وسام العابد: "مسافرون"، تلصيق وإضاءة سوداء، 2020، صور مختلفة بعدسة حلمي الجريبي، بإذن من الفنان.

في تحوُّلات القيم الفنيّة والجهاز المفاهيمي:
الفنون الجميلة لم تعد جميلة

لقد أشكل على العقل النّقدي اليوم تفحّص وضع

الجميل ما بين التّجارب الإبداعيّة التي لم يعد الأمر ملائما

لإخضاعها للتّصنيفات

الكلاسيكيّة وحتى الحديثة

لم يعد الشيء الجميل هو الرِّهان الأساسي للفنِّ كما كان في الفنِّ الحديث، فقد حلَّت محلَّه في فنون ما بعد الحداثة رهانات أخرى مثل الإثارة والتَّحسيس عن طريق الفضح، والصَّدمة، والسُّخرية، والتَّشويه… وهي مفاعلات مثيرة لتحفيز الوعي الإنساني إزاء قضايا الرَّاهن التَّاريخي؛ فقد أصبح بعض الفنَّانين يتـفنَّـنون في تقبـيح صورة العالم لإثارة الانتباه إلى مخلَّفات الحروب، ويتفنَّنون في تقديم صورة غير سليمة للطبيعة لتنشيط الوعي الإيكولوجي. إنَّ الفن مقاومة في زمن لم يعد فيه العمل الفنِّي تعبيرًا عن إحساس الذَّات وهي تعتمد على الفن لتقاسم متعتها الجماليَّة (كما كان في فكر إيمانويل كانط)، بل توليدًا للمعرفة وربطًا بين مسار الإبداع ومسار الحياة في الكائن (كما في طروحات أدموند كوشو وغزافياي لومبارت على سبيل المثال)، وإحياءً للمشترك الخلَّاق ما بين الجموع الإنسانيَّة (كما في طرح أنطونيو نغري). إنَّها تحوُّلات في الفكر والنَّظر، وفي طرائق الفهم وتأويل العالم؛ تحوُّلات متسارعة أسَّست لما بعد الحداثة وأصبح لزامًا عليها الوعي بها لفهم ظواهر الفنِّ المعاصر وما بعده. لقد أصبح المفهوم يتربَّع على عرش الفنِّ؛ مما جعل هذا الأخير يحتاج دومًا إلى تعريف جديد وماهيَّة جديدة مع كلِّ عمل فنِّي يُنجز.

لا تزال أزمة الثقافة اليوم في بلادنا أزمة مفاهيم وتمهية بصورة خاصة: ما المقصود بالفنِّ؟ من جمهور الفنّ؟ وما المقصود بالثقافة أصلًا؟ متى تستقيم شروط العرض الفنِّي؟ وما جوهره؟ أي كيف يتحرَّر الفنُّ من المفاهيم القديمة التي تعود إلى القرون الوسطى وفي أحسن الأحوال إلى القرن الثامن عشر؟ وكيف يجري من خلال تطوير المفاهيم تطوير التَّرسانة التَّشريعيّة وتفريع المؤسَّسات؟ وكيف تُحاك في ضوء ذلك كلِّه البرامج الثقافيّة بمرونة؟ إنَّ أوَّل لحظة يقتضيها مُعترك الإصلاح هي إعادة ربط الثقافة بالمعرفة، ودون ذلك سيبقى العمل الثقافي مرتهنًا باستنساخ التِّقنيَّة والمهارات الأوَّليَّة الخام التي لا ترتقي إلى إنتاج القيم، وخدمة الرُّوح الإبداعيَّة، وصناعة المعنى، ومراكمة الخطاب الثقافي الذي يُفترض أن يعبِّر عن ضمير المجتمع. اليوم، يرتبط الفنُّ بالمعرفة التَّاريخيَّة والتَّجديد الخلَّاق أكثر من أي وقت مضى وفي أطر لا مركزيَّة تقوم على المشاركة الخلَّاقة. ذلك هو عنوان كلِّ استفاقة وطنية مبدعة ممكنة وبطاقة هُويَّة البلد، وذلك هو أوَّل رهان للتَّرويج، والتَّسويق، والإشعاع خارج التَّعاطي السَّاذج مع التَّطوُّرات الصَّاعقة لمفاهيم الفنِّ في العالم وخارج الاختزال الفولكلوري الفجِّ الذي ارتهنت به الثقافة في بعض البلاد العربيَّة عامَّة لعقود من الزَّمن بقصد مغازلة السَّائح الأجنبي وكبح جماح الإبداع لدى الفنَّانين وصُنَّاع الموقف الثقافي!

لا معنى للتَّطوُّر الذي يطبع تاريخ الفن على الأقل في المرحلة الرَّاهنة دون تطوُّر آخر موازٍ يتعلَّق بمنظومة المفاهيم والمصطلحات التي تتَّصل بالفنون وخطاباتها وحضورها داخل الفكر النَّقدي. إن كلَّ عمل فنِّي حقيقيٍّ يُنجز اليوم يمثل ثورة في المفهوم ويطرح تعريفًا جديدًا للفنِّ. يكفي أن ننظر في خطابات كلٍّ من الألماني جوزيف كوسيث (رائد الفنِّ المفاهيمي)، والفرنسي بيار سولاج (رائد ما أسماه بـ “النُّور الأسود”)، والتُّونسي نجيب بالخوجة (أحد أهمِّ روَّاد التجريد في العالم العربي) -على سبيل المثال- حتَّى ندرك الحقيقة التَّالية وهي أنه لكي أكون فنَّانًا في هذا الزَّمان ينبغي أن أعيد طرح السُّؤال حول ماهيَّة الفنّ. ليس الفنّ زينة على جدران الشقق والمتاحف بل هو دفاع من أجل الحياة، إنَّه ينبض تاريخيًّا مع إيقاع الحياة، بل يساهم في تنشيطها بصفته فكرًا حيًّا يسهم في المراكمة المعرفيَّة وفي تغذية الضَّمير الثقافي.

1- في سرديَّة الجميل:

لقد ارتبط الفنُّ بالجمال منذ القِدم إلَّا أنَّ الحداثة قد عملت على تذويت الجميل الفنِّي ومكَّنته من الاستقلاليَّة والتسيُّد؛ فلم يعد متوارثًا، أو معطًى ثابتًا، أو أمرًا يأتمر به الذوق إذعانًا لأوامر الكنيسة أو لنواميس المجتمع وأعرافه؛ إذ ليس للجميل وجود خارج إحساس الذَّات، فلا وجود لجميل في حدِّ ذاته، إنَّ الجميل جميل لأنَّ الذَّات قد أحسَّت به ورأته كذلك، كما قال منظِّر الإحساسيِّة الحديثة (الأستاطيقا) الألماني إيمانوبل كانط في القرن الثامن عشر في كتابه المؤسِّس “نقد الحاكمة“، (1) فقد أصبح الفنُّ يمنحنا عيونًا نرى بها العالم، على نحو ما قال أستاذه بومغارتن الذي أراد جعل مجال الذَّكاء الإحساسي (Aistheta) موضوعًا لمعرفة علميَّة تحدِّيًا للفيلسوف لايبنتز الذي رأى أنَّه لا وجود لمعرفة خارج مجال الذَّكاء الذِّهني (Noeta).

ظهر مصطلح “الفنون الجميلة” في نهاية القرن السَّابع عشر على نحو ما ذكر جاك لاكومب في قاموسه الذي خصَّ به الفنون سنة 1752. وتحدِّد بادلين سانت (2) جيرونس أربعة أحداث كبرى شكَّلت تصوُّرات للجميل والقبيح وهي

نجيب بالخوجة، بغداد «وكانت سماء حمراء » زيتية على قماش، 130X 80 سم، 1991 مجموعة صدربعل، الحمامات، تونس، بإذن من الفنان.

أوَّلا: تسيُّد الجميل (autonomy of beauty) في نهاية القرن الثامن عشر.. وحريٌّ بنا أن نذكر جهود أوغاستينو نيفو في هذا المجال؛ فقد كان أوَّل من منح الجميل استقلاليَّته وتسيُّده في “كتاب الجميل” سنة 1531. ثانيًا: المساعي التي ظهرت منذ عصر النَّهضة باتِّجاه توطين الجميل في الفنِّ. ثالثًا: وضع الجميل محلَّ مباحثة فكريَّة من جهة أنَّه مثال معياريٌّ. رابعًا: مدى التَّعارض القائم في مقاربة كلٍّ من الجميل والقبيح.

نجيب بالخوجة: « مشهد ليلي رقم27 »، زيتية على قماش، 117X 91 سم، 1968 ، بإذن من الفنان.

لم يكن الجميل خاليًا من الشوائب التي تعلَّقت به كلَّما وقعت مباحثة موقعه داخل الأنساق المعرفيَّة والفلسفيَّة المثاليَّة؛ فهو موضوع للغبطة والحبِّ ولكنَّه –بالتَّوازي- مصدر خيبات ومغالطات. على أنَّ مأتى غموض الجميل والتباسه قديمًا راجع إلى الحالات التي تنقطع فيها صلته بالخير (مجال الأخلاق) وبالحقيقي (مجال المعرفة) على نحو ما أظهره أفلاطون من مؤاخذات في محاورة “الهبياس الأعلى“؛ فقد كان الجميل في الفنون البصريَّة مورَّطا في نوع من الدُّونيَّة على المستوى الأنطولوجي نظرًا لارتباط صورته بالخداع والمغالطة. إنَّه مجرَّد “ظلال حسِّية للمبدأ الأعلى” كما ورد في “الإنيادات”لفيلسوف مثاليٍّ آخر هو أفلُوطين، وليس من الحقيقة في شيء بحكم قيامه على مغالطات المدركات الحسيَّة وتحوُّلاتها التي لا يمكن أن ترتهن على أساسها أيُّ معرفة ثابتة.

وخير ما في الجميل داخل المقاربات القديمة أنَّه يدلُّ على شيء آخر غير ما ندرك منه حسيًّا؛ إذ لم يؤخذ الجمال في مختلف تعيُّناته، بل من جهة أنَّه قادح لاستفاقة الوعي المعرفي، وداعم للدَّهشة، ووسيط في مقاربة الكون؛ فقد فصلت الميتافيزيقا الأفلاطونيَّة ومختلف الميتافيزيقات المتجانسة معها بين الجوهر والعرض، والماثل والممثول، والحاوي والمحتوى، والثابت السَّماوي والمتحوِّل في عالم الأرض، والخالد والفاني. وكان حريًّا بالجميل أن يتخلَّى عن طابعة الزَّلوق، والنَّزِق، والمغالط، والمتحوِّل، وأن يرتبط بالحكمة ليكون لحظة ما في الجدل المعرفي وبلوغ الحقيقة ليس إلَّا. وما الفنُّ هاهنا سوى انعكاس للمثال الجمالي الثابت الذي نتذهَّنه بالعقل ونحدس به وليس ما ندركه بالحواس. هكذا ارتهن الجميل بالفكرة، والحقيقة، والحكمة كما في محاورة “المأدبة”. وهي القيم نفسها التي سيتمرَّد عليها نيتشة ليعيد الجميل والرَّائع إلى طابعه المتحوِّل أسوة بـ”ديونيزوس” في الأسطورة اليونانيَّة القديمة، الذي وقع الاعتماد عليه لتخليص الجميل من الحقيقة الأفلاطونيَّة ومن شحنته الأخلاقيَّة الكانطيَّة ليكون مبشِّرًا بعصر ما بعد الحداثة.

أنيس بن سالم: «ثلاثية 140X36 ،»LBDG سم، 2022 ، بإذن من الفنان.

وسيقع استرجاع علاقة الفنِّ بالفكرة مرَّة أخرى في القرن التاسع عشر -مع هيغل تحديدًا- في “فكرة الجميل”، ولكن داخل نسق فلسفي مثالي آخر، حيث “الفن تجسيد حسي للفكرة”، وكأن الشكل الفني قد بقي خاضعًا لأسبقية الفكر المعرفي على التجربة الجمالية حتى وإن اتسمت هذه الأخيرة بطابع “تاريخي” في المقاربة الهيغلية للفن من داخل تناوله لـ”فينومينولوجيا الفكر“. كما سيصبح هيغل أول من يصرح بـ”موت الفن” مقابل حياة الفكر، ومقابل الأستاطيقا بوصفها فكرًا. وهكذا، تتعدد مراحل الجميل تاريخيًا، ولكن الفرصة تتاح له مرة أخرى في مرحلة الحداثة ليتجلى معرفيًا ورمزيًا.

ولكن ما يهمني في المقام الأول حتى أحدد قيمة عمل فني معروض أمامي هل هو فكرة الفيلسوف، أم تصور الفنان، أم العلاقة الجمالية التي تشدني إليه؟ أهو ذلك الوعد بالسعادة الذي يمكن أن يبشرني به، أم الهالة التي رسمها المروجون والمؤسسات، أم هي مختلف الأحكام الجاهزة التي عُرف بها لدى عموم الناس عندما يقتصر مفهوم الفن بكل بساطة على ما يسميه الناس فنًّا على النحو الذي فصل فيه تياري دوديف في كتابه “باسم الفن، من أجل أركيولوجيا للحداثة“؟

يؤدي بنا هذا التساؤل إلى معاينة منزلة الجميل الفني اليوم، في ظل تحولات الأنساق وتغير معايير الحكم الجمالي على الآثار الإبداعية. إلى أي مدى تتغير منزلة الجميل بمقتضى تغيُّر المفاهيم المتصلة بالفنون وتغير ماهية الفن نفسها أو حتى تلاشيها؟ بل ما مدى مشروعية الاستمرار في مقاربة الجميل من داخل المسألة الماهوية أصلًا، وخصوصًا إذا تعلق الأمر برؤى ما بعد الحداثة، تلك التي تنهل شحناتها الفكرية الأولى من الفكر النيتشوي المتمرد على منظومات الحكم المعياري وقد فجر لعبة الأنساق وأعاد ترتيب علاقة الفكر بقيمه ومكتسباته خارج اليقينيات، داخل نزوع عدمي؟ أي حضور جمالي منشود في ظل تغير براديغمات النظر والنظرية؟

محمد الرقيق: «محجوزات »، تقنيات مختلفة، رباعية، 228X60 سم، 2021 ، بإذن من الفنان.

2- ضد الجميل وأنساقه التمثلية:

لقد أشكل على العقل النقدي اليوم تفحص وضع الجميل ما بين التجارب الإبداعية التي لم يعد الأمر ملائمًا لإخضاعها للتصنيفات الكلاسيكية وحتى الحديثة. وإزاء هذا الوضع، إما أن الجميل لم يَعد حاجة ذوقية للإنسانية في تعاملها مع المنجز الفني المعاصر تحديدًا ولم يعد رافدًا ملهمًا للاختيار والحكم والتقييم، وإما أن الشاغل الإنساني اليوم بعد فك ارتباطه بمنظومة القيم القديمة على الأقل منذ تشكلاتها في الفلسفة اليونانية أصبح يبحث له عن قيم جديدة، قيم أكثر التزامًا بمعالجة هذا الواقع المأزوم الذي دكته الارتكاسات السياسية، والمنعرجات الثقافية العولمية، والكوارث البيولوجية، والتغيرات المناخية التي تلقي بظلالها على شواغل الفكر الإيكولوجي… قيم لم تعد تحتكم إلى ظاهراتية الجميل بالضرورة، من جهة أنها تعكس حالة من القلق المتجذر وتكتفي بأن تنشد استرجاعًا محمومًا لحيوية الحياة، وإنسانية الإنسان، ومدِنية المدينة، وطبيعية الطبيعة خصوصًا زمن الإرهاب والرهاب الوبائي، وزمن القصور الحراري وتهديد التنوع البيولوجي، وزمن الفوضى السياسية وصلف القرارات المتعجرفة، وزمن سلعنة القيم، أو زمن التبضيع وماركتينغ “التضبيع”. وإزاء ما يطرحه فنانو الراهن في مجالات “فن الأرض”، و”فن المكان”، و”الفن البيولوجي”، و”الفن الإيكولوجي”، و”الفن الافتراضي”، و”فن النات” لم يعد الفن جميلًا بالضرورة بقدر ما أصبح صادمًا ومثيرًا، حتى وإن اقتضى الأمر تدمير معيارية الجميل، والتمرد على منطق الجميل المتعارف عليه، والتمادي في تقبيح صورة العالم من أجل التشهير بمواطن التأزم الذي يكتنف الوضع الإنساني. يكفي الفن اليوم أن يكون مدافعًا عن منطق الحياة في الكائن، ومذكرًا بعبقرية الطبيعة، ومرشدًا للإنسانية من أجل اعتبارٍ أكثر ملاءمة لمقومات الوجود الحر والسكن الفاعل على الأرض. وفعلًا، بدا الإنسان أول كائن مدمر لحرية الحياة وقيم الحرية وذلك بقدر توغله في مغامرة التحديث المستمر؛ فلقد تضخم فيه العقل التـقني والأدوي، وأفضى به الأمر إلى الاغتراب في دوامة الاستهلاك المستهتر، وتقلصت شروط وجوده الطبيعي. هكذا يتخلى الفن عن قيمة الجمال وهو ما يستتبع ما كان هيغل قد طرحه في ما يخص “التدمير الذاتي self-destruction” الذي ما انفك الإنسان يمارسه بشغف داخل خوضه تجربة الحداثة، والأنكى أنه ينسحب على ما بعد الحداثة بوجه خاص.

لقد عملت الحداثة على تنسيب الشعور بالجمال بعيدًا عن دوغمائية الأنساق المعيارية المغلقة القديمة والقروسطية حيث كان الجمال محددًا بقواعد ثابتة ومفروضًا من قِبل الفكر الإطلاقي، وليس مفترضًا من قبل الذات الإحساسية ومن داخل الثقافة الإبداعية المتذوتة فلسفيًا منذ بومغارتن، وفنيًا منذ ظهور النزعة الانطباعية مع كلود موناي.

حلمي الجريبي: «لقاء فوتوغرافيا 2018 ،» ، بإذن من الفنان.

فقد رمم الفن الحديث صورة الذات وجعل منها مصدر التشريع المعياري لقيم الجميل، في حين تتجه اليوم تجارب ما بعد الحداثة إلى صهر ذاتية الفعل الفني داخل أتون المعترك الواقعي الحي واجتماعية المعرفة الفنية؛ إذ يتيح الفن تجسيد مقولات المشاركة الجماعية في الفضاء اليومي المعيش أو الافتراضي التفاعلي، وتتنازل الذات المبدعة عن عرشها الذهبي المتفرد بعيدًا عن مركزية المبدع في تصور العمل، وإنجازه، وعرضه وبعيدًا عن التدبير التقني والجمالي المعقد؛ إذ لم يعد الحدث الإنساني والاجتماعي اللافت -مثل صرخة طفل فلسطيني تحت الأنقاض- في حاجة إلى تجميل حتى يَعبر إلى مجال الفن كما في أعمال رؤوف الكراي، أو مثل معاناة رجل عراقي قد أعياه التيه والترحال بحثًا عن مفهوم ملائم للوطن في الأداء القياسي الذي قدمه سمير مجيد البياتي، وقد حوله المولدي عزديني إلى خطاب في دلالات الوجود المترحل والمغترب على الأرض، وهو مطالبة للحرية زمن الحصار، وذلك بالاعتماد على مرجعيات فلسفية للقراءة والتحليل مثل نيتشة، وهيغل، وهيدغير فضحًا لما أسماه بـتسفيه الحقيقة؛ “فعندما يشعر المرء بتناهيه مادةً، وروحًا، وأرضًا، وكيانًا، أو مدينة ووطنًا فله من جهة التشريع الفلسفي أن يلوذ بآخر أقاليمه من الإبداع الفني بحثًا عما عساه أن يكون المعنى الحق لتدبير المدينة”. (3) وفي كثير من النماذج يكفي أن نحول شكل الظاهرة الواقعية الحية إلى المتحف أو إلى فضاء العرض أو عرضه في الساحة العمومية بمقتضى ما توفره مقومات العرض ومقاصده (artefact) حتى يتحول إلى موضوع للنظر، والتأويل، والمراكمة النقدية النصية، ويظل مستمرًا في شكل ما نسميه المسار النصي (the becoming text) وهي لحظة متقدمة في إنشائية العمل الفني.

لم نعد نتحدث عن تمثل ذاتي للشيء (representation)، بل عن مُثـول للشيء كما هو (presentation) أمامنا، وقد أصبح موضوعًا للعرض والتأويل، وهو عين ما يدور حوله كتاب لويك فال “الجمالية الخضراء“؛ إذ يتراجع مفهوم الفنان الصانع ويتقلص حضوره الذاتي “لصالح علاقة جمالية مباشرة بين الذات والموضوع الطبيعي”. (4) فقد مكَّن الفنانون أشياءَ من محيطنا اليومي والحي من المُثول،وقد يقع إجراء تدخلات عليها؛

حلمي الجريبي: «جرادة ولمسة حاسوب 2022 ،» ، بإذن من الفنان.

فهذا يقدم مغسلة (مارسيل دوشمب)، وذاك صخورًا متجاورة في شكل خط لولبي (روبرت سميثسون)، أو عمارة مغلفة (كريستو). ونشاهد في السنوات الأخيرة تجارب مختلفة هنا وهناك في مجال الفن البيولوجي مثل التي قدمها أدواردو كاك، بعد إجراء معالجات جينية على أرنب، أو مثل شجرة زيتون من نوع “بونزاي” ذات ثمار متعددة الألوان وقد جرى حقنها بمواد طبيعية ملونة، في الأعمال المخبرية الفنية التي قدمها أمين الغرياني في مختبرات جامعات تولوز وصفاقس ثم قابس، (5) تحت عنوان “بيوليفارBiolivart”. كما نشاهد في المغرب تجارب بتقنيات مختلفة لكل من كنزة بن جلون وريم اللعبي، أو في الإمارات العربية المتحدة مع حسن شريف من خلال تنصيباته؛ إذ يجمع مواد وأغراض استعمالية من الحياة اليومية، أو مع كريمة الشوملي وخالد البنا اللذين أخرجا العلامة البصرية من إطار اللوحة لتستقل بذاتها في فضاء العرض، ومن ليبيا نشاهد مسيرة عدنان معيتيق الذي حرر شخوصه من الفضاء التصويري لجعلها علامات مثيرة للأسئلة زمن تناقضات الحرب، أو مع السوري طلال مُعلا الذي نزع عن شخوصه كل ملامحها الجمالية وجعلها علامات إشكالية زاعقة تستفز الناظر إليها وتستدرجه لأزماتها الوجودية الكامنة في لا توازناتها التشريحية. ومن تونس نشاهد تجارب كل من فاتن شوبة السخيري، ونور هدى المهيري، ووديع المهيري، ومنى الجمل سيالة في مجال إعادة بناء الفضاء المعيش وشحنه بالدلالات النقدية من خلال جملة من التنصيبات الفنية، أو مثل تجربة التلصيق لدى محمد الرقيق الذي تعامل مع موضوع الإرساليات الممنوعة والطرود البريدية المحظورة، أو أنيس بن سالم الذي استثمر عنصر المرآة وتركيب الصور في مواضيع تفاعلية تتصل بالأمكنة العمرانية الحية، وهو الذي استفاد من تخصصه في فنون السمعي البصري، أو برهان بن عريبية وغادة بوزغندة في فن الموقع (In- situ) باتجاه إعادة السؤال حول إنشائية المدينة وتدارك صورة الإنسان زمن العولمة والارتكاسات التاريخية، أو حلمي الجريبي الذي تعامل مع التقنيات الفوتوغرافية في مجال تكبير العوالم المصغرة (الماكروكوزم) وتوظيف الحشرات في إنتاج جملة من الهمسات والغمزات الساخرة، أو وسام العابد، من خلال عرضه “مسافرون” في توظيف دلالي لموضوع الهجرة السرية عبر البحار، وقد نثر شخوصه المترحلة والتائهة بين زائري العرض بواسطة الإضاءة السوداء التي تحولت إلى اللون الأزرق عندما غمرت الأرضية؛ إذ وقع تداخل رمزي مقصود بين الشخوص المُبحرة وبقاياها بين الجمهور الزائر. هل من شأن هذه “الأغراض” و”الكائنات”، أو “الكيانات”، أو “المناخات”، أو “الحالات” المعروضة أن تحيد عن مفهوم العمل الفني؟ لدى أحد فلاسفة ما بعد الحداثة وهو الفرنسي فرانسوا ليوتار، فإن الفن الما بعد حداثي يتنكر لمفهوم العمل الفني الذي رسخته التقاليد في تاريخ الفن وفي الفكر الجمالي بل “يصف ليوتار العمل الفني ما بعد الحداثي على أنه ذلك الذي يقدم ما لا يمكن مثوله (the unpresentable)؛(6)ولذلك فهو يتضمن فكرة المثول السلبي أو حتى مثول شيء “غائب” والقبول بفكرة الإشارة أو التلميح إليه (hint)”. (7) “إن العمل ما بعد الحداثي يبدو دائمًا ثائرًا على التقاليد الفنية الموجودة بالفعل ويسعى لخرقها والخروج عنها؛ ولذلك فهو يوصف بالقبح. إنه دائم السعي إلى خرق قواعد الجميل المقبولة لدى الجمهور وفي كثير من الحالات يبدو متسمًا بالقبح. لكن هذا القبح يلعب دورًا أكثر أهمية في جماليات ما بعد الحداثة التي هي في الواقع “جماليات مضادة” (Anti-aesthetics)، فهذه الجماليات تعتمد في تقديمها للجليل على تمزيق العمل الفني وإنكار الوحدة والتناسق”. (8)

أمين الغرياني: « بيوليفار »، صور مجهرية مستخرجة، 2018 ، بإذن من الفنان.

لم يعد الاستنساخ فضيحة منذ التشجيع عليه من قبل الطليعيين في بداية القرن العشرين، وكذلك منذ ما طرحه والتر بنيمين عضو جماعة مدرسة فرانكفورت الألمانية في كتابه الموسوم بـ”العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه الآلي” (كُتب سنة 1935). بل “في الفن المعاصر ذي النزعة الاستهلاكية اتخذ المستنسخ مكانته بدلًا من الواقع، وحل ما فوق الواقع محل الواقع ذاته، وأصبح الإنسان في عصر ما بعد الحداثة يحيا ما عاشه سابقًا وجرى استنساخه بلا أي إضافات وإن ظهر وكأنه آلة مفككة “، وهو ما يتوازى مع ظواهر الفن الافتراضي والهجانة في الفن؛ إذ يتفنن الفنانون، والمهندسون، والبيولوجيون في ابتكار مجالات أخرى لتعويض واقعية الواقع قريبًا من الاختزال والتهجين، بعيدًا عن الروابط الفينومينولوجية الحية التي دعت إليها بصورة أو بأخرى الجماليات الخضراء في مقاربة العالم الحي. حتى أن المفهوم قد ابتلع الموضوع المادي والحسي، وأصبح الفن يلوذ إلى الاستيطان في التصور المنطقي الذي تقدمه اللغة، ولم يعد في حاجة إلى الصورة الحسية كما في الفن المفاهيمي (Concept-art). تُحيلنا مواقف كوسيث على أن “الفلسفة التي تعاملت مع الجمال beauty والذوق taste كان لا بد أن تناقش الفن أيضًا، ومن هنا نما تصور خاطئ بأن هناك ارتباطًا مفاهيميًا بين الفن وعلم الجمال، وذلك ليس حقيقيًا… وهكذا وضع كوسيث الفن المفاهيمي ضد أفكار علم الجمال المتعارف عليها وأراد بذلك أن يحرر الفن من الأساليب المرتبطة به عبر التاريخ”. (10)

3- ترحال المفهوم من الشكل البصري إلى الفكر اللغوي والرهان المعرفي (من الصورة إلى التصور):

عضو هيئة التحرير موقف كوسيث رائد الفن المفاهيمي مؤكدًا ضرورة التعاطي مع العمل الفني من حيث ماهيته البصرية مشددًا على ما أسماه الاستقلالية البصرية كمبدأ أنطولوجي يشترطه وجود العمل الفني في حد ذاته، وذلك مهما سعى المنظرون إلى المُضي في التحديد المستمر لماهية الفن على نحو متجدد. يأتي موقف أتكنسو في سياق المقاربات التي أريدَ بها تصحيح مسار الفن المفاهيمي ومراجعة مكتسباته في ذلك الوقت بالتركيز على “الدور البصري وتدارك الخاصية التجريدية (الذهنية) للفكر المفاهيمي” (الفقرة 14 من الافتتاحية). إلا أن المؤلف يختتم افتتاحيته بالعودة إلى فكرة انفتاح الفن وإمكانية استثماره داخل الاستخدامات اللسانية كمنطلق لتجاربه وأبحاثه على شاكلة ما طرحه الفلاسفة التحليليون الأنغلوسكسونيون الذين تربعوا على عرش نظرية الفن المعاصر بأمريكا وهم في الأصل مَناطقة مدينون لأبحاث الألماني فيتغنشتاين المنطقية وانفتاحه على المنطوق الجمالي، مثل أرثر دانتو، وقد وطنوا العمل الفني المعاصر داخل القضايا المنطقية اللغوية. إن مفهوم “الكرسي” لدى كوسيث، وتعريفه اللغوي، أهم من الكرسي الموجود في المتحف ومن صورته المعلقة فوقه، وبالتوازي فإن عنوان عمل الأمريكي كيريلوف “جراب غسيل الملابس”(Laundry bag) أهم من مادة العمل نفسه وهي فعلًا متمثلة في جراب غسيل الملابس، وإن تسمية إندي وارول عمله الشهير “عُلب مصبرات الحساء” (Brillo boxes) في المتحف منذ 1964 أهم كثيرًا من الحساء ومصبراته المعروضة للناس في المَتاجر… (11)

نحن إزاء ما بعد حداثة ريبية ونقدية؛ إذ يقول دوميتري كيكان في “إنسان ما بعد الإنسان“: “قد يسمح لنا الأمر بالحديث عن وجود نوع من ما بعد الحداثة الإيجابية التي تميل إلى قبول النظرية أكثر منها إلى رفضها القاطع، ثم الحديث عن ما بعد حداثة شكوكية ارتيابية لا ترفض النظرية والمفاهيم بل تطالب بإخضاعها للتحليل النقدي المعمق قبل الإقرار بصحتها أو عدم صحتها”. (12)

أما مع ظهور التكنولوجيات الجديدة التي أحدثت ثورة على مستوى الصورة والتصور في مقاربة العالم وتأويله فلم نعد ننظر إلى الواقع إلا من جهة الافتراض الرقمي! ووفقًا لرأي جون بودريار فقد حل الواقع الافتراضي محل الواقع الواقعي، وتداخلت الحدود ما بين الحقيقة والخيال، والحقيقة والكذب، والأصيل والزائف… (13) فقد أعلنت موجات ما بعد الحداثة عن “موت الفن” وها هي تعلن عن “موت الواقع” بشغف، وقد أصبحنا نتداول كيان العالم بوصفه تصورًا فرضيًا أو صورة افتراضية اغتربت فيها إنسانية الإنسان عن طبيعية الطبيعة وحيوية الحياة، فيما ظهرت نزعات مضادة تعود بالوعي الفني إلى “جسدية” العالم المعيش -كما هي بعيدًا عن التمثلات المصطنعة- لتستعيد مستندات المسألة الفينومينولوجية الحية من خلال الفن؛ إذ “هل يمكن للحواسيب اليوم أن تهندس كياننا الطبيعي الخام وتلبي أكثر حاجاتنا الحميمة إلى حيوية الطبيعة في نبضها الأبدي وديمومتها الخلاقة؟”. (14)

لقد عملت الحداثة على تنسيب الشعور بالجمال بعيدًا عن دوغمائية الأنساق المعيارية المغلقة القديمة والقروسطية؛ إذ كان الجمال محددًا بقواعد ثابتة ومفروضًا من قِبل الفكر الإطلاقي وليس مفترضًا من قبل الذات الإحساسية ومن داخل الثقافة الإبداعية المتذوتة فلسفيًا منذ بومغارتن وفنيًا منذ ظهور النزعة الانطباعية مع كلود موناي. لقد رمم الفن الحديث صورة الذات وجعل منها مصدر التشريع المعياري لقيم الجميل. وعلى العكس من ذلك، تتجه اليوم تجارب ما بعد الحداثة إلى صهر ذاتية الفعل الفني داخل أتون المعترك الواقعي الحي واجتماعية المعرفة الفنية؛ إذ يتيح الفن تجسيد مقولات المشاركة الجماعية في الفضاء اليومي المعيش أو الافتراضي التفاعلي، وحيث تتنازل الذات المبدعة عن عرشها الذهبي المتفرد بعيدًا عن مركزية المبدع في تصور العمل وإنجازه وعرضه، وبعيدًا عن التدبير التقني والجمالي المعقد؛ إذ لم يعد الحدث الإنساني والاجتماعي اللافت مثل صرخة طفل فلسطيني تحت الأنقاض في حاجة إلى تجميل حتى يَعبر إلى مجال الفن. (15) وفي سياق آخر، لا شيء في حاجة إلى تغيير أو إلى إخراج جديد حتى تتحول الطبيعة إلى فن حسب روبرت سميثسون رائد فن الأرض (Land-art)، بل على الفن اليوم أن يستلهم إبداعيته من مسارات الكائن الطبيعي وعبقرية الحياة في المنظومات الحيوية، لا أن يكون مجرد تصنيع للطبيعة وتجميد لسير التحول، على نحو ما ظهر في أبحاث كل من أدموند كوشو وغزافياي لامبارت.(16)

وعلى خلاف تعريف الفن بما هو “توليد للجمال من قِبل كائن واع”، (17) على نحو ما ألفناه لدى أندراي لالاند (َA. Lalande) في معجمه للمصطلحات التقنية والنقدية (1926) لم يعد للجميل تعلق تمهوي وأنطولوجي مع ماهية الفن نفسها؛ فقد خرج الشكل الفني من إطاره ليكون عنصرًا منشطًا للفضاء اليومي والتواصلي المفتوح.

أنيس بن سالم: « ليلة ولادتي 120X80 ،» سم، 2020 ، بإذن من الفنان.

وبعدُ، لقد أصبح العمل الفني قوة احتجاجية وتحسيسية، وسخرية وتعرية، وفضحًا للتناقضات، ومشاركة في الشأن العمومي والفضاء العمومي، وتشويهًا وإثارة ولفتًا للانتباه. وعلى هذا النحو يتقلص حضور الجميل أو ينحسر بحسب التغيير الحاصل في غايات العمل الفني، على ضوء الالتزام بقضايا الراهن الإنساني وتسجيل أهداف في مجريات الحدث التاريخي داخل بنية الوعي العام. فلم يكتفِ الفن بأن يكون مجرد إحساس فردي في زاوية نائية من ورشة الفنان التي تطل على البحر وتغازل همسات أمواجه، أو على الجبل فتستقبل أريج أشجاره وعبير أزهاره، أو على مشهد فريد من نهر السان بباريس فتختلط ألوانه بزرقة الماء وأساليب المعمار المجاور كما لدى فناني الانطباعية بل أصبح حدثًا معيشًا وتجربة في التاريخ الحي تنبض في أعماق الوعي الاجتماعي، والسياسي، والبيئي. وبعيدًا عن التجميل، أصبح الفن متـلبسًا لقبح الواقع، ملتبسًا به، حاملًا مواقف مثيرة ولافتة، ومتحملًا أعباء حرب مستمرة ضد سكونية الوعي البدائي والسطحي بالأشياء والأحداث. ومن ثَمَّ ترى الفنان يتفانى في هتك أفق الانتظار المألوف ومختلف المعايير الجمالية المتفق عليها. لا يوجد -في الفن المعاصر- ما هو جدير بأن نتفق عليه. وذلك بالتوازي مع القاعدة الوجودية “افعل ما شئت ما دام جديدًا” أو ما دام صادمًا أيضًا. وهكذا يفقد الجميل منزلته القديمة والحديثة، ويكتفي بأن يكون درسًا تدريبيًا في أكاديميات الفنون والنوادي الفنية. وأما المواضيع الجميلة في “عالم الفن” المعاصر فقد أصبحت أعباء ثقيلة تثير السخرية وتنم عن سذاجة في الطرح، ومن ذلك مواضيع “المزهرية”، و”الطبيعة الساكنة”، و”غروب الشمس”… تلك التي عادة ما ينفرد بها المبتدئون في الممارسة الفنية وقد أصبحت من مشمولات محترفي الصورة الفوتوغرافية.

على أن مؤسساتنا الجامعية المعنية لا تزال تحمل تسمية “المعاهد العليا للفنون الجميلة” رغم أن عديد الدول الرائدة في المجال قد اقتصرت في تسمياتها على “المعاهد العليا الفنون”، فيما بقيت الفنون الجميلة متعلقة بالأكاديميات التي لا تنتمي إلى مؤسسات التعليم العالي والتي تقدم برامج تكوين في أساسيات الفن الكلاسيكي والحديث وخاصة ما يتعلق بمهارات الرسم الخطي والمعارف المتصلة مثل علم التشريح وعلم المنظور. أما المؤسسات الثقافية بترسانتها التشريعية التي تعتمدها الدولة في ربوعنا فلا تزال تستند إلى مفاهيم للفن أصبحت بالية وخارج تاريخية الفن الراهن على مستوى العمل الثقافي والبرامج التربوية، أما البرامج الإعلامية فحدِّث ولا حرج؛ إذ ما زالت تسود الخطابات الصحفية مفاهيمُ تقليدية للفن والفنان خارج قيم الإبداعية والتجديد، بل خارج تاريخ الفن أصلًا. وإلى هذا الحد تكون الحاجة ماسة إلى ثورة اصطلاحية تشمل العدة المفاهيمية المتعلقة بالفنون وتسهم في رد الاعتبار إلى الطبائع الخصوصية للمنجز الفني.

***

هكذا أدى بنا الأمر إلى تدبر التحولات المفاهيمية والقيمية التي رافقت تاريخ الفن والفكر الجمالي ومقاربات الحداثة وما بعدها؛ إذ عرفت ماهية الفن نفسها اهتزازات إشكالية. وهو ما حثنا على رصد نماذج من الفكر النقدي والتطرق إلى المسألة التأويلية في فهم العالم.

وخلاصة القول: إن للفن تاريخًا مطردًا يمقت الجمود وينقلب على نفسه باستمرار، تاريخًا تُنتج فيه الممارسات الفنية والنقدية تطورات صاعقة على مستوى المفاهيم والاصطلاحات تعكس مدى التغير الحاصل على مستوى ماهية الفن نفسها، وكأنه أصبح من باب العبث البحث عن ماهية للفن قابلة للحصر، وهو ما يبيح القول بأن الفن اليوم ينشط دون ماهية أصلًا. لم يعد توليد الجميل ماهية للفن، وإن كان وجوده ثاويًا في عديد من التجارب الفنية. كما أن “من قيمة الأعمال الفنية الحقيقية اليوم أنها تقاوم قدرة الجمهور على استهلاكها” كما قال فاروق يوسف.

وقد طالعتنا تجارب الحداثة وما بعدها بأن التحديث حركة شاملة وأن الفن لا يمكن أن يكون على هامشها؛ فالممارسات الفنية الحقيقية تأبى أن تكون على هامش الفكر التاريخي،

إنها نفسها في قلب المعترك الحيوي النابض وهي موقف فكري، تأويلي، متجاوز، مولد للقيم الجديدة على الدوام. وهي قيم مختلفة بحسب اختلاف متجه النظر إلى العالم؛ إما رده إلى إنشاءات ذهنية وأحيانًا بمعونة التقنية، وإما رده إلى راهن الحياة على الأرض ورهانات الوجود؛ إذ تبدو العودة إلى الجميل في شكل متجدد متاحة ولا تزال ممكنة، ولكن في إطار تفرضه حيوية الحياة نفسها ونبضها الخلاق؛ إذ على الفن اليوم -في الحضارة العولمية- أن يتدارك زيغ الإنسانية عن منطق الحياة وناموس الوجود في عالم ممكن، وأن يقاوم خطابات الموت والنهايات المتجددة (نهاية الفن، نهاية التاريخ، الإنسان…). وفعلًا، لا يزال للفن مهام ورهانات. وأيضًا، كما جاء في عرض أم الزين بن شيخة لموقف أنطونيو نغري: على الفن “أن يحصن الوجود من السقوط في الفراغ”. (18)

محمد الرّقيق: أوامر »، تقنيات مختلفة، 62X80 سم، 2017 ، بإذن من الفنان.

ليس الفن رسمًا لأشكال الحياة، إنه بعث للحياة في الأشكال بعد أن سطحتها الذاكرة، وحنطها الاستهلاك، وجمدتها الحضارة. والنظر مستمر…

1. Kant (Emanuel) : Critique de la Faculté de Juger. Trad. Alexandre J.-L. Delmarre ] et al.[Ed. Gallimard, Folio-Essais, Paris, 1993, p. 149.

2. Saint Girns (Baldine) : Encyclopædia Universalis, article : Beau/Laid, arts, Paris, 2012, p. 222.

3. عزديني )المولدي(: تساوق الأنطولوجي والسّياسي في الأثر الفنّي، كيان الفنّان وسؤال الأوطان. تقديم: خليل قويعة، دار خطوط وظ ل للنشر والتّوزيع، عمّان، الأردن، 2021 ، ص. 186 .

4. Fel (Loic) : L’Esthétique Verte, de la Représentation à la Présentation de la Nature. Edt. Champ Vallon, Paris, 2009, p. 232.

5. Elgherieni (Amine) : Bio-art and the Environnement, Complexity within Interconnectedness, preface by Xavier Lambert. Cambridge, 2021.

6. Lyotard (Jean-François) : Lessons on the Analytic of the Sublime. Edt. Stanford Univ. Press, 1994, p. 68.

7. البغدادي (خالد محمَّد): اتجاهات النَّقد في فنون ما بعد الحداثة. نشر الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب. القاهرة، 2008، ص 79.

8. المصدر نفسه، ص 72.

9. المصدر نفسه، ص 76.

10. أمهز (محمود): الفنُّ التشكيلي المعاصر، دار المثلَّث للطباعة والنّشر، بيروت، 1981، ص 298، أورده خالد محمَّد البغدادي، اتجاهات النَّقد في فنون ما بعد الحداثة، مصدر سابق، ص 268-269.

11. Voir Danto (Arthur) : La Transfiguration du Banal, Une Philosophie de l’Art. Trad. Claude Hary- Schaeffer, préface de : Jean-Marie Schaeffer. Edt. Seuil, Paris, 1989, pp. 213-218.

12. كيكان (دوميتري): إنسان ما بعد الإنسان، تقديم ومراجعة: عمر عبد العزيز، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2008، ص 73.

13. العايدي (سلوى): “التَّشاركيَّة في الفنون البصريَّة: آفاقها وحدودها، قراءة في بعض التَّجارب المعاصرة”، ضمن تشاركيَّة الإنشاء عبر التِّكنولوجيَّات الجديدة، أشغال ندوة علميَّة وطنيَّة محكّمة، إصدارات المندوبيَّة الجهويَّة للشؤون الثقافيّة بصفاقس، 2021، ص 60.

14. قويعة (خليل): “الاستثمار التَّشكيلي للصُّورة الافتراضيَّة وتكنولوجيا الخداع”، تشاركيَّة الإنشاء عبر التِّكنولوجيَّات الجديدة، مصدر سابق، ص 53.

15. Smithson (Robert) : « Rien ne doit changer pour que la nature se transpose en art », voir : The Collected Writing. Edt. University of California Press, 1996.

16. Couchot (Edmend) & Lambert (Xavier) : Les Processus de Réception et de Création des Œuvres d’Art, Approche à la première et à la Troisième Personne. Edt. L’Harmattant (Ouverture philosophique), Paris, 2016, p. 10.

17. Lalande (André) : Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie. Edt. Presse Universitaire de France (PUF), 16ème édition, 1988, article Art, sens A et B, pp. 79-78.

18. بن شيخة المسكيني (أمُّ الزين): الفنُّ يخرج عن طوره أو جماليَّة الرَّائع من كانط إلى دريدا، مصدر سابق، ص 289.

الكتاب

باحث، فنان وأستاذ في علوم وتقنيات الفنون بجامعة صفاقس،حاصل على دكتوراه في الفن وعلوم وتقنيات الفنون/ اختصاص الفنّ المعاصر.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.