معرض “إذا صحّ التعبير”
للإماراتية شما العامري

الأعمال تحيل المشاهد على الفور للسقوط في سؤال الحقيقة والوجود. كون كلمة (صح) تمثّل جوهر ما سعى الفلاسفة الى العثور عليه

في العمل الذي يحمل اسم (مسودة قسم الفنانين) تمارس الفنانة هدماً متعمداً لفكرة استمرارية الزمن

3
4
عادل خزام وشما العامري والأستاذة فاطمة غانم
1
2
من أجواء الافتتاح

اللغة لا تكون محايدة دائماً.. وكلمة (صح) قد تقرأ (لا خطأ)، وكلمة (الرجل) تعني (ليس امرأة) وهكذا

في عمل بندولي الساعة المتحركين في اتجاهين متضادين وكلاهما يحملان كلمة (صح). ربما يظن المشاهد أن لا وجود لغيرهما، لكن الفراغ الذي يتولد في هذه الحركة عند افتراق الكلمتين، مخيف فعلاً.

قلب المفاهيم من أجل تصحيحها

جاء المعرض الشخصي للفنانة الإماراتية شمّا العامري “إذا صحّ التعبير” حاملاً الكثير من الدلالات الفنية الجديدة التي تُطرح ريما للمرة الأولى على الصعيد الفني البصري، وهي دلالات يتداخل فيها المعنى بالشكل، واللون مع الكلمة، واللغة مع الصمت، والكتلة مع الفراغ. حيث أشار مركز تشكيل في دبي الذي استضاف هذا المعرض في شهر سبتمبر 2022، بأن الأعمال المقدمة هي تتويجٌ لمشاركة هذه الفنانة في برنامج الممارسة النقدية الذي ينظمه مركز تشكيل، وذلك بوصفها المشارِكة الرابعة عشرة في البرنامج.
يتيح برنامج الممارسة النقدية، أحد المبادرات التي يقوم عليها مركز تشكيل، المجال أمام الفنانين المعاصرين المقيمين في دولة الإمارات، الدعم في استوديوهات المركز والنقد الفني وإنتاج أعمالهم الفنية، لمدة عام واحد. ويُتوّج البرنامج عادة بمعرض فنيّ أو بمنشورات أو أية إصدارات مادية أو رقمية. ويُصمّم لكل فنان البرنامج الذي يناسبه بعناية تامة ليناسب مهاراته الفنية ومجالات بحثه.
ما يميّز هذه الفنانة ويجعلها مثيرة للأسئلة، هو دمجها لعدة أساليب واستخدامها لأدوات كثيرة في تعبيراتها البصرية، ومن بينها اللغة. وبينما تحضر الكلمات العربية والدلالات اللغوية وأيضاً استخدامات الحروف كثيراً في أعمال الخط وفي بعض اللوحات بشكل فني يعتمد على جماليات الخط والحرف، نجد أن شما العامري تلجأ الى استخدام الكلمات لإنتاج مفاهيم بصرية جديدة، وسبق لها في معارض سابقة أن استخدمت كلمات لها دلالات عميقة للتعبير عن رؤيتها من مثل كلمة (مخرج) التي قدمتها بأشكال مختلفة في معرض سابق وكذلك كلمة (تفكير) في تعمّد واضح الى اللجوء الى دلالات اللغة العربية التي تحمل الكثير من الاشتقاقات الأخرى وتضع المشاهد أمام أسئلة جديدة دائماً.

فخ النقيضين

في هذا المعرض النوعي، اختارت شما أن تركّز بحثها على جذر كلمة عربية واحدة تدلّ على الصواب هي (صح)، وبذلك فإنها تحيل المشاهد على الفور للسقوط في سؤال الحقيقة والوجود. كون هذه الكلمة تمثّل جوهر ما سعى الفلاسفة الى العثور عليه، كوننا نعيش ونفكّر ونبحث عن الفرق بين الصح والخطأ. وثقافة البشر على مدى تاريخهم، تتمحور بين هذين السؤالين المحيّرين، ما هو الصح وما هو الخطأ؟ ونتيجة لغموض المعنى وتشابك الدلالات والاختلافات، يعيش الإنسان حيرته الأبدية وتناقضاته فقط بسبب هذين المفهومين.
ترى المدارس التفكيكية أن اللغة لا تكون محايدة دائماً. فنحن حين نكتب أو نرسم كلمة (صح) فإننا نستدعي بالمقابل نقيضها حتى لو لم يكن مكتوباً. بمعنى أن كلمة (صح) قد تقرأ (لا خطأ)، وكلمة (الرجل) تعني (ليس امرأة) وهكذا في اشتقاق لا نهائي للكلمات والدلالات التي نعرّف بها المعاني. ولا أحب أن أطيل كثيراً في شرح هذا المنحى اللغوي، بقدر ما أرغب أن أقبض على الخيط الجوهري والإنساني الذي يتجلى في أعمال الفنانة شما العامري حين ترمي أمامنا كلمة بهذا الحجم، بما تحمله هذه الكلمة من إحالات الى معانٍ أخرى كثيرة في فضاء مشحون باللايقين، وبالهدم المتعمد للدلالات والأفكار، حيث الزمن المتغير هو الثابت الوحيد في معرضها الشخصي. وأقصد بالزمن تلك اللحظة التي نتغير فيها كلما التفتنا الى زاوية أخرى، تماماً كما يتغير ضوء الشمس بين الزوايا بين لحظة وأخرى.

سطوة المقدّس

تذهب شما أيضا الى ممارسة شغفها في تجريبات على نفس المفهوم ونفس كلمة (صح). في البداية كان اتجاهها ينزع الى اكتشاف علاقة هذه الكلمة بذاتها ونفسيتها الداخلية وماذا تعني لها بالضبط كلمة صح. ربما تكون شما قد سمعت هذه الكلمة مليون مرة في بيئتها الاجتماعية المحافظة، وهي كفتاة، عليها أن تتبع الـ (صح) في كل أفعالها وحركتها وكلامها ولبسها وأفكارها. إنها كلمة مقدسة وينبغي للجميع أن يخضعوا لها، وأي انحراف عن هذه الـ (صح) قد يكلف شما حياتها. لكن في ممارستها الفنية، لم تستطع هذه الفنانة أن تضبط إيقاع هذا الشرط المعنوي والاجتماعي. ذهبت لتكتب بخط يدها كلمة (صح) ألف مرة، وكل هذه الكلمات جاءت خاطئة وغير مثالية ولا تشبه كلمة أختها. ثم ذهبت الى الصحف والكتب والأعمال المنشورة، فلم تجد ما يشفي نهمها، لا تتكرر كلمة (صح) في موسوعات التراث التاريخي والديني، ولكنها تدخل جزءاً من سياقات كلمات تقترب من المعنى نفسه. هناك (صحافة ومشتقاتها – صحراء – صحيح- … الخ) لكن نادراً ما يتم استخدام كلمة (صح) لوحدها حتى في الشعر، وهي كلمة تشكّل نصف وجودنا، وهي معادل الخير والشر، والصح والخطأ. وربما يمتد مدلول هذه الكلمة الى الجسد الإنساني كله، فكلمة (صحّة) تنتمي الى الجذر نفسه وأي اختلال في الصح أو الصحّة يعني المرض والموت.

الإخلال بالقسم

في العمل الذي يحمل اسم (مسودة قسم الفنان) تمارس شما العامري هدماً متعمداً لفكرة استمرارية الزمن. تقوم بجمع المدونات والأفكار والكلمات لإعلان نوع من (المانفستو) أو القسم الواجب على الفنان الالتزام به. لكن حين تتضح لها الصورة الكبيرة، لا ترى أن هذه الممارسة (صحيحة) فتقرر في النهاية أن تجمّد كل هذه الكتابات حول الشروط والواجبات والقيم التي ينبغي على الفنان أن يلتزم بها، بعد أن اتضح لها أن الفنان ليس طبيباً أو محامياً كي يضع نفسه في مرتبة مقيدة بشروطٍ ما مهما كان نوعها، والفن ليس وظيفة في الأساس وإنما انفلات جارح خارج سياقات الالتزام من أي نوعٍ كان، والفنان إنما هو منشد لشيء وهمي اسمه الحرية، وهذا بالضبط ما تقوم به شما في هذا المعرض، إنها تتحدث عن الحرية كحلم، تكتب وتدوّن وتقترح أفكارها حول ما يمكن أن يلتزم به الفنان، لكنها في النهاية تخفي كل ذلك وكأنها مجرد أفكار غير قابلة للتحقق. وحين ننظر للقطعة المعروضة، لا نرى شيئاً واضحاً وإنما مجرد معاني مجمّدة لا هي صح ولا هي خطأ.

شما العامري، من خلال هذا المعرض الشخصي، تقدم رؤيتها الخاصة للوجود، للمعاني التي تتحكم بنا، لفكرة الصواب والخطأ. إنها باختصار تقدم مفهوماً جديداً للنظر في مدى تداخل المتناقضات وخطورة أن يخدعنا الشكل على حساب المعنى.

هوّة الفراغ المخيفة

تتلاعب شما بكلمة (صح) الخطيرة في مدلولاتها اللغوية، ونقيضها ليس بالطبع الخطأ وحده، وإنما العيب والرفض والممنوع وغير المسموح به، ونقيضها أيضاً كلمة (لا) وقس على ذلك معانٍ أخرى كثيرة. فلنأخذ مثالاً عمل بندولي الساعة المتحركين في اتجاهين متضادين وكلاهما يحملان كلمة (صح). هذا التلاقح الابدي بين الكلمة وأختها، يولّد في الذهنية مفهموماً ثالثاً. عندما نجمع الصح والصح، كلمتان تنفصلان وتعودان لتتحدان في حركة لا نهائية، ربما يظن المشاهد أن لا وجود لغيرهما، لكن الفراغ الذي يتولد في هذه الحركة عند افتراق الكلمتين، مخيف فعلاً، إنه أكبر من مفهوم الصح أو إيحاء (صح صح) عندما تلتقي الكلمتان معاً، لكن حين تفترقان يبدو الفراغ هنا كأنه هوّة تبتلع كل شيء. ومرة أخرى تحاول شما هنا أن ترسم ملمحاً ما لفلسفة الزمن في هذا العمل، لكن بالنسبة لي هي فلسفة الكتلة والفراغ، كتلة الدلالة المتولدة من الكلمة، والفراغ اللا نهائي الذي يحيط بهما. هناك إذن نسق اجتماعي ينبغي الانتباه إليه. ولو تأملنا عميقاً في المعاني التي يعبّر عنها المعرض، لاكتشفنا أننا أمام ممارسة تفضح الواقع المستتر وراء هذه القيم، وتنبش في عمق نظرة الناس الى ما يرونه صواباً، وهو في الحقيقة قيد على انسانيتهم وحرياتهم.

قلب المفاهيم

لماذا اختارت شما أن تتوجه الى المؤسسات العقابية وطلبت من نزلاء هذه المؤسسات أن ينتجوا لها كلمة (صح) بطريقة إبداعية. وهؤلاء بالتحديد، كونهم نزلاء مؤسسات عقابية، متهمون بارتكاب (الخطأ)؟ ولماذا ذهبت الى عمّال البناء الذين يقومون بوضع الأساسات بطريقة صحيحة، وطلبت منهم أن يكتبوا بالحديد كلمة (صح) وكانت النتيجة أن جاءت الكلمة غير متناسقة حروفياً وهي أقرب للخطأ. وحين يعبر المشاهد في أروقة المعرض، تأخذه هذه الانتقالات الى التعرف على كلمة (صح) مكتوب بمثالية عالية، وأحياناً معوجّة ومشوّهة، وأحيانا أخرى غير مثالية. إنها تريد أن تفكك القناعات الراسخة لدى المشاهد بأن البشر أسرى التناقض بين الكلمة وعكسها، ولكن هناك، في التفاصيل، مساحة شاسعة جداً من التداخل والتمازج بين كل نقيضين، فقد يتحول الصواب الى خطأ في أي لحظة، والعكس. وقد تنوي فعل الخير وتكون النتائج عكس ذلك.

«تفصيل»، بين الأحمر والأخضر، طباعة على ورق أرشيفي 60×40 سم (لكل منهما)، إصدار من 5 نسخ (لكل منهما)، 2022.

خدعة الشكل

لسنوات طويلة، ظل الفن التشكيلي على الدوام أسير الشكل على حساب المعنى، لكن المدارس الفنية الحديثة اتجهت الى تبجيل المفاهيم والأفكار، حيث لا تكفي المهارة الفنية وحدها من دون وجود وعي عميق ينطلق منه الفنان المعاصر. هكذا نجد أن شما العامري، من خلال هذا المعرض الشخصي، تقدم رؤيتها الخاصة للوجود، للمعاني التي تتحكم بنا، لفكرة الصواب والخطأ. إنها باختصار تقدم مفهوماً جديداً للنظر في مدى تداخل المتناقضات وخطورة أن يخدعنا الشكل على حساب المعنى.
أشرف على المعرض فنانة الطباعة والكاتبة ومصممة الغرافيك هدى سميتسهاوزن أبي فارس، والفنان الإماراتي محمد كاظم. وتوزعت القطع الفنية المعروضة على مجموعة متنوعة من الوسائط تتراوح بين المعدن والخشب والحبر على الورق، والطباعة بالأشعة فوق البنفسجية على الزجاج البلاستيكي.

حتى لو لم تُفصح به علناً، نجد أن البعد السياسي يتداخل مع البعد الاجتماعي الثقافي في هذا المعرض. نلمس الجرأة الواضحة في تعاملها مع الفن من منظور ثقافي محلي وعربي وإسلامي. نراها لا تستجدي الذائقة الغربية التي قد لا تفهم دلالة كلمة (صح) وأبعادها النفسية. وهو فعل مارسته من قبل في مجموعة من الأعمال والمعارض التي استخدمت فيها كلمات ودلالات عربية تؤكد رغبتها في صياغة مفهوم خاص بممارساتها الفنية ينطلق من عمق ثقافتها وتكوينها المعرفي. وهذا شيء لا نجده عند كثيرين تستهويهم موضة الفن، فيتبعونها عمياناً، ويأسرهم الشكل على حساب المعنى. إنها تقترب من المسكوت عنه، وتحاول بحذر أن تخوض في بحر الأسئلة الشائكة اجتماعيا وفلسفيا بدلا من الركون فقط الى إبداع الجماليات اللونية والتكوينات البصرية التي تخلق المتعة للعين فقط. لا، هناك متعة للعقل تتسرب من هذا المعرض، وهناك مفاهيم تتولد في ذهنية المشاهد باستمرار.

«ثقب»، زجاج بلاستيكي وقصاصات من جرائد، 10x11x9 ،مس 2022.

وتم الافتتاح في أجواء رائعة في مركز تشكيل الذي أسسته لطيفة بنت مكتوم في العام 2008 وهو يوفر بيئةً حاضنة لتطوّر الفن المعاصر والممارسة التصميمية ويفسح المجال أمام الممارسة الإبداعية والتجريبية والحوار بين الممارسين والمجتمع على نطاقٍ واسع. إذ يوفر الاستوديوهات متعددة التخصصات، ومساحات العمل والمعارض في ند الشبا وحي الفهيدي. يعتمد مركز “تشكيل” نموذج العضوية المفتوحة ويهدف برنامجه السنوي الذي يشمل التدريب، وبرامج الإقامة، وورش العمل، والمناقشات، والمعارض، والتعاونات الدولية والمنشورات إلى دعم عملية تطوير الممارسين الفنيين، وإشراك المجتمع والتعلم مدى الحياة كما يدعم الصناعات الإبداعية والثقافية.

المراجع

1. شما العامري «تسارع»، حامل المغناطيس والفولاز 180x15x60 سم ، إصدار من 3 خسن، 2022
2. «تعليمات مثنية»، (أبوبكر وعبدالرحمن)، قضيب معدني مثني بأيدي عاملي بناء، أبعاد متغيرة، 2022

3. شما العامري: «قسم الفنانين»، طباعة بالأشعة فوق البنفسجية على زجاج بلاستسكس (بليكس غلاس)، 12×29.7×21 مس، 2022.
4. شما العامري : «تعليمات مقيدة 2»، (نماذج أولية)، صورة رقمية لنموذج أولي من المؤسسة العقابية والإصلاحية، دبي، 56×22 مس، 2022

الكتاب

شاعرٌ وأديبٌ من جيل الثمانينيات في الإمارات، صدر له العديد من الكتب عن الفن والشعر والمسرح والرواية.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.