بابلو ليمان : “أرشيف الكاتب”، بإذن من إدارة الملتقى.

ارتقاء بالفن
المعارض الدولية في ملتقى الشارقة للخط

يواصل ملتقى الشارقة للخط مسيرته الكبيرة الشاهدة باحتضانه للدورة العاشرة (ارتقاء)، وهي الدورة التي جاءت حافلة بالمعارض الفردية والجماعية لفنانين ينتمون لثقافات وجغرافيات متنوعة تمثل في مجملها أرجاء العالم شرقاً وغرباً، ممن ألهمهم الخط النابض والمتجدد دوماً وكذا ما جاوره من فنون عديدة مرتبطة به الكثير من المفاهيم والرؤى والحلول البصرية شديدة الثراء والإدهاش ما أنتج سياقات بصرية عدة راوحت وجودها بين الأصالة والمعاصرة، حيث تتنوع الممارسات التقنية وفق أفكار وفلسفات كل فنان من الفنانين المنتخبين للعرض في هذا الحدث الأبرز بالمنطقة ضمن مجال تخصصه، والذي يعد بمثابة وجهة كبرى لكل المشتغلين بالحرف وفنونه في العالم على اتساعه.
ونظراً لأن الملتقى يقدم في كل دورة من دوراته عشرات المعارض المحلية والدولية المتميزة، التي تحتل مساحات عرض كبيرة في إمارة الشارقة ومدنها بالمنطقتين الشرقية والوسطى، من بينها ساحة الخط ومتحف الشارقة للخط وبيت الحكمة وجمعية الإمارات للفنون التشكيلية وبيوت الخطاطين وبيت الخزف وجمعية الإمارات لفن الخط العربي والزخرفة والجامعة القاسمية وكلية الفنون والتصميم بجامعة الشارقة وغيرها من المواقع، فإنه من الأجدى بنا في هذا المجال أن نقرأ بعض أبرز ما يقدمه العالم من طروحات شديدة الخصوصية يستضيفها الملتقى تحت مسمى (المعارض الدولية)، باعتبارها المعارض المختارة للتعبير الدال والأكبر عن مفهوم الدورة الجديدة للملتقى (ارتقاء)، وكذلك لما لها من فرادة حقيقية بادية تعكس قدرة كل فنان ورؤاه وتمنح في الوقت ذاته الكثير من الفرص لمتابعة مآلات حركة الفنون المعاصرة المستلهمة لأشكال وطاقات الحرف والزخرف والتوشية وما يتبعها جميعاً من أفرع فنية متماسة ومتقاطعة معها في العالم.
لقد حضر الصوت والضوء إلى جانب الحركة في عدد من العروض الدولية بالملتقى، كما حضرت الأعمال المركبة في سياقات شتى، وكذلك الحال بالنسبة للأعمال والمنحوتات الخطية المعدنية التي نجحت في خلخلة إطار اللوحة التقليدية خالقة لنفسها بذلك الحيز المناسب والأبعاد غير المعتادة، كما حضرت الأوراق والمنسوجات والأخشاب والخامات الصناعية كالأكريليك والبلاستيك، وجاءت الأعمال في عمومها متنوعة في طرائق وأنماط العرض، بحسب كنه وطبيعة كل منها.
وفي عمله “أرشيف الكاتب” The Scribeʼs Archive نجح الفنان الأرجنتيني بابلو ليمان (Pablo Lehmann) في السيطرة على فضاء وحيز العرض بداية من الأرض ومروراً بالجدران وحتى بلوغه السقف الأعلى للمكان، مع الهيمنة على الحيز الداخلي لموقع العرض أو غرفة الكاتب كما يسميها هو نفسه، والتي مضى في تأثيثها وشغلها بوحدات تخزين وأرفف تم تكسيتها بالأوراق شأنها شأن الجدران والسقف والأرضية، فقد احتلت الأوراق سائر المسطحات وانتثرت في أرجاء مكان العرض متراكمة على الأرض ومدلاة من السقف وخلال الصناديق والملفات الكارتونية ووحدات الأرفف، كما اكتست بها بعض المجسمات لحروف إنجليزية ومقاعد ولفائف، فيما تدلت وحدات ضوئية من الأعلى أمكن لها أن تمنح المكان نورانيته الكاشفة.
وهذا العمل القائم على حشد ورقي هائل، إنما في الأساس قد جاء ليتجاوب مع طاقات الكلمة ويرتقي بوجودها باعتبارها الأساس لكل النصوص الواردة في ثنايا الأوراق، والمانح الحقيقي للصور البصرية الكائنة، لقد خلقت النصوص صورة كل ورقة من الأوراق والتي مضى الفنان في تعليقها ونثرها وفق رؤيته ليؤكد على تنوع الوحدة البصرية، وقدرتها الحقيقية في إثراء المشهدية القائمة وإضفاء الدهشة على صورة العمل الأرشيفي البليغ، الذي يقر بأهمية وجود الأثر الإنساني المكتوب، والذي ينقل تاريخ الكلمة من جوف الكتب الصماء المغلقة لكي تتسيد حيز الرؤية المفتوح وتقيم وجودها البصري المستحوذ على العين الرائية والذهنية المتفكرة.
بكل تأكيد ستعثر أنت أيضاً في هذا الأرشيف البصري المدهش على ذاتك وكينونتك، حينما تجد في الكلمات والنصوص ضالتك ومبتغاك، فالكلمات ضمن هذا الحيز، وكذلك النصوص المنهمرة والمتسقة في نسيج الأوراق، وعبر تلك الأجساد المسطحة المشعة بنور الحرف إنما تقول لك بطريقة أو بأخرى أنك توجد في هذا الأرشيف الإنساني، الذي ربما يمنحنا صورة مستقبلية للعالم والحياة الحافلة بالموجودات فيما اكتسى كل شيء بالكلام وورق التدوين وإن لم يكن مرئياً لنا في الراهن المعيش فحتماً سنلتقي به نحن هناك في نهاية المطاف وعند الأبدية والخلود.

زينب صعب: “كن”، (قطعة من العمل الفني: بيت ابتهال)، 2022، بإذن من إدارة الملتقى.

ولعل هذا العمل الأرجنتيني الفصيح، الذي نحن بصدده يحمل من الطاقات البصرية والفلسفية والأفكار ما يحفز على إنتاج ردود فعل ورؤى مقابلة، فلا يمكن معه تصور كم الأرشيفات، التي ينبغي لكل منا أن يعثر عليها في جوفه،حين يقف أحدنا في زاوية ما -مغايرة أو محددة وفق رغبة أو إحساس مهيمن- من زوايا العرض الدال وبين مكوناته المحكمة.

أما أعمال الفنانة الأمريكية اللبنانية الأصل زينب صعب (Zeinab Saab) فهي تعتمد الورق أيضاً كمادة أساسية لإنشاء الصورة وإنجاز العمل البصري، وفي عملها “كُن” Be تحركت الفنانة بين بدايتين أو نهايتين، أو قل إن شئت بين بداية ونهاية، فقد أقامت الفنانة عملها على هيئة كتاب مادي المظهر يتحرك بين غلافين أمامي وخلفي، وهو كتاب يُقيم وجوده متنقلاً من الوضع الرأسي تقريباً حتى تتداعي الصفحات مستقرةً إلى الوضع الأفقي، ولك أن تتخير من أين يبدأ الكتاب وإلى أين ينتهي؟ فبداية هذا الكتاب قد تكون هي نهايته والعكس صحيح أيضاً، بحسب ما يمكن لك أن ترى وترغب وتريد. إن الفنانة هنا وعلى عكس عمل “أرشيف الكاتب” السابق ذكره، تمنحنا شكل الكتاب عبر فيض من أوراق محتشدة ولها في مجموعها ومجملها هيئة أقرب لمكون نحتي ورقي الطابع تتوالى خلاله الأوراق دون أن نعثر في حقيقة الأمر على فرصة حقيقية لتبين ما يوجد من نصوص عبر أي ورقة كانت من أوراق هذا الكتاب، وكأننا أمام كتاب يصلح لأن يكون هو كل كتاب، كما يصلح أن يكون هو كتاب أي منا وفق التصورات أو الرغبة التي قد تشدنا إليه أو تدفعنا نحوه.
وكأنها أرادت أن تعادل تشكيلياً بين النص المخبوء في جوف كتابها “كُن” والنصوص الصريحة الظاهرة عبر رقاع عمليها المخطوطين المعنونين بـ “شو استفدت؟” What Was Gained? ، و”إن شاء الله تعود بالسلامة” Hope You Make It والذي انتظمت خلالهما النصوص وتقاطعت في مسارات هندسية الطابع، فيما تحتفظ لنفسها مع منظومة التكرار المستلهمة من الزخرف الإسلامي بقدرة ما على التنوع وعدم الإنصياع بكليتها للتراتبية والإطناب وبخاصة ما يمكن لنا رؤيته وتتبعه بمخطوط “شو استفدت؟” الغني بالتنوع التشكيلي في مقابل حالة التماثل القائمة في المخطوط الثاني.

وهنا ومع اللفائف حول الذراعين الخشبيين لكل مخطوط تم بسطه أيضاً على امتداد أفقي بطول جدار القاعة حيث يوجد كل من المخطوطين في موقع عرضه، سيمكننا أن نرصد كذلك قدرة الفنانة على عدم فرض بداية أو نهاية لحركة النص أو مفتتحه وختامه، مثلما هو الحال في عملها “كن” لتظل البداية والنهاية في حالة تغير من مشاهد لآخر ومن متفاعل مع العمل لمتفاعل آخر دونه.
وفي هذا السياق الذي تقدمه زينب صعب متحركة من كتابها المستغلق أو المفتوح على التلقي إن جاز لنا التعبير إلى مخطوطيها الحاويين لجمل حية ذات دلالات تحفيزية ومآلات عامة أو ذاتية، إنما تحركنا في السبيل لكي يكون لكل منا كتابه ولكل منا مخطوطه وجملته التكرارية الواصلة بين بداية ونهاية تظل هي أيضاً بداية جديدة لنهاية متجددة.

ساسان ناصرينا: “التحول: إلتفاف”، بإذن من إدارة الملتقى.

فيما تؤلف الفنانة الكولومبية ميريام لوندونيو (Miriam Londono) مشروعها المفاهيمي “زمن الصمت” Times of Silence متدثرة أيضاً بالورق وبطاقة الكلمة معاً، وقد نجحت الفنانة في تضفير الكلمات المصنوعة من عجينة الورق ومن ثم تعليقها معاً في عملها التجهيزي المكون من مائتي جملة طويلة مكتوبة بخط اليد في كتاب معلق ومفترض دون صفحات يروي بأصوات النساء الكولمبيات عدة قصص لمكان في حالة حرب، وفي هذا العمل يغادر الورق هيئته المعتادة كسطح حامل للنص لتصبح عجائنه المشكلة هي ذاتها النص، كما أن النصوص جاءت معلقة من أعلى مساحة العرض ليمكن معها قراءة هذه الجمل المنهمرة من أعلى بحسب ما يبتغي المشاهد ويحب، دونما بداية أو نهاية حيث لكل جملة من الجمل قيمتها وموقعها الخاص بين مجموعة الجمل في نص يحمل التعدد البصري والصوتي ويبقى مشرعاً على كافة احتمالات التلقي والتجاوب أيضاً.
بينما تطرح البولندية ألكساندرا توبورويس (Aleksandra Toborowicz) عملها المرئي بتقنية الفيديو وعنوانه “المشكال” Kaleidoscopes أو أنبوب المرايا مستفيدة من تكرار الحروف الهجائية العربية واللاتينية لتشكل مع كل نقلة من نقلات الحركة حيزاً تشكيلياً حروفياً يتماس مع هيئات الزخرف اللامتناهية.
والعمل التقني هذا يقارب في طبيعته عوالم التصميم الجرافيكي القائم على طرح جملة من الحلول المتعلقة بقيم التكرار والتنوع والإيقاع والتنغيم بما يثري الرؤية ويضفي عليها العديد من الجماليات ويحقق الإدهاش بالقدر المأمول فيه.
ويقارب العمل المشترك بعنوان “الصحوة الداخلية” Inner Awakening للفنانين الأرجنتينيين فرانكو منديز مارشيز (Franco Mendez) وفرناندو راموس (Fernando Ramos) وجبران الغصني (Yubran Gosne) الطرح التقني المرئي للمشكال البولندي سالف الذكر، إلا أنه يبقى كمادة فيلمية مرئية تسعى لقنص الأصوات الغنائية الصادرة عن حشرة كويويوا El Coyuyo التي تتردد كأصداء للثقافات المتحاورة وتتشكل عبر نسيج الراندا La Randa التقليدي ليتحول الصوت إلى خط منصهر أو ذائب في نسيج يدعم حماية الهوية الإنسانية.

ميريام لوندونيو : “زمن الصمت”، بإذن من إدارة الملتقى.
ذينب السباع: “سطور”، بإذن من الفنانة.

فيما تؤسس أعمال الكندي الإيراني الأصل ساسان ناصرينا (Sasan Nasernia) وجودها النحتي المعدني الملون بألوان ناصعة لبلوغ معنى “التحول” Metamorphosis والتعبير عنه، حيث تغادر الكلمات حيز وجودها المفترض لتعبر خارج الإطار كما لو أنها بذلك تتحرك ذاتياً أو مدفوعة ربما بقوة داخلية، تنقلها من حالة الثبات إلى مآل رصدها في شكلها الجديد وعبر هيئتها غير الاعتيادية فهي تسيل من الإطار وتزحف نحو الجدار، وربما نراها وهي تصل إلى حدود أرض صالة العرض، وأحياناً نجدها تهطل من أعلى الإطار وقد تشابكت معاً لتؤلف في حيز الإطار نصوصها الحروفية المتداخلة بنسق تشكيلي أكثر انضباطاً
عن تلك التشظيات الأخرى في الخارج، وربما نشاهدها قد انصهرت وذابت هي والإطار معاً، أو حتى نراها وقد انتقلت في حركتها ما بين إطارين يقعان على جدارين متعامدين وقد صارت منطقة الجذب بين النصوص والكلمات داخل الإطارين كما لو كانت أشبه بالمطاط المشدود، ودون شك فإن مثل هذه الأعمال التي تجمع بين النسق المنضبط والخروج المقصود المتحرر عن ذلك النمط قد استفادت في إنتاجها من التكنولوجيا الرقمية وتقنيات الطلاء المعدني ومن ثم يمكن أن يتم بداية الوقوف على كنه التصميم رقمياً، ومن ثم الشروع في إنتاجه داخل الورش أو المصانع المتطورة عن طريق استخدام تقنيات الليزر وأفران الطلاء المعدنية الحديثة، وحين ذاك يبقى الخطأ في الإنتاج خارج الحسبان وأقل من أي احتمال كان، فالقطع جميعها تأتي في صورة لافتة محكمة الصنعة.
أما الفنان اللبناني حسين الأزعط (Hussein Alazaat) فقدم مجموعة من الأعمال عنونها بمدار الحرف (Letter Orbit) وقد اختار مادته البصرية من حروف خمسة تنتمي للأبجدية العربية وهي الألف، الباء، الجيم، الدال، والهاء لينسج بها جملة من المدارات الدالة والمشحوذة بالعاطفة والألفة والتوق إلى البيت والسكن والذوبان في فلك الدوران والدار، ومحبة الهاء ذات العينين الخاشعتين في زهدهما.
وفي عمله البحثي الجاد عبر الفنان الروسي بوكراس لامباس (Pokras Lampas )عن الأنماط والنصوص الخطية الحديثة العامة Genral Modern Calligraphy & Scripts وبحسب رؤية الفنان ذاته فقد استند إلى شعار الملتقى “ارتقاء” ليعبر عن تحول الثقافات المختلفة التي تدمج فن الخط ضمن سياقات تشكيلية لا نمطية تستلهم الحرف القديم وتطرحه في تطور تشكيلي معاصر قادر على عبور الأزمنة نحو المستقبل والمضي في ركاب الارتقاء.

بوكراس لامباس : “ارتقاء”، بحث في الأنماط والنصوص الخطية الحديثة العامة (تفصيل)، بإذن من إدارة الملتقى.
حسين الأزعط : “مدار الحرف”، بإذن من إدارة الملتقى.
كاتب

شاعر وروائي وباحث في الفنون البصرية، نال ماجستير تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 2008، كما نال بكالوريوس الفنون التعبيرية من قسم الديكور بكلية الفنون الجميلة بالمنيا عام 1996، وكان قد شغل منصب مدير تحرير مجلة (التشكيل)الصادرة عن جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، كما ترأس لجنة الندوات الفكرية الدولية لملتقى الشارقة للخط ومهرجان الفنون الإسلامية وجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي بإدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة حتى عام 2012،

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.