لا يزال تصوُّرنا للتصوُّف يكتنفه نوع من الضبابية والالتباس، ولا يزال يُختزَل أنثروبولوجيًا أو إثنولوجيًا إلى طرق باطنية، لها نظام في المسارَّة والدخول في الطريقة، وتعتمد في نمط اشتغالها على معجم وسلوك، وترتكز في نظام تصوُّرها على سردية هي في الغالب السردية الدينية أو الأسطورية، بالمعنى الإيجابي للأسطورة بوصفها منظومة التخيُّل والإيحاء وتشكيل الصور الروحانية، أو يُختزل في مفردات لم تُوثِّق المصادر نسبتها إلى المتصوِّفة، وإنما ممَّن هجاهم وذمَّهم مثل «الحلول والاتحاد» و«وحدة الوجود». هل بالفعل يُختزَل التصوُّف إلى هذه الصورة الأنثروبولوجية والكاريكاتورية؟ أليست هذه الصورة عائقًا في فهم الأبعاد الميتافيزيقية والأنطولوجية التي بُني عليها الخطاب الصوفي والذي نجد ترجماته في الفلسفة والتحليل النفسي والفنون التشكيلية والمعمارية؟ يحجب التصوُّر الشائع للتصوُّف (الطرقية، الأضرحة، الأولياء، القدِّيسين، التبرُّك، التوسُّل، إلخ) نظرتنا لما يمكن أن يكون عليه التصوُّف وهو توليد الصورة الروحانية في الفنون والآداب والفلسفة والهندسة المعمارية.
بالفعل، لقد ولَّد التصوُّف في تاريخه الطويل والمضطرب صورًا روحانية تجسَّدت في المعمار (المساجد، القصور، الحمَّامات، إلخ)، وكذلك في الفنون التشكيلية، خصوصًا صورة «الرقص الدائري» (Whirling Dervishes) في المَوْلَوية، نسبةً إلى جلال الدين الرومي (1207-1273)، والتصوير التشكيلي للنص المقدَّس عند مارك شاغال (1887-1985). إذا تسنَّى لنا البحث عن تجليَّات التصوُّف في الفن التشكيلي والمعماري، سنلجأ إلى بعض المبادئ التي وُجدت في أدبيات الثقافة المسيحية والثقافة العربية الإسلامية، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي: مبدأ التماثل بين الشعر والتشكيل، مبدأ التشاكل بين الإنساني والكوسمولوجي، وأخيرًا مبدأ الأشكال والدوائر. نضع في الأخير ملحقًا حول أهم الرسوم التشكيلية والمعمارية ذات الصبغة الصوفية والتي هي ترجمة لنظام العالم في الرسم، وترجمة لنظام الصورة في النَّظم.
مبدأ التماثل بين الشعر والتشكيل
تعود عبارة «يُشْبهُ الشِّعْرُ الرَّسْمَ» (ut pictura poesis) إلى الشاعر الروماني هوراتيوس (65-08 ق.م)، الذي استلهم من فكرة سيمونديس القائل وبنوعٍ من التبديل أو الكْيَاسْموس (chiasmus): «الشِّعْر هُوَ رَسْمٌ نَاطِق، والرَّسْم هُوَ شِعْرٌ صَامِت». ومن ثمَّ فإن الكلمات في القصيدة تقوم مقام الألوان في التشكيل. إذا كانت الصيغة معروفة في زمان الشعراء اللاتين وتوطَّدت بشكل بارز مع رسَّامي عصر النهضة الأوروبية، كيف كان الحال في الثقافة العربية الإسلامية؟ هل أسهم التصوُّف في جعل الكلمات صورًا مرئية، وفي جعل الصور عبارات مقروءة؟ ينبغي الإشارة إلى أن الثقافة العربية الإسلامية كانت «أيْقُنُكْلَسْتِيَّة» المنزع مثلها مثل اليهودية، أي أنها تحارب الصورة والتصوير بناءً على السَّردية الدينية التي تُحرِّم الصورة. لكن لم تكن «غير-أيقونية» (aniconic) مطلقًا حسب كريستيان غرابر بل ظهرت في التاريخ الإسلامي محاولات أيقونية تجلَّت على وجه التحديد في فن المنمنمات. والمدارس الفنية والتشكيلية التي يُعدِّدها محمود فرغلي هي الشاهد على الاهتمام المتنامي بالصورة والتصوير بدرجات متفاوتة من البساطة والتعقيد. كذلك، قام الفنَّان التشكيلي المعاصر محمود فرشتشيان بالاستلهام في بعض أعماله التشكيلية من غزليات المتصوف شمس الدين الحافظ الشيرازي (1325-1390م)، حيث تغلب ثيمة الأنوثة والألوان الداكنة التي تُعطي للعين الناظرة الانطباع بأن عالم اللوحة التشكيلية في دوران أو تموُّج دائم.
مع ذلك، تبقى الطائفة الكاثوليكية من المسيحية (وبشكل نسبي الأرثوذكسية) وحدها التي تميَّزت في التاريخ الديني بالجواز الصريح للتصوير والنحت بعد مجمَّعات دينية ونقاشات لاهوتية حامية. لذا، نألف في الكنائس والكاتدرائيات الكاثوليكية الزَّخم في الصورة عبر تماثيل العذراء واليسوع واللوحات الزيتية للقدِّيسين والمشاهد الإنجيلية كما تفنَّن بعض الرسَّامين في التعبير عنها باللون والريشة، أمثال رفائيل ومايكل انجلو في عصر النهضة الأوروبية. كانت الكاثوليكية بالفعل «طريقة صوفية» في نظرتها للعالم وتنظيمها للمجتمع؛ والتصوُّر الصوفي هو «أيْقُونُوفِيلي» في جوهره، يهوى الصورة والتصوير، إمَّا نحتًا وتشكيلًا، وكان اليسوعيون الذين ترأسهم المتصوّف الإسباني «إغْنَاسْيُو دي لُويُولا» (1491-1556م) وأسَّس تنظيمهم، من بين الصوفية الأكثر عشقًا للصورة والتصوير، والأكثر استعمالًا لها في الإصلاح-المضاد، في صراعهم مع البروتستانتية؛ وإمَّا تعبيرًا بالكلمات وتزيينًا بالقصائد كما نجد ذلك في عهد النصريين (أو بنو الأحمر) في غرناطة، وخصوصًا التصوير الفنِّي للشعر في قصر الحمراء. يُ يُعدُّ لسان الدين بن الخطيب وتلميذه ابن زمرك الأندلسي من بين الشعراء والوزراء الذين أتاحوا تزيين قصر الحمراء مُطبِّقين، على غير درايةٍ منهم، المبدأ الهوراتيوسي حول تواشج الشعر والتشكيل، بجعل الشعر «يُرى» والرَّسم «يُقرأ». ترك ابن الخطيب مؤلَّفًا هو «الكَتِيبَة الكَامِنَة في مَن لَقَيْنَاهُ بالأنْدَلُس من شُعَرَاء المائَة الثَّامِنَة» ، ويتصدَّر الشعراء الصوفية الكتاب بقدرٍ معتبر ممَّن تعاطى النظم، مثل ابن الزيَّات المالقي القائل:
شُهُودُ ذَاتِكَ سِرٌّ عَنْكَ مَحْجُوبُ
لَوْ كُنْتَ تُدْرِكُهُ لم يَبْقَ مَطْلُوبُ
عُلُوٌّ وَسُفْلٌ وَمنْ هَذَا وَذَاكَ معًا
دَوْرٌ عَلَى نُقْطَةِ الأشْرَافِ مَنْصُوبُ
هذا قيظ من فيض حول الحضور المكثَّف للروح الصوفية وترجماتها الشعرية والمعمارية؛ بل وحضور الروح التشكيلية والمعمارية في النظم نفسه كما نستشف في هذه القصيدة لابن الزيَّات (العلو، السفل، الدور، النقطة، النصب) أو أيضًا في كتاب «إنشاء الدوائر» لمحي الدين ابن عربي الذي يُوفِّر أجمل مثال حول تواشج الروحي والهندسي. إذا نظرنا مثلًا في العبارات التي تُنمِّق قاعة المشْوَر في قصر الحمراء (غرناطة)، فإن البارز هو شعار بني الأحمر (لا غَالبَ إلَّا الله)، علاوةً على الآيات القرآنية التي تُزيِّن السقوف والأقواس أو أشعار المديح لسلالة أبي عبد الله التي حكمت غرناطة. لكن المثير للانتباه هو الحمولة الصوفية في بعض العبارات التي تُزيِّن جدران القاعات والبهو والرواق مثل عبارة «الغبطة المتَّصلة» و«السعادة التامَّة»، وكلمات «البركة»، و«اليُمن»، و«الإقبال» بالخط الكوفي. يتخلَّل العبارات النقوش والتوريق (الرسوم النباتية)، وهذا أقصى ما كان يوجد في الغرب الإسلامي والأندلس، لما تركه تحريم التصوير من أثر على الزُهد في الصورة والزهدان في الوسائل المؤدية إليها.
مبدأ التشاكل بين الإنساني والكوسمولوجي
ينكشف هذا المبدأ في قبب القصور كما نجد ذلك في «قاعة قمارش» في قصر الحمراء بغرناطة. تُمثِّل القبَّة المعمارية نظيرًا للقبَّة السماوية التي تُعمِّرها الأجرام والنجوم والكواكب. تُمثِّل القبَّة المعمارية نظيرًا للقبَّة السماوية التي تُعمِّرها الأجرام والنجوم والكواكب. في القاعة، يُزيِّن شريط من الآية 30 من سورة المُلك «وَلَقَد زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمَصَابيحَ» الجدران؛ وتُنمّق قصيدة منسوبة لابن الخطيب شريطًا آخر يقول فيها الشاعر:
تُحَييك مِنِّي حِينَ تُصْبحُ أو تُمسِي
تُمسِي ثُغُور المنَى واليُمْن وَالسَّعْد وَالأنْسِ
هِيَ القُبَّة العُلْيَا وَنَحْنُ بَنَاتُها
وَلَكِن لي التَّفْضِيل وَالعِز في جِنْسِي
جَوَارحٌ كُنْتُ القَلْبَ لا شَكَّ بَيْنَها
وفي القَلْب تَبْدُو قُوَّةُ الرُّوح وَالنَّفْسِ
وَتَهْوَى النُّجُومُ الزُّهْرُ لَوْ ثَبَتَتْ بهَا
وَلم تَكُ في أفْقِ السَّمَاءِ جَوَاريَا
تُقدِّم هذه القصيدة التي تزدان بها قاعة قمارش أساسيات التواشج بين الإنساني (الجوارح، القلب، الروح، النفس) والكوسمولوجي (القبة العليا، بروج السماء، الشمس). هذا التواشج قديم قدم الفكر البشري، وتعزَّز خصوصًا عند الصوفية الذين غالبًا ما يُقيمون تبديلًا أو تداخلًا بين الإنسان بوصفه «العالم الصغير» والعالم باعتباره «الإنسان الكبير». ». وُجدت هذه الصيغة عند الفيلسوف اللاتيني نميسْيُوس (350-420م)، استعادها إخوان الصفا في «الرسائل» والجاحظ، لتجد أوجَّ تعبيرها في التصوف الأندلسي خصوصًا عند محي الدين بن عربي القائل: «فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير» . إذا كان الفن التشكيلي والمعماري يُصوِّر العالم بأجرامه وقببه السماوية ولا يُصوِّر الإنسان بعوالمه العقلية والنفسية ملتزمًا بالتحريم التاريخي والفقهي للصورة ما عدا بعض المنمنمات التي ميَّزت التاريخ الإسلامي، يمكن أن نقول بأن الإنسان يأتي مخبَّئًا في الكون، في صيغة بلاغية تُنعتُ بالإضمار (enthymemes). فالإنسان مُضمَر في ظواهر الكون مثلما الكون بادٍ في مظاهر الإنسان الطبيعية (تشبيه البَشَرَة أو طيَّات الجِلْد بالأرض بسهوبها وتضاريسها، تشبيه العين ومركَّباتها من حدقة وقزحية وشبكية بالكرة السماوية، إلخ). لا يظهر الإنسان سوى في ظواهر الكون. لا يتردَّد ابن زمرك الأندلسي في الحديث بضمير المتكلم المفردفي ثقافةٍ يغلب عليها ضمير المتكلم الجمع،وقد ازدانت قاعة القبة الكبرى في قصر الحمراء بقصيدته بالخط الكوفي وفي صيغة مقلوبة تُوحي بفكرة أن الإنسان هو المقلوب المرآوي للكون، ومضمرًا فيه:
أنا الرَّوْضُ قَدْ أصْبَحْتُ بالحُسْن حَاليَا
تَأمَّل جَمَالي تَسْتَفِدْ شَرْحَ حَاليَا
أبَاهِي مِنَ الموْلَى الإمَام مُحمَّدٍ
بأكْرَمِ مَنْ يَأتي وَمَنْ كَانَ مَاضِيَا
وللهِ مَبْنَاهُ الجميلُ فإنَّه
يَفُوقُ عَلَى حُكْم السُّعُود المبَانيَا
فَكَمْ فيهِ للأبْصَار مِنْ مُتَنَزِّهٍ
تُجدُّ به نَفْسُ الحلِيم الأمَانيَا
تَبيتُ لهُ خَمْسُ الثُّرَيَا مُعِيذَةً
وَيُصْبحُ مُعْتَلُّ النَّوَاسِم رَاقيَا
به القُبَّة الغَرَّاء قَلَّ نَظِيرُهَا
تَرَى الحُسْنَ فيهَا مُسْتَكِنَّا وَبَادِيَا
تَمدُّ لهَا الجَوْزَاءُ كَفَّ مُصَافحٍ
وَيَدْنُو لها بَدْرُ السَّمَاءِ مُنَاجيَا
وَتَهْوَى النُّجُومُ الزُّهْرُ لَوْ ثَبَتَتْ بهَا
وَلم تَكُ في أفْقِ السَّمَاءِ جَوَاريَا
في قصيدة ابن زمرك يتصرَّف الكون كما لو كان إنسانًا، وهو بالفعل الإنسان الكبير بتعبير الصوفية، يستعير أحواله ويتقمَّص أفعاله: فالثريا تبيت وتتعوَّذ، والقبَّة تكشف عن جمالها، والجوزاء تُصافح، وبدر السماء يدنو ويُناجي. الكون عند الصوفية هو كائن حي ومتحرِّك، يتنفَّس بنَفَس الرَّحمن الذي نفخ فيه صور الأشياء والخلائق. يُترجم الموْلَوي هذه الحياة والحركة في الرقص الدائري، حركةً ديناميةً تصنع الدوائر المتراكزة، وحركةً متجمِّدةً في الفنون التشكيلية. في دورانه، يجمع الموْلَوي بين السماء والأرض باليد اليمنى المرتفعة نحو الأعلى واليد اليسرى المنخفضة نحو الأسفل. يُشير بذلك إلى تمفصل الإنسان والكون في حركته، يدور ويحور تابعًا دوران الأفلاك حول نفسها؛ ثم يحتار والحيرة هي أسمى تجليَّات الحكمة، لأنه يرى الانسجام في عين التبعثر والكَاوْس. يجمع الموْلَوي بين الروحي والجمالي حيث أعطى شفيق فاروقي عرضًا نثريًا وتشكيليًا في كتابه العمدة . يتبع الرقص المولوي، عرضًا أم تشكيلًا، لحظة السَّماع حيث يتحرَّك الجسد بالحب الكوني والوجد الذاتي. كذلك يجمع بين النقائض (الفناء والبقاء)، ويُبرز الطبيعة الدائرية للوجود. تكشف اللوحات التشكيلية للفاروقي هذا الجانب من تسامي الموْلَوي وصعوده نحو الكون بفنائه عن نفسه واعتناقه للوجود.
مبدأ الأشكال والدوائر
إنه المبدأ الغالب في التصوُّر الصوفي للعالم، والذي انعكس كذلك على الفنون التشكيلية والمعمارية في تحبيذ الدوائر مثل الأقواس، والتموُّج مثل التوريق، وأسهم الخط العربي في إعطاء هذه الصورة الدائرية بُعدًا فنيًّا بتمديد الحروف وعطفها على بعضها. يُبيِّن سامر عكَّاش كيف أن العالم (كوسموس) في التصوُّر الإسلامي للعصر الوسيط هو مجموعة من الدوائر، أدناها الدوائر الحسيَّة والطبيعية وأعلاها الدوائر الميتافيزيقية والملائكية ، بحيث لو صوَّرنا هذه الدوائر تشكيليًا لأعطانا مشهدًا في غاية الجمال والجلال. لم يكن ذلك ممكنًا في سياق ثقافة فنيَّة «أيْقُنُكلستية»، وأصبح ذلك ممكنًا في الفن الحديث خصوصًا في الفن الباروكي. لكن الذاكرة الفنيَّة للباروك كانت موجودة في الثقافة العربية الإسلامية كما يؤمن بذلك عاج برنت. يقول: «لقد دعَّم فريتس ستريش فكرة أن الباروك هو بالفعل ابتكار إسباني. ولم يكن بإمكانه أن يُصبح ظاهرة مشهودة دون الإسهام الإسباني، حيث تطوَّر وتمدَّد في أوروبا كلها. كانت الدعامة خاصة: كانت الثقافة العربية قويَّة جدًّا، خصوصًا في الأندلس، ولم تكن النهضة سوى فترة عابرة ودون عُمق، وكان الإصلاح المضاد عنيفًا» .
إذا اتَّفقنا على أن الدائرة والتموُّج والظل الممتزج بالنور (غالبًا ما شرح ابن عربي في كتاباته الحديث القائل «خَلَقَ اللهُ الخَلْق في ظُلْمَة، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهم منْ نُوره») هي الأساسيات التي قام عليها الفن الباروكي في التشكيل والمعمار، نُدرك أن هذه العناصر كانت تؤمُّ الثقافة الإسلامية بوجود قبب مظلمة يخترقها النور من فتحات زجاجية صغيرة. يُقدِّم الحمَّام الملكي في قصر الحمراء جانبًا من رش الأنوار في الظلمة بفتحات شبيهة بالنجوم التي تتلألأ وسط الظلام. النور/الظلمة، البرودة/الحرارة، الشتات/التأليف، إنها من بين العناصر الباروكية (قبل الأوان) في تجميل دواخل المعمار. يقول الشاعر ابن الجيَّاب الغرناطي الذي زُيِّنت بقصيدته جدران الحمَّام:
للنَّار حَرٌّ فيه مُسْتَعْذَبٌ
وفيه للمَاءِ المعِينِ انْهِمَارُ
فَفِيهِ أشْتَاتُ المُنَى ألِّفَت
كَفَاكَ بالضِدَّيْنِ مَاءٌ ونَارُ
التموُّج أو الدوران هو ما يتيح للهندسة والتشكيل الإفلات من الشكل الرتيب وإعطاء الصورة حياةً وحركةً. يُعدُّ كتاب ابن عربي «إنشاء الدوائر» من أبرز الكتب الصوفية حول مقام الصورة. فهو إذ يُقدِّم أنطولوجيا نظرية حول نظام العالم وتواشج الإنساني والكوني، فإنه يُبرز جمالية خاصَّة بكل ما يمكنه أن يتجسَّد رسمًا أو معمارًا. يقول: «فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لما عَرَّفَني حَقَائقَ الأشْيَاءِ عَلَى مَا هيَ عَلَيْهِ في ذَوَاتِها»، وهذا مبدأ فينومينولوجي بامتياز في إدراك الأشياء ذاتها في محض ظاهريتها، «وأطْلَعَني كَشْفًا عَلَى حَقَائِقَ نِسَبهَا وإضَافَاتِهَا» وهذا مبدأ تأويلي في فهم النِّسب والعلاقات «أرَدْتُ أن أدْخِلَهَا في قَالبِ التَّشْكِيل الحسِّي» وهذا مبدأ جمالي في تجسيد الفكرة المتعالية في المادَّة الحسِّية. إذا كان مدار الحديث في الكتاب حول الوجود والعدم والأسماء وبدء العالم، فإن مبتدأه جمالي ومنتهاه جمالي، ينطلق من إدخال المجرَّد في المحسوس مثل أي فكرة تتجسَّد تشكيلًا أو معمارًا أو نحتًا، وينتهي بشرح عبارة أبي حامد الغزالي «ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم»، الذي تجلَّى جماليًا بالانسجام الذي يُميِّزه. الإبداع هو عنوان الحكمة المتناثرة في أركانه التي يحاكيها الإنسان إلهامًا وعبقريةً عندما يُقْدم على تصوير نظام العالم في الفنون التشكيلية والمعمارية.
الغرض من هذه المبادئ التي ميَّزت النظم والتشكيل والمعمار، إنما هو الإشارة إلى الروح الخالد في التشكُّلات الثقافية. تُعدُّ فكرة «الفلسفة الخالدة» (Perenial Philosophy) من بين الأفكار الصوفية النافذة في تاريخ البشرية، ليس فحسب من حيث البُعد الكوني للأشكال الميتافيزيقية والجمالية المتواترة عبر التاريخ في مختلف الثقافات والديانات، بل كذلك من حيث تلاقي الاختلافات وتعايُشها، وهذا ما يُشير إليه عكَّاش بتحقيق «التوافقات بين كل الأشكال» . يُشير الكاتب الإسباني أجينيو دورس إلى أن ثمَّة «أيُّونًا» (Aiôn)، وهو الزمن الميتافيزيقي والخالد، الذي يجعل الثقافات تتشاكل في محض تمايزها. الباروك الذي يرتقي به دورس إلى مبدأ الفلسفة الخالدة (ولا يعدُّه مجرَّد أسلوب تشكيلي ومعماري ظهر في إيطاليا في القرنين السادس عشر والسابع عشر ثم اختفى)، هو هذا الأيُّون العابر للأزمنة التاريخية، والخالد في الأشكال المتنوِّعة، ، والذي تؤمن الرؤية الصوفية للعالم بفاعليته وحيويته، وقُدرته على تجسيد المجرَّد، وتحقيق العيش الحضاري المشترك. ومن ثمَّ فإن مبادئ هذه الرؤية الصوفية المتجسِّدة في الفنون التشكيلية والمعمارية هو عينه هذا الزمن الخالد الذي نلج فيه عندما نشاهد لوحةً أو معمارًا أو نسمع نغمةً أو ننغمس في تأمُّل أو تفكُّر، فينتشلنا من ذواتنا ويزجُّ بنا في وحدة الإحساس البشري والشعور الأقيانوسي بظواهر العالم.
المراجع
- ينظر: ابن الخطيب، لسان الدين (1983)، الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت. – ابن عربي، محي الدين (د. ت.)، الفتوحات المكية، 4 أجزاء، ج. 2، دار صادر، بيروت.
- – ابن عربي، محي الدين (1919)، إنشاء الدوائر، تحقيق وترجمة ألمانية ونشر النص العربي من إعداد نيبرغ، منشورات بريل، ليدن. ص 3-4. – ابن عربي، محي الدين (د. ت.)، الفتوحات المكية، 4 أجزاء، ج. 2، دار صادر، بيروت.
- Ibn Arabi, Muḥyī ad-Dīn (n.d.), Futūḥāt al-Makkiyya (Meccan Revelations), 4 parts, Dar Sadir Publisher, Beirut, (In Arabic)
- – ينظر: الصَّريحي، محمد بن يوسف (1997)، ديوان ابن زمرك الأندلسي، تحقيق محمد توفيق النيفر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 1.
- Farghalī, Abū al-Ḥamd Maḥmūd (2000), Islamic Figuration: Origins, Islam Stance, Principles, and Movements, Egyptian-Lebanese Publishing House, Cairo, 1991 (In Arabic)
- Akkach, Samer (2005), Cosmology and Architecture in Premodern Islam. An Architectural Reading of Mystical Ideas, SUNY: New York.
- Brandt, Aage (1996), « Morphogenèse et rationalité : réflexions sur le baroque », in Buci-Glucksmann, Christine (éd.), Puissance du Baroque. Les forces, les formes, les rationalités, Paris, Galilée.
- D’Ors, Eugenio (1935), Los Barroco, French Translation by Agathe Rouart-Valéry, Du Baroque, Paris, Gallimard, 1936.
- Farooqi, Shafique (2014), The Tale of Drunken Flute in Whirling Dervishes, Farooqi Art Studio: Lahore.
- Gruber, Christian (2010), The Islamic Manuscript Tradition, Indiana University Press.
- Puerta Vilchez, José Miguel (2011), Reading the Alhambra: A Visual Guide to the Alhambra Through Its Inscriptions, Edilux.
باحث وأكاديمي،أستاذ التعليم العالي في الفلسفة بجامعة تلمسان (الجزائر). درس الدراسات العربية الإسلامية بجامعة بروفونس (فرنسا) وتحصل من جامعتها على الدكتوراه عام 2004 في مجال التصوف والتأويليات؛ ثم تحصل على دكتوراه ثانية في الفلسفة من جامعة أكس-مرسيليا (فرنسا) عام 2011 في مجال الفلسفة العملية ونظريات اليومي.