سما الشبيبي: من مجموعة "سلسلة"، تصوير برنارد جوارت، بإذن من مركز مرايا للفنون.

نظرة متعمقة في معرض سما الشيبي في مركز مرايا للفنون في الشارقة

تمكّنت الفنانة سما الشيبي ببراعة من تجسيد حياتها الخاصة بكل تعقيداتها وتضمين قصص المنطقة بأكملها، المليئة بالصراع والنزوح والهجرة القسرية، وربطها بالأزمة البيئية العالمية. وباستخدام الوسائط المتعددة، تجعل الشيبي جسدها موقعًا للأداء في أعمالها، مثل مجموعة “سلسلة” التي تتبعت فيها مسار المستكشف المغربي ابن بطوطة والتقطت صوراً فوتوغرافية ومقاطع فيديو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجزر المالديف وهاواي، لتقديم تعليق معقد على قضايا الحدود الجغرافية التي صنعها الإنسان والكوارث البيئية التي تؤثر في مجاري المياه. يحتفظ أداؤها بحضورها الكامل، ويوصل رسالتين: الأولى تتعلق بالماء كمصدر الحياة للجميع، والثانية تحمل رواية شخصية مؤلمة عن حياتها.

سما الشبيبي: من مجموعة “سلسلة”، تصوير برنارد جوارت، بإذن من مركز مرايا للفنون.

يخلق “سلسلة” الفرصة للتفكير في المنطقة ككل”، هذا ما صرحت به سما الشيبي.
وقد وُلِدَت الشيبي في البصرة، والدها عراقي وأمها فلسطينية، وأُجبِرَت عائلتها على الفرار من العراق في الثمانينيات. والآن تعيش وتعمل في الولايات المتحدة، وتتمحور أعمالها حول الهجرة، والقيود المفروضة على السفر، والشوق المزدوج إلى وطنيها الأصليين. تستخدم الشيبي ما تسميه “ممارسة تجسيدية” لترمز إلى القضايا، والأشخاص، والمفاهيم. وتوظف جسدها كاستعارة للتداعيات الجسدية المستمرة والمتأتية عن الحرب، والنفي، والسلطة، والسعي للبقاء، وذلك لخلق فرصة للتفكير في المنطقة ككل، حيث تنجرف المياه والرمال بلا حدود وتتحرك بطلة الرواية دونما عوائق جراء الانقسامات.
يجسد معرض “مناجاة النهر”، في مركز مرايا للفنون في الشارقة، دور الطبقات المتعددة، بما في ذلك البيولوجية والإيكولوجية والتاريخية والرمزية، في مسيرة الفنانة سما الشيبي، والذي يستمر حتى يونيو 2023. يضم المعرض أعمال فنية نفذت على مدى العقدين الماضيين. ويُظهِر للمرة الأولى انطلاقتَين، وهما: مقطع فيديو مدته 12 دقيقة يُسمى “إحياء”، الذي يشير إلى نهاية مشروع “سلسلة” بفصله الأخير، والعودة المنتظرة إلى العراق.
تشير سيما عزام، المشاركة في تقييم المعرض “مناجاة النهر” إلى جانب محمد رضا، إلى أن سما الشيبي في “سلسلة” كانت تسعى للحرية والتنقل بدون حدود، مثلما فعل ابن بطوطة في الماضي، حيث كان يسافر بلا حدود ويتحرك من مكان لآخر دون تحديد وجهته. كانت سما تجسد هذا المفهوم في جسدها المتحرك عبر الزمن، ولكن في النهاية، كل شيء كان رحلة في سعيها للوصول إلى العراق.
بالرغم من تجربة الشيبي الصعبة في الهجرة والمنفى، فقد حققت الشيبي مؤخرًا إنجازًا كبيرًا حين تمكنت من الحصول على الجنسية الأمريكية. وهذا الحدث لم يمثل فقط تغييرًا في وضعها القانوني، بل كان له أيضًا تأثيرًا كبيرًا على حياتها الشخصية والفنية، إذ منحها الفرصة لزيارة الأماكن التي لم تستطع زيارتها منذ فترة طويلة، بما في ذلك العراق الذي كانت تطمح للعودة إليه منذ فترة طويلة. يجسد المعرض “مناجاة النهر”، تجربة الشيبي الشخصية والفنية في البحث عن الانتماء والوجود في عالم متغير ومتقلب.

سما الشبيبي: من مجموعة “سلسلة”، تصوير برنارد جوارت، بإذن من مركز مرايا للفنون.

وبعد أن حصلت الشيبي على الجنسية الأمريكية، قامت بزيارة فلسطين أولاً، وبعد 40 عامًا من العيش في المنفى، زارت العراق في عام 2021، وهذا هو الرابط الأساسي الذي يربط بين المعرضين.

وأثناء فترة جائحة كوفيد – 19، قدّمت الشيبي اقتراحًا يتمحور حول العراق ومفهوم الفضاء العام في برنامج منحة غوغنهايم التي حصلت عليها في عام 2021، حيث اقترحت تسجيل تجربتها باستخدام جهاز ليدار، وهو وسيلة استشعار عن بعد تستخدم الضوء الليزري لقياس المسافات.
أثناء زيارتها للعراق والشارقة في إطار استعدادها لمعرض “مرايا”، شعرت الفنانة سما الشيبي بحاجة مفاجئة للعودة إلى الأهوار خارج البصرة، مكان ولادتها، لإنهاء مشروعها الفني “سلسلة” الذي استمر لثماني سنوات.
تقول عزام: “كان ذلك الجزء المفقود من اللغز الذي لم تدركه، كان مشروع “سلسلة” عبارة عن دورة مدتها ثماني سنوات وانتهت في عام 2017، ولكن عندما كانت سما معي في الإمارات العربية المتحدة وتناقش المعرض الحالي، كانت فكرة “إحياء” تأخذ في التبلور”.
وفي هذا السياق، صوّرت الشيبي مقطع فيديو نابض لمدة 48 ساعة في أهوار بلاد ما بين النهرَين في ديسمبر 2022 باستخدام تقنية التصوير العكسي، حيث ظهرت وهي تَعَبُر القنوات الضيقة عبر الأراضي الرطبة في زورق خشبي، وتتحدى الكاميرا وتظهر وجهها لأول مرة في هذا المشروع.
وقد وصفت الشيبي هذا المقطع بأنه “الفصل الأخير” من مشروعها، لأنه يجسد لها نهاية هذا الإنجاز الفني الطويل والخاص بها.
وقد صورت الجزء الأساسي من الفيديو باستخدام تقنية التصوير العكسي، وهي تجمع القصب من المستنقعات لاستصلاحها.
تقول عزام: “إنها تعيد إلى الأرض الحياة التي فقدتها، سواء في ذاكرتها الخاصة أو جراء التدمير المستمر بفعل الحرب التي لا تؤثر فقط على البشر، بل على الطبيعة أيضًا.”
وبالإضافة إلى روح الانتصار التي رافقتها، احتوى بيانها الفني على تحذير حاد بأن هذه الأرض والمستنقعات الموجودة في السهول الفيضية لنهرَي دجلة والفرات – المهد الحقيقي للحضارة ومهد كل البشرية – مهددة بسبب الحرب والانقسامات البشرية. وفي ذروة هذه السلسلة، ترسل الشيبي رسالة تحذيرية بأن تغير المناخ والكوارث الطبيعية والحاجة المتزايدة إلى المياه العذبة لا تعرف حدودًا، تمامًا كما اكتشف الرحالة ابن بطوطة.
تشير الشيبي بإن عملها الفني “سلسلة” يتمحور حول أزمة المياه العذبة في الشرق الأوسط، والتي ستمهد إلى الحروب-حروب المياه- ومهاجرين قسريين، وهذا ما يحدث الآن.
يكشف المقطع المعنون “إحياء” إلى نقطة محورية في حياتها ومسيرتها المهنية التي تكشف عن ذكريات عميقة الجذور،
تقول: “كان التواجد في المستنقعات في ذلك اليوم بمثابة لحظة تنبُّه عميق أدركتُ من خلالها العناصر الرئيسية في عملي مثل أصوات الطيور. كنت دائمًا أستخدم الطيور كرمز للهجرة ، لكن عندما كنت في المستنقعات، وفي ذلك النهر، أدركتُ أن هذه كانت أصوات طفولتي المبكرة التي استبدلت بها القنابل، وصفارات الإنذار، وأصوات الحرب. لقد كانت عودة إلى شيء مادي كنت أطارده طوال حياتي دون أن أدرك .”
وفي نفس السياق، أشارت الشيبي إلى أنها شهدت إحياءً مماثلاً أثناء التصوير في بغداد لمشروع غوغنهايم، والذي تم الكشف عن الجزء الأول منه في هذا المعرض تحت عنوان :”مقدمة للمدينة المدورة” وأوضحت الشيبي أن عودتها إلى العراق كانت تجربة عاطفية للغاية، حتى أنه كان من الصعب عليها الحفاظ على أدائها التجسيدي، إذ غمرتها ذكريات وعي ولا وعي بالمكان الذي تنتمي إليه، وفي نفس الوقت شعرت بالغربة تجاهه.

يجسد العمل الفني “مقدمة للمدينة المدورة” مفهوم الذاكرة والغربة والتجربة البصرية، من خلال تصميمه المعماري واستخدام تقنية ليدار. ويتحدث العمل عن العلاقة المعقدة بين الذاكرة والمكان، وكيف يؤثر المكان على تشكيل ذاكرتنا وتجاربنا الحالية. تقول الشيبي: “كان جهاز ليدار في الواقع الأداة المثالية لهذا العمل لأنه على عكس الكاميرا، لم يكن عليّ اتخاذ أي قرارات خلال التصوير، بل كان مجرد تسجيل لكل ما كان حولي وحتى ما لم يكن يمكنني رؤيته. وهكذا، استحال ليدار جسدي، وفي ذلك تشبيه شاعري بتجاربي وتعليق على مدى قدرتك على تقديم الفهم البصري والنصي للمساحة عندما تكون فيها.

يعد تمثال “شهرزاد” بمثابة استعارة فنية تعبر عن المرأة التي استخدمت كل شيء في حياتها للبقاء على قيد الحياة، وتمثل العراق كمركز ثقافي في الشرق الأوسط، حيث يأتي بعض أفضل الفنون والإبداع منه. استخدمت الفنانة في تنفيذه مواد مختلفة مثل إضاءة النيون لخلق تأثير جمالي وإشعاع للضوء في مكان العرض، ويمثل هذا العمل الفني استحضاراً للذكرى والتاريخ والثقافة العراقية، والرمزية التي تحملها شهرزاد في الثقافة الشرقية.
يبدو أن المعرض يعكس تحديات بيئية ملحمية تواجه العراق والعالم بأسره، ولكن في نفس الوقت ينقل رسالة من الأمل والتفاؤل، وخاصة من خلال الأعمال التي تمثل الجمال والروحانية في الثقافة العراقية، والتي تنطوي على قوة وصمود في مواجهة الصعوبات. يعكس هذا المعرض أيضاً حقيقة أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتواصل والتفاعل بين الثقافات المختلفة والمجتمعات، ويمكن أن يساهم في تعزيز التفاهم والسلام في العالم.
تقول الشيبي: “للنهر تاريخ ضارب في القدم، وفيه هالة من قداسة، وفيه نوع من المرونة. إنه الشاهد الأول؛ لقد شهد كل شيء منذ بداية الحضارة، حاملًا معه المعاناة والألم، ويبقى يعيد الكرة من جديد. وعلى الرغم من أنه يبدو لنا أنه يحتضر، إلا أننا نشعر بأنه أكثر بقاءً منا بكل الاعتبارات .”
ومن المثير للاهتمام، معرفة كيف ستتطور هذه القصة الشخصية والاجتماعية والبيئية والرمزية. قد يكون هناك أيضًا رسائل وتحذيرات حول البيئة والتغيرات المناخية وتأثيرها على الحياة البشرية والطبيعة. ويجب التركيز على أهمية تتبع تأثير هذه الرحلة على الشخصية الرئيسية وكيف يؤثر ذلك على مسار حياتها ورؤيتها للعالم.

سعادة أحمد عبيد القصير، المدير التنفيذي لهيئة الشارقة للإستثمار والتطوير (شروق) والقيّم الفني مو رضا والفنانة سما الشبيبي والقيّمة الفنية سيما عزّام والدكتورة نينا هايدمان، مديرة مركز مرايا للفنون، خلال افتتاح المعرض، (30.6.2023 – 27.2).
سما الشبيبي: “مقدمة للمدينة المدورة”،2022، تصوير برنارد جوارت، بإذن من مركز مرايا للفنون.
سما الشبيبي: “شهرزاد”، إضاءة نيون، 2023، تصوير برنارد جوارت، بإذن من مركز مرايا للفنون.
كاتب

لاستكشاف آفاق جديدة، حيث لعبت دوراً أساسياً في المشهد الثقافي، كمحررة في عديد من الصحف والمجلات الثقافية المرموقة، وكانت ضمن الفريق المؤسس لصحيفة "ذا ناشونال"، في أبو ظبي، وشاركت أيضاً بتأسيس مجموعة "Morrow”, المختصة بفن ال "NFT” الرموز

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.