إسماعيل خياط هو الفنان العربي الذي عُرضت أعماله مؤخراً بمتحف الشارقة للفنون ضمن سلسلة”علامات فارقة”، بتقييم من علياء الملا وهياس خياط، حيث تخيرا للعرض أكثر من مائة عمل تعبر في مجملها عن غزارة إنتاج الفنان وتنوعه الأسلوبي والتقني، في سبيله لقنص الصور والمشاهد المخبوءة هناك في ذهنه ووجدانه، ومن ثم مقاربتها بصرياً وتقنياً وفق طرائقه وممارساته الخاصة.
ومبكراً جداً بدأ خياط رحلته مع رسم مشاهد ومفردات الحياة اليومية في مدينة خانقين، وذهب في تصويرها واقعياً على جدران البيت وأعمدة الكهرباء بواسطة بعض قطع الفحم وبقايا الأقلام المتبقية من أخيه الأكبر، إلى أن التحق بالمدرسة في بعقوبة وواصل عمله الجاد في الرسم وإنتاج اللوحات مصوراً نهر ألوند والجسر الذي يعلوه، إضافة لتصوير الأزقة والبيوت بتفاصيلها العديدة، وخاصة أشكال الأبواب والشبابيك، ولعل هذا الالتحام بين الفنان والمكان وهو الالتحام القائم منذ وقت مبكر من حياته قد طبع وجدانه بفيض هائل من التفاصيل والمشاهد، التي صاغت مكونه الفني وتراكمت لديه لتتضافر ضمن روحه كنسيج أيقوني وفسيفسائي سنجد حضوره طاغياً في أعماله المنجزة لاحقاً.
لقد عني الفنان بالمكان والإنسان والكائنات الحية في الوقت ذاته، وهو ما يبرز بوضوح من خلال اشتغاله الفني على خامات ونواقل متنوعة كالورق والقماش والكارتون والنسيج والحجر، ومضى في طريقه الإبداعي الطويل وخلال ستة عقود ساعياً نحو التقاط الصور المنهمرة من دخيلته وإعلان وجودها المأمول عبر المسطحات المرئية، وقد احتفى في منجزه المبكر بالنهر وأسماكه وبالطبيعة كذلك بسهولها وجبالها وأشجارها وطيورها وحيواناتها البرية، ثم و أثناء دراسته بدار المعلمين هناك في بغداد ظهر شغفه بالعمارة ومكونها البنائي الملهم وبالأزقة الضيقة والمساجد، إلى أن وصل لصيغة تعبيرية تميز بها مشروعه الفني من خلال رسم وإنتاج الأقنعة، وهي المرحلة الأكثر خصوصية في مسيرته الفنية، والتي مكنته من حشد كافة أفكاره ومواقفه الإنسانية وثقافاته وأحلامه وطموحاته ضمن مسطحات الأقنعة بخاماتها العديدة.
كما حضرت النساء الكرديات في قسط واضح من أقساط خياط الفنية، وهن نساء قد تميزن عموماً بشجعاتهن وقوتهن وجمالهن ورقتهن، ليؤكد عبر سلسلة من اللوحات الحافلة بالمرأة الكردية محبته لأمه وزوجته وسائر النساء القويات القادرات على مجابهة الواقع القاسي المرير، ذلك الذي شهدته جغرافيته الكردية في العصور السالفة، وبخاصة في منطقة حلبجة التي تعرضت لهجمة كيماوية في العام 1988 ، وكانت قد خلفت وراءها حالة عارمة من الغضب والألم الدامي الناجم عن ذلك العمل الإجرامي والإبادة الجماعية للسكان هناك.
فيما تظل تجربة الفنان في الاشتغال الفني على الأحجار واحدة من تجاربه الممارساتية الجديدة والخاصة، والتي كان من شأنها أن يلقبه الوسط التشكيلي في كردستان برجل الحجارة، وهو الذي اعتبر الحجر رمزاً للأرض والمكان وقدسيته وقيمة الانتماء له.
لقد اصطبغت أعمال الفنان المتأخرة على وجه الخصوص باللونين الأبيض والأسود، لكن لم تغب الألوان بكليتها عن ممارسات الفنان التي تمثلت في استخدامه الأقلام الملونة وكذلك الألوان الزيتية والمائية.
وتميز عمله في العموم بمزج الأحبار الصينية الملونة مع عدد من المواد الأخرى وكذلك تمت إضافة الغراء إلى عجائن الأوراق بما منح لوحاته صفتها الخاصة وطابعا المغاير ضمن المشهد التشكيلي العراقي الثري والمتنوع في ذلك الوقت في بغداد
تشي أعمال خياط باستفادته الواضحة من حرفة والده، الذي كان يعمل في خياطة الملابس كما يمكن تلمس تأثره بهذا العمل الدقيق، وهو العمل الذي يتطلب مهارة إلى جانب تطلبه للذوق والقدرة التصميمية المنضبطة، لذا سنجد فكرة تجميع أجزاء الورق والقماش حاضرة بقوة في أعمال إسماعيل خياط، كما يمكن اعتبار الاشتغال الدقيق في توشية اللوحة وحشد عناصرها ومفرداتها على الهيئة الكائنة في أعماله شديدة الشبه بأعمال الغزل والنسج الحافل بالرموز والرسوم والتفاصيل الكثيرة.
وبعيداً عن مشاهد الواقع وتصوير مشاهد الحياة اليومية، نجد الفنان في لوحاته التعبيرية ومسطحاته التجريدية وكذلك ممارساته الرمزية كما لو كان مدفوعاً بقوة داخلية تحفزه للمضي إلى أبعد نقطة ممكنة، بحيث يتوافق العمل في مرحلته الأخيرة مع تلك الصورة المنطبعة في داخله والتي تمثل قناعته الشخصية لما يجب أن يكون عليه العمل الفني في صورته الأخيرة، خاصة وأن الفنان نفسه يذكر في غير موضع أنه كان يبدأ هذه النوعية من الأعمال دون أن يكون لديه حتى فكرة أولية عن طبيعة العمل، الذي كان يُقدم على إنتاجه بل إنه كان يستمر في العمل متداعياً حراً ومعتمداً على كثافة الأشكال العالقة برأسه ودون أن يعرف النتائج الحادثة قطعاً إلا بعد الانتهاء من إنتاج العمل وإنزال تلك الأشكال على المسطح البصري، وهذه النوعية من الممارسة سنجدها لدى كثير من الفنانين على وجه الخصوص لدى التجريديين التعبيريين وفي طليعتهم وليم دي كوننغ وجاكسون بولوك وغيرهم.
أما عن أقنعة إسماعيل خياط، وهي التي تحتل الحيز الأكبر من المعرض فإنها تظل أشبه برسائله الخاصة المتفردة، التي دونها الفنان بخبرة كبيرة وتمرس واضح عبر الصور الموشاة بانفعالاته وأحاسيسه وصرخاته الداخلية القائلة دوماً بالوجود الإنساني ورهانه الكبير على كسب موقعه المبتغى من تلك الحياة عنوة عن كل ما تمليه على كنه البشر من تبعات وما تفرضه على واقعهم من نكبات مزلزلة يصعب الصمت معها، خاصة لدى المبدعين الأحرار وفي طليعتهم الفنانين التشكليين ومنهم في القلب أولئك الملتزمين بقضايا الإنسان والشعوب المنتمين إليها.
وقد جاءت معظم الأقنعة في هيئة عمل فردي يبدو القناع خلاله متسيداً للمسطح البصري ومهيمناً عليه، وفي أحيان يطل القناع بوصفه هو ذاته المسطح البصري بأكمله، خاصة تلك الأقنعة المؤلفة من أوراق ووحدات كولاجية تمت معالجتها بالمواد اللاصقة وبإضافات لمواد أخرى من قبل الفنان الذي أقدم على قص الأطراف وبعض المساحات الداخلية في جوف القناع، ومارس خلالها اشتغاله اليدوي الانفعالي القادر على خلخلة شكل الأوراق المستوية ومنحها صورها المتعرجة وغير المنتظمة لتواكب المعنى المراد التعبير عنه، ولتكتسب خصوصية وجودها ضمن عمل الفنان المجدد، وخلال مشهد الفن التشكيلي العراقي المعاصر في ذاك الوقت المبكر.
ومن بين لوحات الفنان الزيتية المعروضة تبرز لوحتان، اللوحة الأولى منهما تنتمي لمجموعة أطلق عليها خياط عنوان (الاقتراب من الوطن) وهي لوحة دون عنوان، وقد رسمها الفنان في العام 1977، وتغلب عليها الممارسة التجريدية ذات التكوين الهرمي الشكل على وجه التقريب، وبها اشتغال هندسي وروح تصميمية طاغية، حيث نجح الفنان في توزيع عناصره الرئيسية في مقدمة اللوحة فيما نسج الخلفية بمسطحات من الخطوط المتوازية في مسارات ومساحات عدة دون أن تشوش على بطولة العناصر الرئيسية ذات البطولة في صدارة اللوحة، واللوحة الثانية عنوانها (العاطفة عبر الوجوه)ورسمها الفنان في العام 1980 وهي مرسومة بالألوان الزيتية أيضاً على الخشب، واللوحة مقسمة إلى مجموعة من المساحات الهندسية التي تضم في الأعلى والأسفل مجموعة من الوجوه التجريدية متنوعة التكوين والملامح في حين يفصل بين مجموعتي الوجوه العلوية والسفلية مسطح عرضي تجريدي وتغلب عليه الخطوط المنحنية المتتابعة وفقاً للأشكال المطروحة، والتي ربما قصد الفنان أن يعبر بها عن مشهد من مشاهد الطبيعة المختزنة في وجدانه.
شاعر وروائي وباحث في الفنون البصرية، نال ماجستير تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 2008، كما نال بكالوريوس الفنون التعبيرية من قسم الديكور بكلية الفنون الجميلة بالمنيا عام 1996، وكان قد شغل منصب مدير تحرير مجلة (التشكيل)الصادرة عن جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، كما ترأس لجنة الندوات الفكرية الدولية لملتقى الشارقة للخط ومهرجان الفنون الإسلامية وجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي بإدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة حتى عام 2012،