الشعر إنشاد، والإنشاد عمل وجداني انطلق من البيد الواسعة على فم الحداة الذين كانوا يقودون الإبل فتنصاع لهم. إن التفجر الوجداني يقودنا إلى عالم آخر؛ إذ نجد أنفسنا أمام دهشة الوجود المحض؛ إذ يتجه الإنسان إلى ذاته وداخل ذاته فيأتي بالمعجزات التي تملأ حياتنا وتاريخنا. نحن أمة فُطرت على وجدانها الشعري عبر تاريخها الطويل، فالشعر ديوان العرب الذي سجل تفاصيل حياته، فكل كتابة وجدانية هي شعر؛ لذلك نحن لا نتطلع إلى القالب الذي أتى به الوجدان إنما نتطلع إلى الوجدان نفسه إن كان نصًّا عموديًا أو تفعيلة أو نثرًا، ولعل بدر شاكر السياب ومحمد الماغوط اللذين فرضا نفسيهما بصفتهما رائدين لشعر التفعيلة وقصيدة النثر هما من الأعلام في تاريخنا الشعري الوجداني دون نسيان تاريخنا الشعري على ألسنة الجاهليين وعمالقة الشعر العباسي مثل “أبو تمام” حبيب بن أوس الطائي ، والبحتري، والمتنبي.
ومع الشاعرة نجوم الغانم نتطلع إلى لغة الوجدان التي تصل إلى عنديات القارئ أو المستمع، وهذه اللغة لا علاقة لها بالشكل، أو الزمن، أو القائل. تقول نجوم الغانم:
سالَ ماءُ النهْرِ على خُطُواتِنا المَجروحةِ آلمَها دُونَ أنْ يَدريَ آلمَنا أكثرَ لأنهُ لم يكترِثْ إنها الأثرُ الوحيدُ لنا كيْ نعودَ إلى بيتِنا
إن هذا النص الشعري يحملنا إلى أماكن بعيدة في ذاتنا تمتد بين الألم والعودة إلى داخلنا بحثًا عن وجود تاه، من هنا نجد أن التجديد في الشعر هو التجديد في الرؤية، وفي الأغراض الشعرية، فليكن النص ما يكون، ولكن إلى أين يصل؟ فالشعر هو الشاعر والمتلقي في آن واحد؛ لأنه إذا لم يصل إلى وجدان المتلقي فقد دوره بصفته شعرًا.
إن شاعرتنا تفيض بالشعر انسيابًا دون تكلف، فينطق لسانها بالقصائد التي تختلج في ذاتها، فتأتي صادقة وواضحة المعالم. الشاعرة نجوم الغانم هي من رواد قصيدة النثر في العالم العربي.
وعند التطرق إلى الأعمال الفنية للفنانة نجوم الغانم نقف أمام اللوحة لنتفرس في تفاصيلها؛ لأن اللوحة كالقصيدة لها لغتها الخاصة. فاللوحة تسجل بالنسبة للفنان لحظة خاطفة في حياته، يراها ويضعها في لحظة أمام أعين الجميع، ومع الزمن تصبح اللوحة ذاكرة المجتمع. والفنان كالشاعر يقرأ الزمن ويستشرف المستقبل؛ لذلك نراه في أحيان كثيرة يشكل النبوءة في عصره. لقد رسمت نجوم الغانم حياتها وواقعها بالفن كما رسمته بالشعر، وعلى هذا المنوال علينا قراءتها ككل كي نفهم فكرها ورسالتها.
مسيرة فنية وفكرية
عندما تبحث في مسيرة نجوم الغانم يستوقفك كنز ثمين فتنظر إليه مشدوهًا وأنت تحاول أن تتلمس تفاصيله، هذا الكنز تتماوج ألوانه من الشعر إلى الفن، فالإخراج والمونتاج بلغة تقترب إلى مسافة المنتهى، وحلم هذا الزمن الذي يخطو تجاه الحداثة أو ما بعدها. لقد اختصرت المبدعة نجوم الغانم كل الأبعاد ليرتسم في خطها لغة العصر،
فمسيرتها بدأت بإرهاصات البحث عن الطريق، لكنها تداركت ووجدت أخيرًا ضالتها من خلال الوجوه الصارخة في وجه الزمن، المعبرة عن الحياة الكامنة في ملامح البشر. إن هذه الرؤية التي لجأت إليها نجوم الغانم وضعتها في مكان الباحثين عن أجوبة لكل أسئلة الحياة، رغم أنها في شعرها حاولت مخاطبة الأم في دموعها وفي ملامحها، التي تشكل للفنانة الانتماء، ليس للوطن فحسب، بل لكل معاني الحياة. وفي معرضها الذي أقامته في مركز مرايا للفنون والذي يحمل عنوان “ملامح” تستطيع أن تتسلق كل حضورك الإنساني كي تدرك ماهية العمل. أعتقد أنها أرادت أن تفلسف الحياة بلغة الفن دون الإجابة عن لغة السؤال المطروح عند المشاهد. نجوم الغانم فنانة، وأديبة، وشاعرة، ومخرجة متعددة المواهب من جيل الرواد الذين فتحوا دربًا للأجيال القادمة وهي من الذين يرسمون بالألوان فلسفة الزمن القادم.
بدأت مسيرة الفنانة نجوم الغانم في منتصف الثمانينيات بعد لقائها بالفنان الراحل حسن شريف، وأنتجت بعض اللوحات والأعمال النحتية في “مرسم المريجة” بالشارقة حيث سنحت لها الفرصة لتقديمها للجمهور للمرة الأولى. وفي شهر يناير من عام 1985 شاركت في تأسيس “جماعة أقواس” مع كل من الفنان حسن شريف، والقاص السوداني الراحل يوسف خليل، والشاعر والباحث والمترجم خالد البدور. أصدَرت مع جماعة أقواس “سلسلة الرماد” التي كانت عبارة عن نشرة شعرية، فنية، قصصية. في 28 مارس 1985 شاركت مع جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في المعرض السنوي الرابع بمركز اكسبو بالشارقة، وشاركَتْ بمعرض جماعي ليوم واحد في السوق المركزي بالشارقة مع الفنان الراحل حسن شريف والشاعر خالد البدور. ضمن نشاط جماعة أقواس في 19 أبريل، 1985.
أسهمت نجوم الغانم في العديد من المجالات الإبداعية والفكرية في دولة الإمارات، فقد نشرت ثماني مجموعات شعرية وأنتجت نحو عشرين فيلمًا بما في ذلك سبعة أفلام وثائقية طويلة، إضافة إلى عدد من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة والأفلام الفنية، وقد فازت معظم أفلامها بجوائز إقليمية ودولية. أسهمت أيضًا في تأسيس شركة نهار للإنتاج، وهي شركة إنتاج فني مقرها دبي، كما أنها مدربة محترفة في صناعة الأفلام والكتابة الإبداعية، ونشطة في الوسط السينمائي والتشكيلي والشعري. تعددت مواهب نجوم الغانم، وشملت كلًا من الأدب، والشعر، والفن، والإخراج، وغيره، فأصبحت فنانة شاملة. تقول: “تبدو كلمة فنانة شاملة مُقلقة؛
مقطع من قصيدة متاهات من ديوان “مساء الجنة” ـــ (1989)
علمتـُكَ ارتكاب المُلابسات منحتـُكَ سيفي وسرج القصيدة وإذ آمرُكَ أن تـُخلي النهار من كهولته فلأني أبيحُ لكَ الفتنةَ زاهدًا في القتال أنا أنا عروة بن الورد ماذا دهاك؟ (لون شفاف وعلامة"
لأن فيها مسؤولية كبيرة، المسؤولية التي كنتُ أخشاها طوال رحلة التجريب. وهذا الأمر ينطبق على كل شيء فعلته. جمال الفن أنه متسع وهو يقبل التماهي في الأشكال وخاصة الفن المفاهيمي الذي يحتمل مبدأ الحدود المفتوحة”.
الملائكة ــ من ديوان “ملائكة الأشواق البعيدة ” ـــــ 2008
الملائكة ُ التي احْتبَستْ فجأة في الجوار تـَقـِفُ على مشارفِ المدينة مصغيةً لارتجاف قلوبِـنا لكنـها لا تريدُ الاقـتراب إنها تنحني فوق أسطُحنا لتقرأ أساريرَنا ولا تأبه للجراحِ التي تـَسيلُ في كل ليلةٍ . إنها تذهب ُ الآنَ بَعدَ أنْ شاءتْ أنْ لا تـُلطـخَ أرديتَها بدمائِنا.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي