرى. شاركت فاطمة الحاج في العديد من المعارض المشتركة في لبنان وفرنسا وانكلترا والكويت والشارقة وغيرها، إلى جانب قيامها بالعديد من المعارض الفردية في لبنان وبعض البلدان الأجنبية والعربية. كما حازت على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية من معارض وندوات ومؤتمرات عربية ودولية، منها جائزة بيكاسو من المعهد والإدارة العامة للعلاقات الثقافية التابعة لوزارة الشؤون الخارجية في مدريد، إسبانيا. وهي إلى جانب كونها فنانة بصرية، باحثة وناقدة فنية لها العديد من الأبحاث والمقالات حول الفن الحديث والمعاصر في لبنان والعالم العربي، تم نشرها في العديد من المجلات اللبنانية والعربية.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي