مقدمة
أثار فن الإنترنت عالمَ الفن عندما ظهر في أواخر الثمانينيات. يوظف هذا الفن الإنترنت أداةً لإنتاج الأعمال، ويتحدى بطبيعته طرق تنسيق المعارض والسوق والإنتاج الفني التقليدي. ارتبط فن الإنترنت (بفن الوسائط الجديدة) والذي يستخدم أيضًا أي وسيلة رقمية لإنشاء عمل فني.
مَثَّل تنسيق (الوسائط الجديدة) مشكلة للعاملين في تنظيم المعارض. ذلك أن انتاجها وعرضها وحفظها وتقيمها يحتاج إطارًا نظريًا جديدًا قام به كتّاب مثل ليف مانوفيتش ومايكل راش وآخرين. من ناحية أخرى، خلال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهر فن) ما بعد الإنترنت)، مميزًا نفسه عن )فن الوسائط الجديدة). إذ بدلًا من استخدام الإنترنت وسيطًا، يأخذ ممارسو فن (ما بعد الإنترنت) الإنترنتَ كائنًا، ويُمَشْكِلون قضايا مثل المراقبة والبنية التحتية والتحكم الرقمي. إن ما يحدث اليوم، تحت وطأة الانتشار الكاسح للرقمنة، هو إعادة تعريفٍ للتأليف والتعاون والمادية والإبداع، بالإضافة إلى الحاجة إلى مفاهيم نظرية وجمالية جديدة تشرح كيف وأين يُصنع ويُعرض ويُسوق ويُجمع الفن. يمثل التحول في تحديد هذه المفاهيم علامة مهمة في تاريخ الفكر والثقافة والممارسات الفنية.
تبحث هذه الدراسة في ظاهرة (ما بعد الإنترنت) وتمثيلها في عالم الفن.
فن الإنترنت وفن ما بعد الإنترنت
يُوظف الفنانون الإنترنت إما بشكل مباشر بالعمل مع الوسيط أو بشكل غير مباشر للبحث عن الإلهام وتبادل الأفكار أو مجرد الوصول إلى المعلومات منذ أوائل التسعينيات. وبمصطلحات مايكل كونور، تأخذ المجموعة الثانية من الفنانين ما يحتاجون إليه من بيئة الإنترنت وينتجون أعمالهم “بعد” الإنترنت (أي أن لديهم القدرة على الوقوف خارج الإنترنت إلى حد ما). ومع ذلك، في ثقافة متشابكة بشكل متزايد، ربما أن البقاء خارج الإنترنت مستحيل. في عالم اليوم يعمل الإنسان ويقضي وقت فراغه على الإنترنت، علاوة على ذلك، بفضل الملفات الشخصية على الإنترنت والشبكات الاجتماعية، فإن أفاتار المرء يحوم في الشبكة في أي وقت، حتى لو لم يكن المرء متصلًا بالإنترنت. الجميع متصل بالإنترنت في أي وقت وفي أي مكان. في مثل هذا العالم، ” يُفترض أن الفنان، وحتى الفن نفسه، منغمس تمامًا في الثقافة الشبكية ولم يعد قادرًا على تولي منصب المراقب”.(1) ولأن التمييز بين المنتج والمستهلك لم يعد موجودًا، يُشكِل ويتشَكلُ الفنانون من خلال هذه الثقافة. في هذا الصدد، من المهم التحقيق في كيفية استخدام الإنترنت من قبل الفنانين المرتبطين بفن الإنترنت وما بعد الإنترنت، والتي ستكشف تاريخًا مشتركًا وتناقضًا، في الوقت نفسه، بين “الجانرين”:الإنترنت أدةً، والإنترنت وعيًا.
يقدم فن الإنترنت أعمالًا وظفت الإنترنت وسيلة والذي بدوره حدد موضوع وطبيعة هذه الأعمال. هذا فن لا يمكن تجربته بأي طريقة أخرى. فوضع الاتصال بالإنترنت هو ما يحدد كلاً من مكان وزمان العمل وكذلك سبب وجوده. في المقابل، تُعرِّف الكثير من الممارسات الفنية اليوم نفسها بوصفها (ما بعد الإنترنت). يرى آرتي فيركان أن هذا التحول من فن الإنترنت إلى فن (ما بعد الإنترنت) يحدث حين يتصرف الفنانون بشكل أقل كمترجمين فوريين ونساخ وساردين ومنظمي معارض ومهندسين معماريين، و بشكل أكبر كمشاركين متورطين تماما. (2) ويرى أن المصطلح ليس إلا نتيجة للحظة الراهنة: “المستنيرة بطبيعتها بالانتشار الكاسح للتأليف، وتطور الانتباه، وانهيار المساحة المادية في ثقافة مترابطة، والإمكانية اللامتناهية لاستنساخ وتحوير المواد الرقمية”.(3)
ما بعد الإنترنت بوصفه حالة
يُمَكِنُنَا فهم راهنية الإنترنت بوصفها حالةَ كلِ عملٍ فني يُنتج، سواء كنا متصلين أو غير متصلين بالإنترنت، من استيعاب فكرة (ما بعد الإنترنت) باعتباره ظاهرة ثقافية وليست مجرد ظاهرة فنية أو تقنية. يمكن ببساطة فهم “ما بعد الإنترنت، وتحديدًا في سياق الفن، بوصفه مصطلحًا يُمثل رقمنة ولامركزية كل الفن المعاصر عبر الإنترنت فضلًا عن التخلي عن جميع خصائص (الوسائط الجديدة). (ما بعد الإنترنت) إذن، ليس فئة بل حالة: إنه الفن المعاصر”.() (4)
يعني التخلي عن (الوسائط الجديدة) أن فن (ما بعد الانترنت) لا يتخذ ركنًا ثقافيًا قصيًا؛ بل يتناول ما أصبح اليوم الوسائط اليومية الشائعة المرتبطة بالإنترنت، لذلك من المرجح أن تتناول الأعمال المندرجة تحت هذا المصطلح القضايا المتعلقة بسياسات الإنترنت والمراقبة الجماعية السرية والتنقيب عن البيانات، ومادية الشبكة، وجسد ما بعد الإنسان، وتشتت المعلومات، وحركة المصدر المفتوح. كما وتبحث في التغييرات التي تحدث في كل مكان في عصرنا، من تشتت المعلومات وتوثيق الأعمال الفنية إلى اللغة البشرية ومقاربات تاريخ الفن.
إشكاليات توظيف البادئة” بعد“.
وفقًا لما تقدم، يصبح توظيف البادئة “بعد” إشكاليًا. هل تشير “بعد” دائمًا إلى نهاية شيء وبداية آخر جديد، أو رفض السلف، أو اشتباك من نوعٍ ما؟ وعلى الرغم من عدم التوصل إلى توافق في الآراء في حالة (ما بعد الإنترنت)، إلا أنها، بالتأكيد، لا تعني رفض الإنترنت ولا إعلان نهايته.(5)
تُوضح ماريسا أولسون الفكرة، وهي بالمناسبة من ابتكر المصطلح، فتقول: “يعد عملي على الإنترنت في وضع الاتصال وعدم الاتصال “بعد” الإنترنت بمعنى أن “بعد” يمكن أن تعني كلًا من “التأثر بـ ” و “وما يلي”. وللتوضيح، لا أشير إلى مفهوم ما بعد الحداثة بوصفه ماجاء في “نهاية” الحداثة، ولكن ما جاء “بعد ” (ومع إدراك نقدي لـ) الحداثة”(). يعزز فهم أولسون فكرة أن (ما بعد الإنترنت) يدور حول ما سبقه بقدر ما يتعلق ببيئته وبالثقافة المعاصرة. ويقر تعريفها بأنه لم يعد من الممكن تمييز فن الإنترنت بوصفه ذلك الذي يعتمد بشكل صارم على الكمبيوتر أو الإنترنت، ولكن يمكن تحديده على أنه أي نوع من الفن يتأثر بطريقة ما بالإنترنت والوسائط الرقمية. من المهم معالجة تأثيرات الإنترنت على الثقافة بشكل عام، ويمكن القيام بذلك على الشبكات ولكن يمكن ويجب أن يكون أيضًا في وضع عدم الاتصال.
يفهم مايكل كونور أن فن )ما بعد الإنترنت( “ليس تحديدًا واضحًا لـ” قبل “و” بعد ” بقدر ما أنه يمثل حوارًا نقديًا يتطور باستمرار”(). هذا وصف معقول للبادئة “بعد”؛ لأنه يُؤكد على عنصر النقد ولا يًقدم تمييزًا(6) حادًا للجانرات التي تأتي “قبل” ما بعد الإنترنت.
أما عمر خليف فيتبني الفكرة القائلة بأن ما بعد الإنترنت هو فن “وعي بالإنترنت”(7). لذا فهو ليس بالضرورة مختص بالوسيط ولا يصف أي فكرة شكلانية معينة، لكنه فن منخرط بشكل حاسم في الإنترنت وسيلة ًاجتماعية وسياسيةً شاملة.
يقرر زاك بلاس، من ناحية أخرى، وفي معارضة للاستخدام المفرط للبادئة “بعد”، أن “ما بعد” هي إعلان عن تحديات المرور والتحول ويمكن فقط أن يتم التعبير عنها من خلال ما تستكمله”،(8)ثم يستخدم مصطلح “ضد contra “بدلًا من “بعد”،(9)للإشارة إلى الاحتمالات الثورية للإنترنت. يوحي استخدامه لـ “ضد” بدلًا من “بعد” أن تطبيع طريقة معينة من التفكير هو أكبر تحدٍ عند تفكيكننا لفكرة. يقترح بلاس، ضد تطبيع التسويق والرسملة في العالم الرقمي، أن “جماليات (ضد الإنترنت) لا تسمح للإنترنت تحديد أفق إِمكَانِيَّاتها”. من المهم الإشارة إلى أن رؤية (ما بعد الإنترنت) بوصفه أداةً تفكيكية ونقدية هو ممارسة شائعة بين النقاد. (10)
وفي حين يُجادل جيسي دارلينغ بأنه “لا ينبغي فهم “بعد ” على أنها “التالي ” بل بوصفها “أزمة”. بعد ذلك، يضيف، “دعونا نتفق: كل فنان يعمل اليوم هو فنان ما بعد الإنترنت”.(11) يحمل هذا التحديد دلالات قوية. أولًا، يعني ضمنًا أن دارلينغ يرى الإنترنت في حالة أزمة بكل ما فيها من سخط، وثانيًا، يدعي أن الفنانين بوصفهم جزءًا من النظام الثقافي الأوسع لا يتجاهلون ولا يهربون من تأثير الإنترنت (الثقافي) على ممارساتهم وحياتهم اليومية.
وهكذا، يشير (ما بعد الإنترنت) إلى الاتجاه الحالي في الفن والنقد المعني بتأثير الإنترنت على الفن والثقافة، ويعني ضمنًا أن التكنولوجيا الرقمية متداخلة مع البيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية وكذلك الجغرافية إلى حد أنها تؤدي إلى أشكال ثقافية ورمزية ومادية جديدة. في عالم رقمي متزايد، لم يعد الفن مجرد شيء يمكن تجربته في فضاء ثلاثي الأبعاد. يستكشف الفنانون والمعارض والمؤسسات الآن بجدية كيفية صنع فن يعمل في وضع الاتصال وعدم الاتصال وفي المساحة الباهتة بينهما. يمكن للفنان أن يختار الدرجة التي سيتفاعل بها مع حقيقة الإنترنت، ولكن العيش مع الانتشار الواسع للإنترنت هو بالضرورة صنع الفن في نفس الظروف.
ومع أن مصطلح (ما بعد الإنترنت) لا زال في أطواره الأولى ولا زلنا لا نعلم بالضبط مستقبله، إلا أن معرضين فنيين مهمين ساهما في تكريس المصطلح: معرض(فن ما بعد الانترنت،2014 ) الذي أُقيم في مركز أولينز للفن المعاصر في بكين، ومعرض (الجمهور المحيط،2015 ) الذي أُقيم في ترينالي المتحف الجديد في نيويورك. ارتفع نجم المصطلح، بالطبع، جنبًا إلى جنب مع النجاح المؤسسي والتجاري للفنانين المرتبطين به، بفضل دعم مجموعة من المعارض التجارية وشبه التجارية، ومقرها في الغالب نيويورك وبرلين ولندن والشارقة، ومناطق أبعد، كما أنها تتمتع بحضور قوي على الإنترنت.
دراسة أعمال
سيكون من المفيد أكثر التحقيق في إمكانيات وآثار فن ما بعد الإنترنت من خلال دراسة أعمال. تستخدم هيتو شتايرل الفنانة البارزة والمنظرة والكاتبة في مجال الثقافة السيبرانية، ثيمات الإنسحاب والإخفاء في أعمالها التعليمية. في مقابلة حول انشغالها بالاختفاء والتخفي ذكرت “إنه مفهوم شديد التناقض: إنه شيء مرغوب يمنح الراحة من التصوير المستمر الذي نخضع له جميعًا. لكنه أيضًا أمر يثير شبح الاختطاف السياسي الجماعي”.(12) هذه المفارقة هي أيضًا محور عمليها: (كيف يمكن ألا تكون مرئيا،2013) (13) و (هل المتحف ساحة معركة،2013) (14)
في الفيديو الأول، تقترح شتايرل كيف يمكن أن تكون خارج منطقة التحكم أو كما يتكرر أحيانًا في الفيديو “غلق الشاشة” في عصر يرتبط فيه الحضور بالتواجد على الشاشة لأطول مدةٍ ممكنة. طريقة الفنانة المسلية في التخفي عندما يسرد الراوي ثلاث عشرة طريقة لتصبح غير مرئي، تجعل الفيديو أكثر صلةً بالحياة داخل وخارج الشبكة. تتضمن هذه الطرق:”أن تكون أنثى أكبر من خمسين عامًا، وأن تعيش في مجتمع مسور، وأن تمتلك حقيبة يد ضد المصورين المتطفلين، وأن تتصفح الويب المظلم، وأن تكون البكسل الميتة”.إن عمل شتايرل بهذا المعنى ليس تعليميًا فحسب، ولكنه استفزازي بإشاراته إلى القضايا الإجتماعية في عصرنا.
من ناحية أخرى، في الفيديو الثاني الذي أخذ شكل محاضرة وكان بتكليف من بينالي اسطنبول الثالث عشر، تناقش شتايرل كيف يتم تمويل المتاحف والمؤسسات الثقافية من قبل شركات تجارة الأسلحة وكيف يصبح تمويلها “غير مرئي” بمجرد دخولها المتحف، وتفعل ذلك بملاحقة رصاصة فارغة وجدتها في منطقة في الجنوب الشرقي من تركيا. كما أنها تحقق في العلاقات بين هذه الشركات و شركة (كوك هولدينغ)، الراعي الرئيسي للبينالي ومزود الجيش التركي بالمدرعات من خلال فرعها(اوتوكار).
عندما تتم دراسة مقطعي الفيديو معًا، قد يقترح المرء أنه يمكن لهياكل السلطة القائمة توظيف تكتيكات الإخفاء لحجب آثارها، كما يمكن لمستخدمي الإنترنت توظيفها ذاتها للإبتعاد عن تلك الهياكل. إنها متناقضة بقدر ما أنها مفيدة.
يعثر آدم هارفي على حِيَلِه البارعة في المنطق الضيق لهذه المفارقة، ويتساءل لماذا لا نستخدم الاخفاء ضد البنى التحتية غير المرئية، وعتامة الوجه ضد وضوحه؟ يمثل عمله (سيرة ذاتية للتمويه،2010) (17) محاولة أخرى في سياق (ما بعد الانترنت) لتسليح الملامح من أجل معارضة التدخلات الحكومية في الخصوصية. يستكشف العمل كيف يمكن استخدام الموضة كتمويه ضد تقنية اكتشاف الوجه، وهي الخطوة الأولى في التعرف الآلي على الوجوه. إنه مفهوم واستراتيجية، وليس نمطًا أو منتجًا، وهو مصمم دائمًا وفقًا لخوارزمية محددة وفريدة من نوعها لكل وجه. وباستخدام المكياج وتصفيف الشعر والملابس وملحقاتها بطريقة توازي الموضة الرفيعة، يخاطب هارفي الحاجة إلى تجنب ليس الاكتشاف فقط ولكن الملاحظة المستمرة: ليس أن المواطن العادي يحتاج إلى تمويه نفسه، ولكن هذا التحديد المستمر وتتبع الأشخاص هو أكثر من مجرد تدخل في حياته الخاصة؛ ذلك أنه يؤسس حالة إشتباه متواصلة: يتم مراقبتنا ليس لحمايتنا من التهديدات، ولكن لأنهم يعتقدون أن أي شخص منا قد يصبح تهديدًا. تكمن النتيجة والقيمة الفنية لـ(ـسيرة ذاتية للتمويه) في المواجهة بين المستخدم والمراقبة؛ إذ باستخدام مكياج وتسريحة شعر وأزياء تبدو للناس العاديين مفرطة، يختبئ الشخص “المبهر” الآن على مرأى من الجميع. هذه النقطة بالذات هي المكان الذي تدخل فيه (سيرة ذاتية للتمويه) عالم (ما بعد الانترنت) فنًيا. تعتمد(سيرة ذاتية للتمويه) على فكرة أن تكون ملحوظًا وترغب في تجنب أن تكون ملحوظًا من خلال أن تكون قابلًا للملاحظة بشكل مفرط تقريبًا، وهو موقف يعتمد بالكامل على الوعي المتزايد أن المراقبة الرقمية أكثر تهديدًا من المراقبة البشرية.
يعالج عمل زاك بلاس(جناح تسليح الوجه،2013) (19) القضايا نفسها التي تهم هارفي. ذلك أنه يعالج المشكلات المعقدة المتعلقة بالتعرف على الوجه كتطفل على حقوق الخصوصية، ولكنه يتخذ استراتيجية فنية مختلفة وأكثر إثارة للاهتمام.
فالعمل عبارة عن مجموعة من الأقنعة المصنوعة في ورش عمل مجتمعية والتي ترفض البيانات القابلة للتطبيق خوارزميًا لبرامج التعرف على الوجه. كائنات الجناح هي أسلحة تشويه وأنماط للهروب لا تسمح بحسابات وتصنيفات سهلة للوجه، وهذا يجعلها مختلفة بشكل كبير عن عمل هارفي لأن طبيعتها ككائنات مادية ملموسة تمثل استجابة توضيحية وخطيرة للتطفل على الخصوصية. علاوة على ذلك، فإن العمل الجماعي أكثر جوهرية لأنه عادة ما يكون مرتكزًا على دعمٍ جماهيري.
إن تذكير الجمهور بانغماسه في المشهد الرقمي شيء؛ وكَشْف أن الأمر مهم شيء آخر تماما. يأخذ رايان تريكارتين وهو فنان أمريكي من جيل استحق وصف “المواطنين الرقمين الأصليين” ( مواليد الثمانينيات وما بعدها) هذه النقطة أبعد حتى من تصورات النقاد. يصمم تريكارتين أعمالًا تجمع فن الانشاءات وعروض فيديو متعددة الأوجه تعرض شخصيات جمالية تظهر وكأنها مصابة باضرابات فرط الحركة ونقص الانتباه لتمثل عقولنا (20) المشبعة بالإنترنت الذي يسيطر على الدماغ ويشوشه بسيل من الأفكار والصور غير المترابطة. غالبا ما يستخدم تريكارتين النشاز كمبدأ ارشادي وبنيوي: طبقات من السرد والصوت يتصاعد باستمرار مع صور متحركة بسرعة فائقة تعكس عصر المعلومات الصاخب. في هذا التنافر يرى “المواطنون الرقميون” الأصليون تمثيلًا لأنفسهم وحياتهم بيما يدرك “المهاجرون الرقميون” الأكبر سنا الصخب التكنولوجي المحيط بهم (لاحظ عنوان معرض (الجمهور المحيط) الذي ذكرناه سابقًا)، مما يعكس خبرة أجيال مختلفة في عصر شكله التحفيز المفرط للوسائط والإستهلاك الهائل. يمثل تريكارتين بأعماله الفنية الموجهة إلى المواطنين الرقميين الأصليين والمهاجرين لحظة ما بعد الإنترنت بامتياز حيث الذهن أشبه ما يكون بالإنترنت؛ بمعنى أنه يفكر بأسلوب الشبكة. وفي سياق الممارسة الفنية، يصف عمله كائنًا فنيًا تم إنشاؤه عن وعي بالشبكات التي يوجد فيها، من المفهوم والإنتاج إلى النشر والاستقبال.
تَعَرَض فن ( ما بعد الإنترنت ) للنقد باعتباره مصطلحًا لا يقصد سوى التميز والترويج الذاتي لمنتسبيه، وأنه تحقيق للخيال الماكلوهاني “إن الإنترنت قد غير كل شيء”، في تجاهل واضح للطرق التي عززت بها الرقمنة الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية القائمة.
ومع ذلك، لا يزال عصر (ما بعد الإنترنت) حديثًا ومتطورًا وهناك العديد من العوامل التي تحدد صلاحية وتأثير هذا المصطلح. لقد حدث التطور الرقمي ولا يزال يحدث بوتيرة سريعة للغاية مما أثر علينا شخصيًا وثقافيًا. تخلط طبيعة فن ما بعد الإنترنت الوحشية بين العام والخاص، والأصلي والمنسوخ، وتجمع بين الإنتاج والاستهلاك، وتفكك الحدود بين الواقعي والافتراضي. لقد انهارت المفاهيم السابقة المميزة للمساحات الافتراضية والتناظرية. الفن الآن ليس متاحًا في وضع الإتصال عبر الإنترنت بوصفه وسيطًا فقط – إنه متصل طوال الوقت، بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه. وعالم الفن، مثل بقية العالم، بدأ للتو في تحليل عواقب هذا التحول.
وأخيرًا، إن (ما بعد الإنترنت)، في الممارسة الفنية، موقف يهتم بكون الفن بشريًا وليس رقميًا، وبذلك فهو ليس بداية حقبة، بل بالأحرى علامة مؤثرة في تاريخ الفن المميز بإمكانيات دائمة.
2. Vierkant, Artie. (2010). The Image Object PostInternet, Jst Chillin.org. last downloaded:3/6/2022. https://jstchillin.org/artie/pdf/The_Image_Object_Post-Internet_a4.pdf
4. Doulas, Louis. (2012). Within Post Internet – Part One. Last accessed:3/6/2022 http://s3.amazonaws.com/arena-attachments/191659/f9920b982e5457c97374810db32c6924.pdf?1390438645 (2014). Post-Internet: What It Is and What It Was. In Kholeif, Omar (Ed.), You Are Here: Art After the Internet. London: Corner house Publishing. P:57
5. Olson, M. (2014). Postinernet: Art After the Internet (2010). In Art and the Internet. London: Black Dog Publishing. P:60 https://jstchillin.org/artie/pdf/The_Image_Object_Post-Internet_a4.pdf
6. Connor, Michael. (2014). p:57
7. Sutton,Kate. (2016). Winds of Change: Curator Omar Kholeif. Cultured. Last accessed: 18/6/2022. https://www.culturedmag.com/article/2016/07/07/omar-kholeif
8. Blas, Zach. (2014). Contra-Internet Aesthetics. In Kholeif, Omar (Ed.), Pp:68-100. P:87
9. المصدر السابق:98
11. Darling, Jesse. (2014). Post-Whatever #usermilita. In Kholeif, Omar (Ed.), Pp:136-140. P: 137.
12. Connor, Michael.(2013). Hito Steyerl’s ‘How Not to be Seen: A Fucking Didactic Educational.MOV File. Rhizome. Last seen: 10/6/2022.https://rhizome.org/editorial/2013/may/31/hito-steyerl-how-not-to-be-seen/
.
13. https://www.youtube.com/watch?v=LE3RlrVEyuo. Last seen: 10/6/2022.
14. https://www.youtube.com/watch?v=e1_XEpepMe0&list=PLdUyeRn_b12hvGVO0aR0pZ9nTcpYDvq6b. Last seen,: 10/6/2022
17. Harvey, Adam.(2020), CV Dazzle, https://cvdazzle.com/.. Last seen: 10/6/2022.
18. Blas, Zach. (2013). Facial Weaponization Suite. https://zachblas.info/works/facial-weaponization-suite/. Last seen: 10/6/2022.
19. للتعرف على أعمال تريكارتين أنظر على سبيل المثال صفحة الفنان على موقع آرتسي أو موقعه على ريجنبروجكتس. تاريخ الوصول: 20/6/2020 https://www.artsy.net/artist/ryan-trecartin & https://www.regenprojects.com/artists/ryan-trecartin
باحثة ومترجمة ومؤلفة فلسطينية تحمل درجة الماجستير في التكنولوجيا الحيوية وماجستير في علم النفس. مهتمة بدراسات الفنون ومفاهيم "ما بعد الحداثة وما بعدها والسياسات الحياتية...". لها العديد من المؤلفات والترجمات التي تتمحور حول تلك المواضيع.