د. خليل قويعة: “ذاكرة الأرض”، ألوان زيتية ومواد مختلفة على قماش”، 160x120 سم، 2022. صورة
د. خليل قويعة: “ذاكرة الأرض”، ألوان زيتية ومواد مختلفة على قماش”، 160x120 سم، 2022.

مصطلحات الفنون : رهان التّرجمة ورهان الإبداع

تحرّيات في ما بين الفعل والقول

دراسة حول إشكاليّة المصطلح الفنّي في مجال الفنون البصريّة

“إنّ التّقـلّبات التي تشهدها مفاهيم الفنّ والأستطيقا تعكس التّغيّرات الحاصلة في ضروب الوجود لدى المجتمعات االإنسانيّة… ومن خلال كتابي (الفنّ في حالة غازيّة) لا أطرح موضوعا يخصّ الفنّ فقط، بل أقترح تأويلا للتّطوّر الذي يعيشه مجتمعنا”

إيف ميشو

ملّخص :

يسعى هذا المقال إلى تناول التّحوّلات المفاهيميّة، المتعلّقة بالفنون التّشكيليّة والبصريّة، على ضوء ما صيغ من خطابات جماليّة ونقديّة ما بين الفنّ الحديث والفنّ المعاصر وأثرها في تطوّر المصطلح الفنّي. كما يتعرّض في الأخير إلى الموقف الثقافي الذي يتحتّم اتخاذه في صياغة المصطلح الفنّي باللّسان العربي حتى يقع استئناف المقاربة الإبداعيّة.
أمّا المقترحات التي ينتهي بها المقال، فتخصّ وضعيّة المصطلح الفنّي في ترجمته بين العربيّة ولغات أخرى. وذلك من خلال عيّنة يكتنفها الغموض، رغم تداولها اليومي. وفي هذا التّناول يقع الانتصار للمقاربة الإبداعيّة والتّاريخيّة، حيث لا يكفي أن نترجم بل يتطلّب الأمر أن نساهم في التّراكم الإبداعي والمشاركة في المعترك الحضاري والوجودي الذي يفترض أن نخوضه بالضّرورة من خلال الفنّ.


كلمات محوريّة : المفهوم- التّسمية- التّمهية- الفعل الفنّي- اللّغة

لا ريب، إنّ الخطاب القولي لهو في عُرف الفنّ المعاصر جزء من المسار الإبداعي نفسه وليس مجرّد فهلوة إعلاميّة أو فبركة ثقافيّة معزولة. بل إنّ فعل النّظرِ إلى العمل الفنّي وفيه يستدعي بطبيعته فعل القول من داخل آليّات المفهمة والتّأويل وصناعة الخطاب… وهو ما يلمع في أشغال الفلسفة التّحليليّة الأمريكيّة التي انكبّت على دراسة الأعمال الفنيّة وصاغت فلسفة الفنّ المعاصر حيث نرى استنادا واضحا إلى فلسفة فيتغنشتاين، هذا الذي مدّ قنوات الوصل بين علم المنطق وبين الجماليّات. فكيف نقول التجربة الفنيّة وبأيّة أدوات، وقد أصبحت اللّغة القوليّة تُمنطِق طرائق فهمنا للفنّ وتحدّد تعاطينا مع الفعل الفنّي؟ كيف للقول أن يكون فعلا مؤسّسا لماهيّة العمل الفنّي؟ وبإزاء هذا الوضع، هل لنا أن نكتفي بترجمة المفهوم والاصطلاح حتى نواكب تحوّلات القيم الفنيّة ونسهم في مراكمتها، فنظلّ نلهث وراء ما يظهر من مفاهيم هي في الحقيقة ابنة أزمات قيميّة وارتكاسات تاريخيّة عاشها مبدعوها؟

هل يمكن للتّرجمة أن تستوعب هذا المستوى من الأزمة، فتكون حلاّ لهذه المفارقة؟ وفي هذه الحالة، لا مندوحة عن التّساؤل إن كان هذا الفنّان، وهو في مفترق طرق، سينشغل بالبحث عن التّرجمات الملائمة أم سيبدع ويتحرّك داخل أفق إبداعي جديد، غير مستهلك، أي خارج الخارطة اللّغويّة المتاحة وما هو جاهز في المدوّنات المترجمة !هل نترجم أم نبدع ؟ بأيّ منظومة من المفاهيم والمصلحات يقول هذا الفنّان ذاته ويؤكّد لفعله الإبداعي الجديد ما يستأهله من مقوّمات التّـمهـيه الفنيّة (identification)؟ ذلك هو الإحراج الذي يدعونا اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى مساءلة موضوع “رهان التّرجمة ورهان الإبداع”.

لقد كان الفعل الفنّي في مراحل شتّى من الجماليّات السّعيدة مقتصرا على سؤال كيف أُنجز عملاً، بينما اليوم أصبح شديد الارتباط بـ “كيف أعرض ما أنجز؟” و”كيف أقول ما أعرض؟”… وهو ما حوّل مراكز الاهتمام إلى مسار تكوّن العمل أمام النّظر وكيفيّة استدراجه إلى النّظريّة. أمّا انحلال مادّية الأثر (dématérialisation) فقد دفع بالأمر إلى فتوح تذهينيّة عريضة ما أدّى إلى حضور لغويّ- مفاهيميّ للمنجز الفنّي، حيث ازدهرت إنشائيّة العمل داخل النّظريّة وتدعّمت مصالحة الفنّ مع العقل الفاهم والمعقول اللّغوي. كما أدّى تشغيل الأجهزة المفاهيميّة والتّأويليّة إلى فتح آفاق مهمّة لمشاركة المتلقي والنّاقد في إخصاب المعنى ومراكمة المواقف وإنتاج القيم والأفكار في مفاهيم ومصطلحات. بل وقد أدّى ذلك إلى تنشيط القدرات التّحويليّة، حيث وقعت تهيئة العبور السّلس من الصّورة إلى التّصوّر ومن الشكل إلى المشكلة. وعند هذا الحدّ، أصبح المفهوم هو ما يصنع العمل الفنّي ! وبنفس القَدر، لم يقع تدمير القاع المتذوّت للأثر ومنزلة الذات الحاكمة، حتى في قلب الجماليّات الأكثر التصاقا باليومي- الجماعي والعلائقي، بل وبعدُ، إنّ القاع المنسيّ لجماليّة المفهوم يكمن في “الأُفهوم” أو “الأنا- أفهم” وهو ما أثرى ممكنات التمثــّـل المنطقي للعالم من خلال الخطاب المنطوق. فهل يكفي أن نترجم منظومة المفاهيم وهي تتحرّك على نحو مستمرّ داخل هذا السّياق التّحوّلي من فنّ حديث إن فنّ معاصر وحتى نسهم في مراكمته فعليّا، أو على الأقل، إن لم تسمح الخارطة الجيو سياسية للتّرويج الفنّي، هل يكفي أن نترجم حتى نفهم ونقرأ؟! ما عسى أن يكون موقع الفنّان العربي في هذا المعترك وبأيّة ترسانة مفاهيميّة يمكن له أن يجسّد حضورا فاعلا؟

تحرّيات في ترجمة المصطلح والمفهوم:

عديدة هي المصطلحات والمفاهيم الفنيّة التي نتعامل معها يوميّا في ربوعنا العربيّة، سواء في دوائر البحث الأكاديمي أو في المجالات الثقافيّة والإعلاميّة، ولكنّ أغلبها مشوب بالغموض.

د. خليل قويعة: “طائر من تراب”، ألوان زيتية وأتربة وكالسيوم على قماش، 110x110 سم، 2022. صورة
د. خليل قويعة: “طائر من تراب”، ألوان زيتية وأتربة وكالسيوم على قماش، 110×110 سم، 2022.

ومأتى ذلك من جهة أولى أنّها لم تعد تستوفي حقيقة ما نقصد، وقد تجاوزتها الممارسات الفنيّة، ومن جهة ثانية أنّها ترجمة سطحيّة لمضامين مغرقة في الخصوصيّة، أو من جهة أنّها لا تتوافق إبستيميّا مع طبائع المواضيع التي نتناولها من خلالها. وفي هذا المستوى، قد ننسج خطابات بمفاهيم أفلاطونيّة مغرقة في المثاليّة، حول أعمال من الفنّ المعاصر تبشر بتحوّلات قيميّة صاعقة وتتمرّد على الإرث المفاهيمي القديم وفي ذلك تكمن قيمتها التاريخيّة، بل ومن ذلك تستمدّ خصوصيّتها. وهو ما يؤكّد، من جهة، أنّ حركة التّرجمة لا تواكب هذه التّحوّلات المفاهيميّة المتسارعة أو على الأقلّ، لا ترشح ترجمات ملائمة يُتفق في شأنها مثلما هو الشأن في علوم الطبّ… ومن جهة أخرى، إنّ الغياب الغالب، أو الحضور المحتشم، للتّجارب العربيّة في مراكمة هذه التّحوّلات أو الإسهام فيها قد يكون حجّة لتقليص حاجة اللّسان العربي إلى الانخراط في معترك المَفهَمة والمشاركة في توليد المصطلح وتمكينه من حياة تداوليّة منتشرة. ونتيجة لذلك، نظلّ نتعاطى مع الفنّ المعاصر شكلا مفصولا عن مضامينه المخصوصة، مثل مضامين الرّفض والسّخرية والنقد والاحتجاج والتّحسيس وغيرها من المضامين التي تمثل نتاج مواقف تاريخيّة جدّ لصيقة بالمدارات الاجتماعيّة التي نشأت فيها. وهكذا، فنحن في تعاطينا مع المنجز المعاصر وكذلك الحديث، إمّا أن نقتصر على المؤثرات الحسّيّة دون المحرّضات الذهنيّة التي تترجمها اللّغة المفاهيميّة أو العكس، فيظلّ نظرنا إلى الأعمال الفنيّة مبتورا أو من جانب واحد، بما يعوق عمليّات التلقّي والقراءة…

إذا كانت اللّغة انتماءً،
فهل يمكن أن ننتمي إلى عالم
الفنّ الرّاهن بلغتـ – نا- العربيّة؟

على هذا الأساس، تتعاظم حاجتنا إلى تطوّر القاموس النّقديّ بتطوّر الرّؤى والأساليب والمواقف. ولئن عجزت القواميس المتوارثة عن نحت مفردات من مخزونها لتواكب نبض العصر، فلا جدوى ترجى من ترجمات متخشبة تأتينا من آفاق دلاليّة معلّبة لتدارك هذا العجز. إذ كيف تستقيم ترجمة الوارد بكيفيّات في الوجود اللّغوي غير موجودة بعد ! ومن ثمّة، حريّ باللّغة أن تكون من المرونة والانفتاح والتهيّؤ لتطوير مفرداتها مع تطوّر مضامين قول الوجود لدى المتكلّمين بها والمنتسبين إليها، وإلاّ كيف نفسّر هجرة المبدعين إلى أكوان لسانيّة غير التي نشؤوا فيها للتعبير عن هواجسهم المعيشة ! وقد تطال مظاهر الأزمة لتشمل نزعة قراءات فنوننا بغير لغتنا، كأن نقرأ الفكر الهندسيّ والصّوفيّ والأخلاقيّ في فنّ الرّقش الإسلامي (arabesque) باللّغة الأنجليزيّة، ليس من باب الإذعان للغة الأكثر اعتمادا فحسب (وذاك وجه آخر للموضوع)، بل لأنّ الكون الإصطلاحيّ الأصليّ والقديم بات عصيّا لدى عموم المهتمّين ولم يعد يحقّق درجة التّواصل المرجوّة. إذ أنّى لنا أن نعبّر عن وحدة الوجود بمفهوم “الألفة الجامعة”، كما صاغها الماوردي في أدب الدّنيا والدّين 1، سواء في فنّ الرّقش الزّخرفيّ أو في شريطٍ مخطوطٍ بخطّ الثلث ! فالإقتصار على مفاهيم أخلاقيّة وقيميّة من قبيل “الألفة” و”المودّة” و”الإيثار” سيؤدّي بالقطعة الزّخرفيّة التي أمامنا، ذات الألوان الطّروبة، إلى أن تكون كتلة من القيم الصّوفيّة والأخلاقيّة والدّينيّة المتأسّسة على مبدإ التّوحيد وفعل “التّسبيح” فحسب، دون استكناه قوى التّغني بوَجد الحياة فيها. فلماذا لم تنتج العربيّة ما يكفي من الإصطلاح لفهم الفنون البصريّة العربيّة؟ لِمَ يصمت اللّسان عمّا يعتمل في مستوى الإبصار، وإلى متى نحيل الأمر إلى البصيرة دون البصر؟ ثمّ كيف سيؤول الأمر عندما يقع توظيف منظومة المفردات الزّهريّة أو النّجميّة المؤسلَبة في مجال فنون التصميم المعاصر بفضل المعالجات الرّقميّة داخل برمجيّات الحواسيب؟ هل سنعالجها بلغة خوارزميّة أم بمفردات جماليّة حديثة هي من بنات الفنّ الحديث والمعاصر؟

وإذا كان الفنّ إنسانيّا، في هذا الزّمان بالذات، يدّعي الكونــيّة
تحت مظلّة “الفنّ االمعاصر”، فكيف ننخرط فيه
بلغة لا تتوفّر على هذه “الكونيّة” التي يدّعيها؟

إن نحن تعاطينا مع الرّقيشة بوصفها إحدى تمظهرات المَصوَرَة (imagerie) فلن نفيها حقّها، لأنّها ستؤول إلى مجرّد صناعة مفرديّة تقليديّة والحال أنّ نسبة الإبتكار والذّكاء الإنشائيّ أكثر من نسبة التقليد، وهو مَثل ما نسمّيه بـ”الصّناعات التّقليديّة” التي يساهم في تطويرها فنانون تشكيليّون ومصمّمون ليس التقليد مبتغاهم ! وإن تعاطينا معها بوصفها فنّا قائم الذّات على نحو ما يسمّى بالفنون الكبرى (Arts majeurs) فكيف نفسّر ارتباطها بالغرض الوظيفيّ، فهي نقيشة على باب أو في سقف أو فاصل جداريّ أو قطعة أثاث أو عنصر من عناصر المعمار وليست كيانا فنيّا معزولا عن مرافق الحياة الإستعماليّة، مهما يظهر من سعي الفنّانين القدامى من اجتهاد دقيق لجعلها مرمى للنّظر التأمّليّ الخالص. فقد تبدو مستقلّة بذاتها ولكن بفضل مقصديّة النّاظر إليها. مهما يظهر من سعي الفنّانين القدامى من اجتهاد دقيق لجعلها مرمى للنّظر التأمّليّ الخالص. فقد تبدو مستقلّة بذاتها ولكن بفضل مقصديّة النّاظر إليها. إذ هي في حجّة إنشائها بابٌ أو شبّاك أو محراب… فيما يبدو وجود الفنّان العربيّ مطموسا في غياب التّوقيع، فإذا ما ذُكرت الأسماء فلا يزيد الأمر عن ذكر المهندسين المصمّمين ومن أمَر بالبناء من أُولي الأمر من ولاّة ووزراء وسلاطين، إذ إليهم يرجع بناء هذا القصر أو هذا المسجد… وما غياب المصطلح الفنّيّ في الفنون العربيّة إلاّ استتباعا لتغييب شخص الفنّان نفسه ككيان مبدع ينزع إلى الاستقلاليّة. إذ فعند استقلاله يظهر للعيان الكون الاصطلاحيّ الذي يخصّ فنّه. إذ الفنّ في تاريخ النّظريّة العربيّة زخرفة وتزويق ومحاكاة ولا يزيد عمّا يسمّيه ابن رشد بـصناعة “الزِّوَاقة” وهي تقليد للطبيعة مثل “التصوير” 2.

تكاد تنحصر معالم أزمة المصطلح في أنّ بوادر الخطاب النّقديّ الذي يقدّم بالعربيّة لم يشكّل من المصطلحات ما به يمكن التعامل مع القيم الإبداعيّة الحديثة والمعاصرة. ويظلّ الباحثون يناظرون الجديد إمّا بمفاهيم قديمة مشربة بالميطافيزيقا الأفلاطونيّة أو مترجمة على نحو معجميّ عام.

إذ لا نزال نتعامل مع مفهوم « Esthétique » من خلال مقابل “جماليّة” وهو ما يعيدنا إلى فكرة أنّ الجميل يمثل ماهيّة كلّ إبداع فنّي. ومرّة أخرى، يتورّط الفكر في مغبّة أنّ الفنّ تجميل وتنميق وتحسين، حيث يخلط المصطلح بين الفنّان (الذي يفترض أن ينتج قيما جديدة وقد يتمرّد على القيم الذوقيّة السّائدة) وبين حرفيّي التّجميل…

في حين أنّ الألماني بومغارتن كان يقصد بلفظة «aistheta » القوى الانفعاليّة والإحساسيّة لدى الإنسان أي ما يقابل لفظة « noeta » التي تعني القوى الذهنيّة والهندسيّة، حتى يجابه ما وصله من الفيلسوف الألماني لايبنتز من أنّ الانفعالات والوجدانيات والإحساسات لا ترقى إلى أن تكون علما. فالجماليّة هي الإحساسيّة عينها وهي “نظريّة عامّة في الإحساس” 3 . وتتضح خطورة المفارقة عندما نترجم مفهوم « l’esthétique du laid » بـ “جماليّة القبيح” !
وبالمقابل، ما نزال نتعاطى مع فنّ التّصوير على أنّه “رسم” أو “فنّ الرّسم الزّيتيّ” لنتحدّث عن أعمال الفرنسيّ الغنائيّ جورج ماثيو مثلا ! وهو ما يقصر النّظر إلى فهم الرّسم من حيث هو عمليّة هندسيّة موضوعها النقطة والخطوط والحيّز، حيث الفكر يسبق عمليّة الإنجاز، أي المثال يسبق الواقع، ينفصل عنه إذ هو أصل له، فيما أنّ الواقع يخضع لقيم الخاطئ والصّحيح، إذ هو صحيح بقدر اتصاله بمثاله في عالم الذّهن أو الفيض أو سماء المثل العليا. بل لا تزال حصص التّربية التشكيليّة في مدارسنا تخضع إلى هذا البرنامج المفاهيميّ الأفلاطونيّ، حيث يجب أن نرسم بدقّة ثمّ نتقيّد بتلوين ما رسمناه بدقّة مع الالتزام بالخطوط دون طمسها…

كما أنّنا نتحدّث عن الرّقيشة مثلما نتحدّث عن لوحة في الفنّ البصريّ للمَجري فيكتور فازارلّي، أو لوحة للتّونسيّ نجيب بالخوجة، فنستعمل ثنائيّة “الفارغ والملآن” وهي ترجمة حرفيّة للمنطوق الفرنسي « le vide et le plein » وقد نوردها في صيغ الجمع فنقول “الفراغات”، في حين أنّ الفراغ لا يتعدّد في العربيّة ومن ثمّة لا يقبل الجمع، عكس لغات أخرى تشيّء الفراغ والعدم.

وكان يمكن تجذير المصطلح بما يناسب الكون الدّلاليّ في الثقافة العربيّة، إذ لمناطق الخلاء والملاء ما يمكن أن نجد لها حضورا مجديا في المتون القديمة كما هو الشأن لدى ابن سينا، صاحب النّجاة والشفاء، في الفيزياء أو الطبيعيّات وفي “تجوهر الأجسام” وتركيبها تحديدا… إلاّ أنّ الفراغ في اللّوحة مثل الكوّة في منحوتة، ليس بفراغ ولا بخلاء على وجه التّمام. بل هو في حدّ ذاته ملاء وعنصر تكوينيّ تتنفّس منه الأشكال، كما هو الشّأن في المائيّات (aquarelles).

فبياض الورقة عنصر شغّال في توازن بنية العمل. ومن ثمّة، فهو الخَوَى أو الخِواء وهو مظهر لغياب الكثافة الشكليّة-البصريّة في الفضاء، من جهة أنّه ليس فراغا ماديّا كما في الفيزياء. بل الفراغ الفيزيائيّ وإن فُهم على أنّه الحيّز الخالي من المادّة، فهو إلى اليوم محض افتراض ذهنيّ. فما لا يشغله شاغل من الأجسام كان وهمًا وشيئا محضا لدى القدامى وهو أحد أسرار الفيزياء الحديثة، وبالمقابل، فإنّ لهذا “الفراغ” الموهوم وجودا متعيّنا في العالم الحسّيّ. وهو ما قد يكون، في المدرَك التشكيليّ، بلّورا شفيفـًا في المنحوتة أو خامة الورقة في المائيّة أو دهنا أبيض في اللّوحة…

وكذا يكون الفراغ هاهنا ملاءً ! إنّه ممتلئ حسيّا (هواء، بلّور، بياض الورقة…) ولكنّه خاوٍ من حيث التّدخّلات البصريّة والتشكيليّة… ونكاد نقول إنّه منذ عرض المربّع الأبيض للرّوسي كازيمير مالفيتش أو اللّوحات التي عُرضت بمتحف الفنّ الحديث بنيويورك وغيره أو الغرف الهوائيّة كتلك التي تحدّث عنها إيف ميشو في “الفنّ في حالة غازيّة” وغير ذلك من الأمثلة 4

لم يعد هناك فراغ في الفنّ بالفهم الدّارج، بل إنّ ما هنالك ليس سوى حالة من الخواء البصريّ، خواء الغرفة من المواد الصّلبة وخواء اللّوحة من الألوان… وقد نتحدّث عن “أرسومات” الشيخ محمود الفرياني وهي معلّقة أمامنا فنترجم منطوق « la peinture sous verre » بمنطوق آخر مختلف وهو “الرّسم على الزّجاج” ونغفل عن الخلفيّة المفاهيميّة التي صيغ المصطلح بالاستناد إليها. فالمنطوق الفرنسي يعبّر عمّا يراه المتلقّي – المشاهد- فعلا داخل قاعة المعرض، بينما المنطوق العربيّ يعبّر عن ما يراه المصوّر في ورشته وهو يشتغل، إذ بين المعرض والورشة يتحوّل التحت « sous »إلى فوق « sur » . وهكذا، يقرّ هذا الاستعمال المسموم، صراحة أو إضمارا، بتغييب ثقافة العرض الفنّي (artefact) وتغييب منزلة المتلقي في النّظر والتّذوّق والقراءة داخل الثقافة العربيّة، في حين أنّ مدوّنة “الأرسومات” الزّجاجيّة قد جعلت لتباع ولتعرض وإن كان ذلك داخل المحلاّت والبيوت، بل نشأت داخل ثقافة للتواصل الرّمزيّ والمخياليّ بين هذا المنجز ومختلف الشرائح الإجتماعيّة.

ومن جهة أخرى، قد يجد اللّسان النّقديّ العربيّ نفسه في حالة انسداد كلّيّ، أمام مصطلح « Portrait » وهو تَمثّل خطير لفكرة منع التشخيص في الثقافة العربيّة وتسليم بعدم وجوده رغم الحضور المتوهّج للشخوص في تراث المنمنمات مع الواسطي في بغداد على سبيل المثال أو في الشعر وتقنيات الوصف والغزل… وجرّاء حالة العجز هذه يقع الحديث عن هذه المادّة من خلال استحضار المنطوق الفرنسي دون ترجمة وكأنّ هذا النّوع دخيل بالكامل : “بورتريه” ! وأحيانا يقع الإعتماد على منطوق مركّب من لفظتين : “صورة شخصيّة”، بحيث لو عكسنا الترجمة لتحصّلنا على معنى « image personnelle » وهو ما لا يمكن أن يفيد معنى المصطلح الذي نحن بإزائه. فما نحن بصدده هو، على الأقل من جهة المفهوم العام الذي لا نختلف فيه، صورة لشخص. ويجب أن نتّـفق على أنّ مفردة “شخصٌ” هذه، هي المحدّدة للمعنى وليست الصّورة. إذ الصّورة قد تكون صورة لشجرة أو طائر… ومن ثمّة، يرتبط المصطلح بملمح “شخصٍ” ومنه “الشخصيّة” كما في الفنّ المسرحيّ والاستعراضيّ منذ نشأة المسرح، عندما كانت الشخصيّة قناعا سطحيّا يرتديه الممثّل في أعمال سوفوكل اليونانيّ… أو عمقا نخترقه فنّا وقراءةً من خلال الإدراك (percer/perce-voir).

كما أنّ للعين حضورا مركزيّا في الشخصيّة، فهي عنصر مهمّ في تجلّيها وأداة لتعبيريّتها فضلا عن أنّها أداة إدراكها في هذا الفنّ. وفي العربيّة نقول “شَخَصَ البَصَرَ” أي فتح العينين، كما نقول “شخَّصَ” أي عيَّنَ وميَّزَ… وليس التّشخيص أو التّعيين سوى رسم المميّزات والأوضاع والملامح والحالات أي تحديد ما يمكن تحديده من الموضوع في الوضع الحسّيّ. وهكذا، كان يمكن صياغة المنطوق على نحو ما يتلاءم مع هذا الشكل في تعبيره الفنّيّ، من جهة، ومع ما يستأنس بالصّياغات اللّغويّة الجنيسة أو الشبيهة أو القريبة منها في فنون التّشكيل الفنّي ومن ذلك “النّقيشة” و”الرّقيشة” ذات الأصول الثلاثيّة (نقشَ- رقشَ- حفرَ- نسَج- شخَص) لنحصل على شخيـصة في معنى «un portrait » وبالتّوازي، على حفيرة في معنى «une gravure » عوضا عن استعمال لفظة “محفورة” التي لا تفيد سوى ما وقع عليه الحفر تحديدا، أي المفعول به « gravé-e » وعلى نسيجة عوضا عن “منسوجة”، تلك التي لا تفيد عملا فنيّا بعينه بل مجرّد ما وقع نسجه « tissé-e ».
وهكذا، فصاحب الشّخيصَة شخّاص (portraitiste) مثل نسّاج وحفّار ونقاش ورقّاش وفنّان ورسّام ونحّات وحدّاد… أمّا الشخيصة الذاتيّة فلا يمكن في هذا الأفق أن تفيد غير ما يُقصد منه بـ « autoportrait » أي ما يدرج استعماله راهنا في عديد المتون النقديّة الأكاديميّة من خلال “أوتوبورتراي”.

خاتـــمة

ولا ريب، ليس الفنّ مجرّد نظرٍ سالب إلى الشيء. إنّه نظر في الشيء. وليس النّظر مجرّد رقابة أو حراسة (re-garder) إنّه إبداع ومعرفة (sa-voir) وكلّ معرفة إنّما هي قوليّة بالأساس ومن داخل مؤسّسة اللّغة (sa-voir-dire) وإلاّ لما تحقّق شرط وجودها. ولكن، بأيّ حال يزدهر الفنّ ذهنيّا ومعرفيّا بحزمة من المفاهيم والمصطلحات وكيف يفنى فيها ويموت بها؟ متى تقتل الكلمات الأشياء وكيف تكون سُلطة متعسّفة عليها؟ هل من شأن تجويد المصطلح الفنّي أن يسهم في ترتيب علاقة “الكلمات والأشياء”، ترتيبا تتحدّد في ضوئه خصوصيّة الرّؤية إلى ماهيّة الفنّ نفسها؟ وبعدُ، فإذا كانت اللّغة مؤسّسة من الضّوابط والقواعد وقوانين القول، فإنّ العمل الفنّي يظل عصيّا على المَأسَسَة بل و”فوق القانون” كما قال بول كلي !
وإذا كانت اللّغة انتماءً، فهل يمكن أن ننتمي إلى عالم الفنّ الرّاهن بلغتـ – نا- العربيّة؟ وإذا كان الفنّ إنسانيّا، في هذا الزّمان بالذات، يدّعي الكونــيّة تحت مظلّة “الفنّ االمعاصر”، فكيف ننخرط فيه بلغة لا تتوفّر على هذه “الكونيّة” التي يدّعيها؟ كيف يُكابد الفنّان التّونسيّ اليوم وجودا تراجيديّا وإشكاليّا، من جهة أنّه يتحرّك في الفنّ ضمن خارطة تدّعي الكونيّة ذات مفاهيم ومصطلحات ميتا- محليّة وهو، في ذات الوقت، ينشط ضمن ما تتيحه خارطته اللّغويّة المحدودة رغم احتوائها على خزّان سوسيو- ثقافيّ ثريّ؟

1 . الماوردي : أدب الدّنيا والدّين، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1978، ص. 148 حيث وفي معرض حديثه عن التّجمّع في المدينة العربيّة الإسلاميّة “التّآلف هو الجمع المصطنع على قاعدة المودّة”، كما أنّ “الألفة الجامعة” هي المعنى المراد من خلال التّأليف في الفكر العربي الإسلامي. وكذلك الماوردي : تسهيل النّظر، دار لعلوم العربيّة، بيروت 1987، ص. 27، حيث يقول “… الناس أصناف مختلفون وأطوار متباينون، ليكونوا بالاختلاف متباينين وبالتّباين متّفقين”.

2 . ابن رشد : تلخيص كتاب الشّعر، b 41450 – 1450 b 4-7 [23-27]، تحقيق تشارلز بترورث وأحمد عبد المجيد هريدي، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1987، “لذلك استعمل النّاس صناعة الزّواقة والتّصوير” ص. 71.

3 . Château (Dominique) : L’Epistémologie de l’esthétique, ouverture philosophique, l’Harmattan, Paris, 2000, p. 258.

4 . ومن ذلك نذكر عملين معروضين بمتحف مركز جورج بومبيدو بباريس، جناح الفنّ المعاصر، الأوّل لجو بير (Jo Bear-1929) تحت عنوان “دون عنوان”، 1963، دهن زيتي (أبيض) على قماش. والثاني لروبارت ريمان (Robert Ryman- 1930) تحت عنوان “دون عنوان”، 1974، دهن صناعي مبرنق (laqué) على قماش.

الكتاب

باحث، فنان وأستاذ في علوم وتقنيات الفنون بجامعة صفاقس،حاصل على دكتوراه في الفن وعلوم وتقنيات الفنون/ اختصاص الفنّ المعاصر.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.