الفنان جمال السويدي
مراتب الانتقالات من التصوير إلى المفهوم

ككل بداية في تنكبات الحياة وانبجاساتها التراجيدية كانت ذكريات الطفولة محركًا داخليًا وقَّادًا لما صار إليه الفنان جمال حبروش السويدي؛ فقد كان جده الأكبر من منطقة البطين بأبوظبي يعمل صقَّارًا، وتلك مهنة كانت لها استتباعاتها المعرفية والذوقية والحيوية؛ فقد كان الصقَّار مشَّاءً من طراز رفيع؛ فالطبيعة اللا متناهية في امتداداتها شكَّلت الجُملة البصرية والمعنوية لنمط حياته المجبولة على التنقلات والصُّدف الوجودية الفلسفية، والدهشة المقرونة بالضنى والفرح معًا، وكانت تلك سمات حاسمة في حياة جده، ومنها انتقلت إلى والده الذي كان بدوره جوَّابًا رحالًا ومتنقلًا يتابع نبض أيامه مع التجارة ومقتضياتها الجبرية في التنقُّل والتعامل مع صنوف الألوان والروائح والهيئات، غير أن مسيرة الوالد انقطعت بموته المفاجئ قبل ولادة ابنه جمال بأُسبوعين.
بعد مرور سنين من تلك الوفاة التراجيدية يتعرَّف الصبي على الواقعة، فقد أُصيب والده بمرض عضال، ووقع فريسة وحش بكتيري لا يرحم، حتى أنه أدرك وصف جنازة والده الدراماتيكية والتي حرص القائمون عليها على إبعادها عن الناس تحسُّبًا لهجمة الوحش البكتيري المقيم داخل جسد الراحل، وحماية للحضور من تبعاته القاتلة إذا ما اقتربوا من الجنازة!!
ظلت تلك الصورة الذهنية قابعة في ثنايا الذاكرة المتجددة للصبي الذي كانه “جمال السويدي”، وبنفس القدر كانت صحراء الجد الصقَّار، وبحار الوالد التجارية، وحكايات الوالدة حاضرة بسخاء فاض بالديدن اليومي للفنان الصغير الذي سيتابع مسيرة جده ووالده من خلال علاقته بالطبيعة؛ فقد عشق البحار ونواميسها، وتجوَّل في صحاري الشتاء العامرة بالألوان والمدهشات، واستنطق التلال، والسهول، والجبال مثل الجوَّابين المتصوْفين بالترحال، وعشق الطلول والمستحاثات الأرضية كأي باحث أركيولوجي منخطف بعشق الُّلقى والآثار.

ذلك العشق المنخطف بمستحاثات الطبيعة وظواهرها المرئية كان وما زال الرافعة الخلاقة لخيال الفنان المفاهيمي الذي ينبري اليوم بسلسلة من المقترحات التركيبية البصرية. كانت الطبيعة الملهم الأول له، وكان يقرأ في ثنايا الانعطافات الرملية الصحراوية بيانًا قادمًا لما يسعفه في البحث عن تخريجات فنية بصرية، وكان سديم المكان وضبابية الرؤية الشتوية محرضًا له على استقراء ما وراء الآكام والهضاب من معانٍ متدفقة.

خليط الذاكرة السماعية الموروثة من حكايات الأُم، وامتداداتها الباذخة في الطبيعة، وانتعاشاتها الإدراكية العابرة للمألوف، وأسئلتها الانطولوجية القلقة؛ شكَّلت جميعها سياقًا جبريًا لمسيرة الفتى الرشيق في تنقلاته الدلالية والواقعية، وكان للعادة أن تنساب مع مصائرها من خلال المدرسة الأُولى، والانبثاقة التعبيرية الفنية التي لفتت انتباه المدرسين، ومشاركته التالية بلوحة في معرض لعموم الموهوبين في الدولة، ونيله الجائزة الثالثة في المعرض. جرى ذلك ولم يزل الفتى جمال حبروش السويدي في سن صغيرة.
كانت تلك الانعطافة الجنينية الفنية إشارةً التقطها الفنان لاحقًا، وبنى عليها من خلال الإدراك المعرفي والجمالي لقواعد التصوير المائي والزيتي، وكذا التصوير الفوتوغرافي، وفن الخط العربي. وقد انعكست تلك التعددية المهارية المعرفية في أعماله الفنية المعاصرة الأكثر نضجًا، حيث التمازج بين التجسيم والتجريد كما هو بين الحروفية والفراغ… اللون وما يشي به من إيحاءات مستمدة من الوسط المحيط.

تتلخَّص معادلة التملُّك المعرفي المفاهيمي عند الفنان جمال حبروش السويدي في المتوالية الإسكولائية التالية:

الضوء والظل بوصفهما طاقة التعبير الفني التي يترسَّم خُطاها عن طريق التصوير بالضوء، وهنا سنلاحظ أن الفنان لا يتعاطى مع هذه الحقيقة الفيزيائية ضمن ثوابتها البصرية، بل أيضًا ضمن تحولاتها المنفتحة على المؤثرات ما فوق الطبيعية؛ ففي عديد أعماله الجديدة استخدامٌ مُمْعنٌ للمؤثرات الضوئية الخارجة من منابع تقنية تتماهى مع أنوار الطبيعة، فيما تؤصل للفكرة والدلالة دونما تخلٍ عن جماليات الموضوع واشتراطات التوازن البصري.

البُعد الثالث المنظوري بوصفه ميزان الرؤية النابعة من توازن الطبيعة ومعارج أفلاكها البصرية البانورامية، وفي هذا البُعد على وجه التحديد يمكن ملامسة المسافة المتصلة المنفصلة بين التجسيمي والتجريدي، فلا تجسيم خارج التجريد، ولا تجريد مُفارق بالمطلق للتجسيم، وشاهدنا الفولكلوري على ذلك يتمثَّل في اللوحة ذات البُعدين “طول وعرض” ، فالبُعد الثالث المنظوري في اللوحة إيهام بالعمق، وليس عمقًا فيزيائيًا حقيقيًا، وتبعًا لذلك نلمس معنى التجريد في التجسيم، الحال فيما يتعلق بكل تجسيم يمكنه أن يكون المنطلق الأساسي للتجريد
كتب المفكر الكبير “روجيه جارودي” ذات يوم بعيد من ستينيات القرن المنصرم كتابه الهام بعنوان “واقعية بلا ضفاف” ليدلل على ما نذهب إليه في هذه المقاربة العابرة.

التشريح بوصفه الميزان الناظم للأشكال البشرية والحيوانية المنبجسة من النِّسب النبيلة الضابطة للتوازن والأداء.

التكوين بوصفه الناظم لعلاقات العناصر الفنية المتمازجة.

الفراغ بوصفه المقابل المنطقي للاحتشاد ضمن تكامل نسقي لا فكاك منه.

تلك المفردات الأكاديمية كانت حاضرة دومًا في أساس وتضاعيف رؤيته الفنية التي مادت تباعًا نحو الفنون التركيبية المفاهيمية كما سنوضح ذلك لاحقًا.

باطلاعي على تجربة الفنان الإماراتي جمال حبروش السويدي منذ سنين خلت، ومنذ تعرفي عليه لاحظت سمة أساسية في علاقته بالفن، ويمكنني تلخيص هذه السمة بعد كثير من التمعُّن والمتابعة في مستويين:

يتمثل المستوى الأول في علاقته العضوية بالبيئة المحلية، والتي يستمد منها مفاتيح رؤيته وتدويراته الفنية.

يتمثل المستوى الثاني في مضمون أعماله ذات الطابع الرسالي الإنساني الشامل، وهو ما يتجسَّد عمليًا في موضوعاته الملتبسة بالهموم، والخواطر، والوجدانات الإنسانية الشاملة كالسعادة والحزن، وكالتعب والاسترخاء، والظاهر ومرموزاته الغائبة عن البصر.. الكامنة في عين البصيرة… إلخ.

ولأننا هنا بصدد تلخيص مستويي الإبانة البصرية الدلالية في أعماله، من المناسب التوقف عند هاذين المستويين بمزيد من التفصيل الذي سيشكل في عمومه إبحارًا في نصوصه البصرية، وعليه يمكن القول:

جملة بصرية واحدة

فيما يتعلق بالعناصر المستمدة من البيئة المحلية سنرى أن الحرف العربي شكَّل رافعة استثنائية في سلسلة من اشتغالاته الفنية التي ينطبق عليها صفة الجُملة البصرية الواحدة، وإن تنوعت في ظهوراتها، ولعل المثال الأبرز في هذا الباب يتمثل في حرفي الحاء والباء، وهما حرفان يندمجان في كلمة “الحب” ليقدما مفهومًا تجريديًا غنائيًا يستعصي على التعريفات الإجرائية، ويمهد السبيل لتعبيرية فنية فوق واقعية، بالمعنى الوجداني للكلمة، فالحب لا يُعرَّف إلا بالحب، والمعنى الكامن في دواخله يتَّسع لأعيان المُمكنات ماديًا وروحيًا، وفضاؤه يتنامى في تماهياته المدارية حتى يصل إلى شغاف القلب.
عبَّر الفنان جمال السويدي عن هذا المعنى عبر تواشج الحرفين، وتكامل المستويين، من خلال تبيان الخاصية الديناميكية في الحرف العربي عبر اختيار نموذجي الخطين الديواني والطغراء، المنفلتين من أسر القوالب الهندسية المعيارية، كما أمْعن في توظيف الفراغ بوصفه دالة نظر وجمال لمُجسَّم “الحب”، ومن هنا سارت تجربة التعاضد الفني الموسيقي بين الحرف المرن، والتجسيم التجريدي، والفراغات الموحية، وهو ما فتح الباب واسعًا لتنويعات في اللون والإنارة، ومهد الطريق لما أسميته بالجملة البصرية الواحدة ذات الوجوه المتعددة.
تباعًا ستتوالى هذه التجربة ضمن تدويرات جمالية بصرية ودلالية، وستشرع الأبواب لمقترحات فنية أُخرى تتصل وتنفصل عن تجربة التجسيمات الحروفية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تجربة الشراع المنصوب على سفينة الأسلاف المبحرة صوب هدفها السامي، وهي تجربة تستوحي مقدماتها الأُولى من بيئة الخليج التي شهدت تاريخيًا علاقات تناغم وتواشج مع البحر بوصفه مصدر الغذاء، وكوامن الثروة، ووسيلة الانتقال بالبضائع من موانئ آسيا وأفريقيا وإليها.

هذه المرة يكتسب الشراع طابعًا جديدًا ويندغم في المعطى الاقتصادي الشامل؛ ذلك أن ثقافة البحار في مياه الخليج وجغرافيتها الطبيعية لا تقف عند تخوم الماضي، بل تتمدد أُفقيًا في عالم التجارة العصرية المشمول بالموانئ الكبيرة والمناطق الاقتصادية الحرة، والنقل بأنواعه البحرية والبرية والجوية، واقتصاد المعرفة الذي يقدم مفردات مستقبلية جامحة.

من هنا نستطيع الإمساك بالبُعد الرمزي في أعماله الفنية، وهو الأمر الذي يمنح تلك الأعمال قابليات للتحولات والانزياحات المفاهيمية ذات الصلة بالخصوصية بقدر صلتها العضوية بما هو كوني وإنساني. ومن مقترحاته الجديدة أيضًا موضوع “البرميل” الذي يُعيدنا مباشرة إلى برميل النفط الذي يحمل في داخله ما سُمِّي بالذهب الأسود… لكن برميل “جمال حبروش” مطلي بلون الذهب، ومنتظم في مستوى الظاهر كما تنتظم حبات اللؤلؤ، بل بانتظام مفاتيح آلة البيانو الموسيقية؛ ولهذا السبب ينزاح العمل الفني للبرميل ليكون موازيًا لمصفوفة البيانو المنغومة، حتى أن الفنان يعتبر برميل النفط بمنزلة “مفتاح صول” الناظم لموسيقى النغم تمامًا كبرميل النفط الناظم للاقتصاد الدولي.
في سبعينيات القرن العشرين المنصرم وبالترافق مع حرب أكتوبر والعبور المظفر للقوات المصرية في سيناء، وعندما كان التضامن العربي في ذروة مجده أدرك سدنة الاتفاقية المالية العتيدة لمؤسسة “بريتن وودس” المالية الدولية أن البترول سلاح فتَّاك بيد العرب، يومها تحرك من وُصف بثعلب السياسة الخارجية الأمريكية “هنري كيسنجر” نحو المنطقة العربية ملوحًا بمشروعه المالي الدولي الجديد، ومراهنًا على أن اعتبار البترول ذهبًا أسود لا بد أن يتصل بمركزية الدولار في سوق سلة العملات الصعبة.

جمال السويدي، «رحلة المراسي»، برونز على قاعدة من الجرانيت، 13x10x40 مس، 2017
جمال السويدي، «بصمة زايد»، ستانلس ومطلي ذهب 24 طاريق، 11x25x21 مس، 2018
جمال السويدي، «الإنتظار»، ستانلس ومطلي ذهب 24 طاريق

بدا المشروع في ظاهره مُفرحًا للعرب؛ فالنفط سيصبح من الآن فصاعدًا ذهبًا أسود، لكن جوهر المعادلة عنَى ويعني أن النفط يستمد منزلته الذهبية من كونه مقرونًا بالعملة الأمريكية الخضراء، وهكذا يستعيد الدولار معياريته الذهبية التي فقدها، بل سيتحول إلى تميمة المركز المقدس لسعر النفط، وسيقتحم مصطلح جديد عالم المال والأعمال وهو مصطلح “البترودولار”؛ بمعنى أن الذهب الأسود معياره الأكبر البترودولار، ومن التسمية تتضح تبعية النفط للدولار.
تلك التبعية ستشمل نظام التبادل التجاري الدولي، وكامل المنظومة المالية العالمية التي عليها أن تتفهم مركزية الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي؛ لكونها أكبر قوة اقتصادية في العالم.
هذه الإحالات الاسترجاعية وأمثالها تنكشف من خلال مقترح برميل النفط الذهبي عند الفنان، والذي سيتحول في معالجة فنية تالية إلى أصابع البيانو الذي يتم العزف عليه محليًا، وعربيًا، ودوليًا.

روافد محلية تحلق في الفضاء الإنساني

هذه المتوالية من الإحالات الدلالية سمة عامة في أعمال الفنان غير أنها سمة تتنوع بتنوع الموضوعات، مع ميل واضح إلى المسائل ذات الطابع الكُلِّي كما هو الحال بالنسبة لموضوعات الحب، والشقاء، والسعادة، والألم، والمتعة، وما إلى ذلك من تنويعات فنية تذهب بنا بعيدًا في الموضوعات ذات الطابع الكُلِّي، التي تشكِّل بجملتها رسائل ومساهمات نابعة من الرافد المحلي لتجد مشروعيتها الفنية والجمالية في المشروع الدولي للفن الإنساني.
وإذا ما عَنَّ لنا إجمال خصائص أعماله بصورة أكثر تفصيلًا يمكننا أن نقف على التالي:

جمال السويدي، «مضخة»، زجاج
جمال السويدي، «حلة حب»، زجاج ،2017

الحرف العربي

يتجول الحرف العربي في أروقة الفنان بوصفه دوزانًا هندسيًا من جهة، وبوصفه أيضًا خوارزمية رياضية تتجاوز الدوزان الهندسي الجبري إلى التنغيم التجريدي، فالمعروف حصرًا أن علاقة حروف العربية بعضها ببعض تستقيم على نسب هندسية نبيلة لا مفر من الأخذ بها، وسنجد بيان هذه المعيارية الهندسية في المتون الشارحة لماهية الخط العربي، بل أزعم أيضًا ماهية كل الخطوط في العالم، والتي تكمن جوهرًا في كونها صادرة عن المعطى الصوتي الذي يتحول إلى هيئة، حتى أن الحرف يتحدث بصمته، ويتموسق بسكونه، ويتدوْزن بتطيُّراته. من هذه الزاوية بالذات نلاحظ درجة إمعان الفنان في التعبير عن بعدي التجسيم والتجريد في مؤالفاته الخطِّية التشكيلية، وكيف أن هذه المؤالفات تتَّسع لتحولات شكلانية ولونية، فيما تبقى مُتجوهرة في أساس الجملة البصرية الأُولى.

البيئة المحلية

يتموْضع الفنان “جمال حبروش السويدي” في بيئته المحلية واثقًا من كونها النبع الصافي لرؤيته وخياراته الفنية، ولكن مع حضور أُفقي في المعطيات الفنية الإنسانية بشكليها الأكاديمي التاريخي والحداثي المتحرك، ونستطيع ملامسة هذه الحقيقة الثنائية عند الفنان من خلال مصفوفة أعماله النابتة من استرجاعات ضمنية لفن النحت التاريخي مع انزياحات عصرية صوب الجديد والأجدد؛ إذ يمكننا توصيف بعض أعماله ضمن سياق الفنون التركيبية البنائية المفاهيمية، والتي استخدم فيها المؤثرات “الصوت بصرية”، ومثالها قافلة الجمال المتحركة في الصحراء، وقد حرص على تقديمها ضمن معالجة بانورامية مشعة بإضاءة الصحراء والبعد الثالث الواقعي مع ترميزات اختزالية للعناصر. وعلى نفس المنوال كانت مشاركته في بينالي الشارقة الدولي للفنون من خلال فراغ الغرفة المضاءة باللون الأخضر، مع قابليات النظر المتوثب والتنقل من طور لآخر، حتى أن الغموض الشفيف بدا لي سمة مهمة في تلك المعالجة المفاهيمية الباذخة إلى حد الغموض.

كاتب

الدكتور عمر عبد العزيز، باحث ومفكر من اليمن، يشغل حالياً منصب مدير الدراسات والنشر في دائرة الثقافة بالشارقة. هو أيضاً رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي العربي ورئيس تحرير مجلة الرافد. لديه العديد من المؤلفات، بالإضافة إلى إسهاماته الثقافية والأعمال الفنية.
حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، وقد قام بكتابة أكثر من ٤٠ منشوراً في مجالات الفكر والنقد والرواية وعلم الجمال. هو أيضاً فنان تشكيلي، في جعبته عدة معارض فردية، بالإضافة إلى مشاركته في العديد من المعارض والتظاهرات الفنية على الصعيدين العربي والدولي.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.