بين التفعيلة
والرقيمة
هو علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه أدونيس تيمناً بالأسطورة الفينيقية، مفكر وشاعر وفنان من أصل سوري، يحمل الجنسية اللبنانية التي حصل عليها وأسرته في عام 1963. قال فيه الشاعر الراحل نزار قباني، في إطار حديث أجرته معه إحدى الصحف اللبنانية عن رأيه في عدد من الشعراء، أدونيس: أجمل هدية قدمتها جبال سورية إلى جبال لبنان.
وُلِدَ في قرية قصابين التابعة لمدينة جبلة في سوريا، وهو لم يعرف مدرسة نظامية قبل سن الثالثة عشرة. حفظ القرآن على يد أبيه، الذي كان شاعراً، كما حفظ عدداً كبيراً من قصائد الشعراء القدامى. تخرج في جامعة دمشق متخصصاً في الفلسفة سنة 1954. تمحورت رسالته حول “المكزون السنجاري” (1187 – 1240) وهو أمير علوي، كما كان شاعراً، وفقيهاً، ومتصوفاً. التحق بالخدمة العسكرية عام 1954، وقضى منها سنة في السجن بلا محاكمة بسبب انتمائه وقتذاك إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تركه تنظيمياً عام 1960. غادر سوريا إلى لبنان عام 1956، حيث التقى بالشاعر يوسف الخال، بعد مراسلات عديدة بينهما، وأصدرَا معاً مجلة شعر في مطلع عام 1957، ثم أصدر أدونيس مجلة مواقف بين عامَي 1969 و1994. وفي عام 1971، بدأ أدونيس التدريس في الجامعة اللبنانية، كلية التربية، واستمر حتى عام 1985. نال درجة الدكتوراة في الأدب عام 1973 من جامعة القديس يوسف، واعتُبِرَت أطروحته “الثابت والمتحول” من أهم كتاباته. بدءاً من عام 1955، تكررت دعوته كأستاذ زائر إلى جامعات ومراكز للبحث في فرنسا، وسويسرا، والولايات المتحدة، وألمانيا. تلقى عدداً من الجوائز العالمية وألقاب التكريم، وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة، فضلاً عن الترجمة الى لغات شرقية، كالتركية، والكردية، والفارسية، والإندونيسية، والصينية. في عام 1986، دُعِيَ أدونيس ليكون ممثلاً لبعثة الجامعة العربية في اليونسكو، فانتقل مع الأسرة الى باريس، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1991. تولى تدريس الأدب العربي في جامعة جنيف بين عام 1989 وعام 1995، وحصل في عام 1986على الجائزة الكبرى في بروكسل ثم جائزة الإكليل الذهبي للشعر في جمهورية مقدونيا تشرين الأول 1997.
تميزت مسيرة أدونيس في لبنان بانخراطه في الميدان الثقافي اللبناني بإنشاء المؤسسات الثقافية، فقد أنشأ في عام 1960 مجلة آفاق التي تُعنَى بالفكرَين الفلسفي والسياسي وبالأدب إجمالاً. وشارك في أعمال الندوة اللبنانية التي أسسها ميشال أسمر عام 1946، ولا سيما في ندوات الحوار الإسلامي المسيحي عام 1967، وفي محاضرات “بعد السادس من حزيران 1967، أين لبنان؟”. وفي عام 1967، كان أدونيس بين الأعضاء المؤسِّسين لاتحاد الكتاب اللبنانيين. وفي عام 1968، كان بين مؤسسي اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا. وفيما بعدُ شارك في نشاط دار الفن والأدب التي أسستها جانين ربيز.
أدونيس: “دون عنوان”، مواد مختلفة على ورق، 2011. يستخدم أدونيس في هذا العمل ولأول مرة قصائص ورق الجرائد وقطعاً إلكترونية صغيرة، فاللوحة عبارة عن صورة لامرأة تبكي أمام جدار فلسطين، أما الخلفية فهي كتابات لأدونيس يحدثنا فيها عن السلام والأمل إلى جانب قسوة الظلم، والاضطهاد، والحرب. يعبِّر عن العلاقة بين التراث المتمثل في فن الخط العربي وبين الحداثة والتكنولوجيا المتمثلة في شكل يوحي بشخص مصنوع من حديد وأدوات إلكترونية مستهلكة، يمد يدَيه في الاتجاهين جاعلاً جسده مركزاً للوحة، عابراً من خلاله إلى شكل البعد الجغرافي لفلسطين ومجدداً نوع النزاع ليؤكد من خلال الكل أن الجسم واحد رغم بعض الدمار الذي لحق فيه.
أدونيس: “دون عنوان”، مواد مختلفة على ورق، 1993. يستخدم أدونيس في هذا العمل الخط العربي كلغة بصرية دون الولوج الى إضافة المعنى، بل استخدام شكل الحروف بانحناءاتها وانعراجاتها، مضيفاً شكلاً أثرياً يحمل الدلالة على القوة الصلبة لبقاء المعدن والحجر مع روعة ومرونة الخط لتتشكل لوحة ذات مقياس متعرج من القوة إلى اللطف واللين، ويعزز هذا الاندماج من خلال قطعة من القماش الأحمر المنسوج، فتَظهر أبعاد العلاقة بين القديم الأثري وبين مراحل التطور البشري في منظومة تستهدف فيها أبعاد تطور شكل الحرف رغم اختلاف الحضارة.
– 1 –
قــــــالـــــت الأرض فـــــــي جــــــــــذوري أبـــــــادُ
حـــــــــــنيــــــن ، وكـــــــــــــلُّ نبــــضــــي ســــــــــؤالُ
بــــــيَ جــــــــوعٌ إلـــى الجمــــال ، ومن صــــدريَ
كــــــــان الهـــــــــــــوى ، وكـــــــــان الجــمـــــــــــالُ
– 2 –
مالـــــيَ اليــــــوم أستفـــــيقُ ، فــــلا حقــــــلي
نــــضــــــــــــــــــــــيرٌ ، ولا تــــــــــلالي زواهِـــــــــــــــــرْ
لا النـــــــواطير يسمــــــــرون مـــــــع النّجـــــــــم
ولا الضــــــــــــوء راتـــــــــعٌ فـــــــي المحـــــــــاجــرْ
أنـــــا كـــــــــــنزٌ مخـــــــــبّأٌ ، أيـــــــــن أبنــــــــائــــــــي
فكـــــــــلّــــــي صــــــــــوتٌ ، وكــــــــلّـــــي حناجـــــــرْ
– 13 –
ألجـــــبال العــــــتاقُ والصخـــــر والشــــــاطئُ
والـــــــــــزورق المـــــــــــــــُدِلُّ المغــــــــــامــــــــــرْ
صَـــــــــرخــــــــــــاتٌ – مَـــــــــــدى كـــــــــأن علـــــــيه
مــــــــن جفــــــــون التاريـــــخ آلافَ ســاهــــــرْ
هـــــــــي فينـــــــــا حــــــــبٌّ يســـــــائل عن حـــــبٍّ
ومــــــــــــاضٍ يلـــــــــفّ بالمجـــــــــد حــــــاضـــــــرْ
عبثــــــــــــاً ، لــــــــــن تهــــــــــدّ جلجـــــلةَ البغـــي
شفـــــــــــــــــاهُ نــــــــدّابــــــــــــة ، أو مـــــنــابــــــــــــرْ
ليـــــــس إلا أن ننســـــــــجَ الحــــبّ رايــــــاتٍ
وأن نرفــــــــــــــع النـــــفــــــــــــــــــوس منــــــــائـــــــــرْ
– 14 –
هــــــــــــــا طـــــــــذريقُ الحـــــياة نحن شقَفْناهـــــا
عِـــــــــــــراكـــــــــــــــاً وثـــــــــــــــــــورةً وجــهـــــــــــــادا
نتخطـــــــــــــى عنــــــــــــفَ الــزّمـــــــــــانِ ونُلقـــــي
صـــــــــــــــــــــورَ العُنــــــــــفِ خلفـــــنا أمجـــــــادا
ربّ نــــــــــــــــــورٍ كـــــــــان الحـــــــــــــياةَ لشعــــــبٍ
لمحـــــــــــته عــــــــــــين الظــــــــــــلام ســـــــــوادا
– 15 –
لغـــــــــة الحـــــــقّ أن نمـــــوت مــــــع الحـــــقِّ
انتصـــــــــاراً أو أن نمــــــــوت انكســــــــــــارا ليـــــــس عـــــــــاراً لنـــــــــا ، إذا مــــــــــا نُكِبْنـــــــا
إنّ فــــــــــي خفضنــــــــــا الجِــــــــــباهَ العـــــــــارا
– 19 –
مــــــــــــــا علينا قهــــــــــرُ الصعـــــــــاب، ولكــــــن
علينــــــــــــــــا أن نقهـــــــــــر المستحـــــــــــــيلا
نحــــــــــــــــن تاريخنـــــــــــا ونحـــــــــــــن ليـــــــــــالٍ
ضحكــــــــــــــــت فــــــــــــــــي يمينـــــــه إزميــــلا
فجّـــــــــــــر الكِبْـــــــــــــرَ فـــــــــــي جوانحــــنا زيتـــاً
وألقــــــــــــــــــــى جـــــــــراحـــــــــنا قنـــــــديـــــــــلا
هَمُّنـــــــــــــــا أن نمــــــــــــزِّقَ الحُجُـــــب الســـــــود
ضـــــــــــــــــياءٌ ، ونكشــــــــــــف المجهـــــــــــولا
كثّفتنــــــــــــا الحـــــــــــــياة حتـــــــــــــــى كـــأنّـــــا
ألـــــــــــــــــفُ جــــــــــيلٍ منهـــــــــــا يعــــانق جيــــــلا.
– 20 –
أبــــــــــــــداً، نخلـــــــــــقُ الوجـــــــــودَ ونعطـــــيه
حــــــــــــيــــــاةٌ ، كمــــــــــــــــا نــــــــــرى ونشـــــــــــاءُ
قطــــــــــــرت فـــــــــي أكفّـــــــنا فلـــقُ الصَخْــر
عـــــــــــبيــــــــراً، واهتـــــــــــزّتِ الصحـــــــــــــــــــــراءُ
قيـــــــــــلَ:كــــــــــــــــــنـّا ، فاخضــــــــرّ من شَغَـــــفٍ
حلــــــــــــــــمُ الليالــــــــــــي، واخضــــــرّت الأشـــياءُ
– 21 –
منــــــــذ كـــــــــنّا ، كـــــــــنّا طغـــــاةً علـــى الـــــذلّ
وكــــــــــنّا فــــــــــــــــي وجهــــــــــــــه ثــــــــــــوارا
نتخطّــــــــــــى عنـــــــــــف الحـــــــــياة ونُلقـــــــي
خلـــــــــــــــــف خُطْــــــــــواتِنا الشـــــــذى والغــــــــارا
فـــــــــــزرعـــــنا عـــــــــين الوجــــــــــــود جمــــــــــــالاً
ومـــــــــــــلأنا أعمـــــــــــاقــــــــــــــه أســــــــــــــــــــــرارا
وشمخـــــــــــــــنا نلـــــــــفّ بالعــــــــبَق الـــــــــدنيا
ونبنـــــــــــي فـــــــــــي جبهــــــــــة الشمـــــس دارا
سهــــــــــــــرت بعـــــــــدنا النجــــــــــوم وصـــــارت
لأســــــــــــاطـــــــيرِ مجــــــــــــــــدنا سُمّــــــــــــــــــارا
ويعتبر أدونيس الوحيد الذي نال جائزة الدولة اللبنانية عام 1974. صدر العديد من الدراسات والكتب التي تناولت أدونيس ونتاجه الفكري، ومنها كتاب بعنوان “ أدونيس بين النقاد” للمفكر إدوارد سعيد. ويعتبره العديد من النقاد والمفكرين أنه أول من استطاع نقل الشعر العربي إلى العالمية، وقد تم ترشيحه أكثر من مرة لنَيل جائزة نوبل للآداب. يعتبره البعض مدرسة، حيث “يمكننا التكلم عن موجة أدونيسية في السبعينيات، في مصر والمغرب والعراق، وجزئياً في سوريا ولبنان، كان أدونيس المرجع الشعري والنظري وحتى الفلسفي. لقد لبت الأدونيسية بالتأكيد حاجة جارفة لم تتوقف كثيراً أمام إشكالياتها. هي بالتأكيد قادرة أكثر من غيرها على إيجاد حداثة ذات عراقة كلاسيكية. وإن يكون أدونيس لذلك أول كلاسيكي الحداثة. إغراء دعا الجميع إلى أن يلبوه من دون مجازفة كبيرة، قادرين هكذا على التوفيق بين قطيعة راديكالية مفترضة وموازين تراثية”. (1) (1)
إن من الأسس التي اعتمد عليها أدونيس لإقامة طرحه الشعري”…نظرية انتظام الكون، كما هي عند بعض الفلاسفة، وبعض المتصوفة، خصوصاً ابن عربي الحاتمي. كان لهؤلاء تصور لانتظام الكون وترتيبه ونضده، بما يحتويه من عوالم وأكوان وأركان، وبتقسيم الكون إلى عالم كبير وعالم صغير، هذا العالم الصغير الذي تكوَّن من العناصر الأربعة التي هي النار، والهواء، والماء، والتراب. وتوصل بينهما الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وتتولد عن العناصر والطبائع المتكونات التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنسان الذي تعتريه أخلاط أربعة: الصفراء، والدم، والبلغم، والسوداء. لقد كانت نظرية العناصر الأربعة والطبائع الأربع لب فلسفة انتظام الكون، وعلم الطبيعة، وعلم الطب، وعلم الكيمياء، والسحر، والطلسمات، ولم تزحزحها عن مكانها إلا التطورات العلمية التي حصلت بعد عصر النهضة، لكنها بقيت جوهر الإبداع الراقي، وخـــاصة الشعر”. (2)(2)
بالإضافة إلى نتاجه الفكري ومنجزه الشعري، يُعرَف أدونيس بنتاجه الفني البصري وإتقانه قواعد الرسم والتصميم والكولاج، وهو يطلِق على أعماله الفنية “رقائم” أو رقيمة، وهي كلمة مشتقة من “رَقم” ولها بُعد تشكيلي دلالي. (3) (3) والرقيم في اللغة هو المكتوب، والموشَّى، والمختوم، والمحفور، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في سورة الكهف الآية التاسعة “أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا”. والرقيم هنا بمعنى اللوح الذي نُقِشَ فيه أسماء أهل الكهف.
هذه الأعمال برزت أولاً على هامش عمله الشعري والفكري خلال تسعينيات القرن الماضي، ومن ثمّ أخذت تتكرّس معرضاً تلو الآخر، فقد عرض في باريس وبرلين، وشارك في العديد من المعارض الجماعية العالمية، وعرضت أعماله في صالة سلوى زيدان في لندن وفي الإمارات؛ وله معرض فردي في قصر عز الدين آلايا الباريسي، وهو إحدى أشهر صالات العرض الفنية في فرنسا. وفيه قدم أدونيس ما يقارب مئة لوحة تجمع في معظمها بين الخط العربي والقصيدة، بين الحرف والشكل، ونجد لديه العديد من الأعمال التي تتمحور حول قصائد شعرية يكتبها بخطه لشعراء قدامى، وهو ما يذكِّرنا بكتابه “ديوان الشعر العربي” الذي كان الهدف منه إرساء اتجاه جديد لقراءة الشعر العربي بعد أن عمد إلى قراءة كل ما حصل عليه، سواء أكان مخطوطاً أم مطبوعاً. تحمل بعض أعماله أسماء الشعراء العرب: امرؤ القيس، طرفة بن العبد، عمرو بن كلثوم، عنترة بن شداد، وغيره.
يتفرد أدونيس بأسلوبه الفني “الرقيمة”، الذي يتميز بعدم ركونه أو استخدامه الألوان، بل هو يعمد إلى لصق مواد مختلفة، كقطع خشبية قديمة، أو ثياب ممزقة، أو أوراق ملونة وغيرها، أما خلفية العمل فتكون الكتابة بخط يده، لهواجسه وأشعاره الخاصة أو ناقلاً لأشعار شعراء العرب كابن الجزري وامرؤ القيس وابن زيدون وغيره؛ ما يعطي للعمل خلفية عربية تراثية وحضور للتراث الغائب، أما الحاضر عنده فيتمثل في تشكيله لمجموعة من المواد المختلفة التي تشكل أُطُراً جمالية تعكس أسلوباً فنياً تأليفياً متماسكاً وانسجاماً لونياً شاعرياً.
كي أفهم نفسي بشكل أفضل
كي أفهم العالم الذي أعيش فيه
بشكل أفضل كي أعيش بشكل أفضل
هذا هو الفن
يتفرد أدونيس بأسلوبه الفني “الرقيمة”، الذي يتميز بعدم ركونه أو استخدامه الألوان، بل هو يعمد إلى لصق مواد مختلفة، كقطع خشبية قديمة، أو ثياب ممزقة، أو أوراق ملونة وغيرها، أما خلفية العمل فتكون الكتابة بخط يده، لهواجسه وأشعاره الخاصة أو ناقلاً لأشعار شعراء العرب كابن الجزري وامرؤ القيس وابن زيدون وغيره؛ ما يعطي للعمل خلفية عربية تراثية وحضور للتراث الغائب، أما الحاضر عنده فيتمثل في تشكيله لمجموعة من المواد المختلفة التي تشكل أُطُراً جمالية تعكس أسلوباً فنياً تأليفياً متماسكاً وانسجاماً لونياً شاعرياً. يعتبر أدونيس أن الفن وُجِدَ عند الإنسان كي يغيِّر العالم ويجدد صورته باستمرار، وعندما يصبح الفن إعادة إنتاج للحياة وللأشياء حوله، تنتهي أهميته ويفقد معناه. كما أن الفن لا حدود له، وأعظم صفة للفن هي أنه لا يحدد ولا يخضع لأي نظرية، ورغم أن كل النظريات ممكنة، إلا أن النظرية لا تبدع لوحة عظيمة أو أي عمل إبداعي، وإنما الفنان هو المبدع، ومن هنا نرى أن المعيار الأساسي ليس في النظرية، وإنما في العمل الفني بحد ذاته. لذلك ليست الحداثة أو التراث معياراً للعمل الفني، وإنما العمل بحد ذاته لأنه يخلق عالمه الخاص. فلا يجب أن يستمد العمل الفني قيمته من العوامل التاريخية والدينية أو السياسية. (4) (4)
يشير أدونيس الى أن الفنان المبدع هو من له رؤية عمودية لا أفقية لكل ما يدور من حوله، أما المحرك الأساسي للفن فهو أعماق الفنان، وقدرته على إعادة تشكيل العالم على طريقته، وهو من يبدع لغة جمالية خاصة به، تفتح آفاقاً وتساؤلات وتأملات لا تفتحها أي لغة أخرى بعدها.
أدونيس المفكر والشاعر الذي يعتبر رائد الحداثة في الشعر العربي والمنظِّر لها، ليس منقطعاً عن تراثه، وإنما أدرك مرحلة طويلة من حضور الشعر العربي منذ عصر الجاهلية إلى اليوم. وله موقفه الخاص من عمود الشعر ولغته وأغراضه، كما أنه وعى كل الأفكار التي رافقت مسيرة الشعر من دينية وفلسفية عبر حقبة طويلة من الزمن. ولذلك دعا إلى تجديد اللغة (كتابه الثابت والمتحول) عبر تفكيكها وإعادة صياغتها، ودعا لأن يكون الشاعر في حالة تشبه النبوءة، وليس مستعيداً لإنتاج شعر نمطي كما فعل الأسلاف من الشعراء.
وأدونيس الشاعر، لجأ في متقدم العمر لتشكيل لوحته الرقيمة كما يسميها؛ أي إنه لجأ إلى الفن ليشكل عالماً جديداً ولكنه لا ينقطع كفنان عن الشاعر؛ لأن الشعر في إبداعه يرسم لوحته بالكلمات، فالشعر والتشكيل ينطلقان من منبع واحد، “إن الرسم لغة، وهذه اللغة هي لغة ملونة، وهي تشبه الشعر ذاته مكتوباً بالفرشاة. يقول ليوناردو دافنشي: “الرسم شعر أخرس، والشعر رسم ناطق. وقد كان روبندرانات طاغور R.Tagorالذي لم يحترف الرسم إلا في شيخوخته، يقول عن هذا الفن إنه غرام شيخوخته، وهو يعتبر أن لوحاته شعر منظوم في خطوط”. (5) إذَن، فأدونيس لم يزل في الدائرة نفسها، وإن تغيَّر شكل أو أسلوب التعبير، رغم كونه لا يعتبر نفسه فناناً تشكيلياً، إذ يقول: “ أنا أعمل كولاجاً، وأسميه رقيمة كي أتجنب كلمة كولاج” (6) ، (6) وهو يرى أعماله امتداداً لشعره؛ لأن التشكيلات التي يشتغل عليها كانت أكثر تعبيراً عن مقاصده من كلمات الشعر.
وهنا يمكن القول إن العمل المبدع لا يأتي من الفراغ، ونتاج الفنان مرتبط بما يعتمل في نفسه من شعور عميق وحلول في عالم خاص لا يُدرَك بالكلمات، فاللوحة ليست مجرد تشكيل أو لون أو خط، وإنما هي عالم قائم بذاته. إن الغليان الداخلي للفنان هو حافزه الأعمق الذي يدفعه إلى العمل. “الرسم في حد ذاته يحتاج الى طقس شبه ديني. لقد كان بابلو بيكاسو يقول إنه يذهب الى مرسمه كما يذهب المسلم إلى الصلاة، تاركاً حذاءه عند الباب”. (7)
أدونيس: “دون عنوان”، مواد مختلفة، حبر أسود، على ورق. اللوحة عبارة عن كتابة بالخط العربي لقصائد بشار بن برد (96-168 هـ) الذي وُلِدَ أعمى، وهو يعتبر من أهم الشعراء في عصره، وكان ثائراً على العادات والتقاليد. اتُّهِمَ في آخر حياته بالزندقة، فضُرِبَ بالسياط حتى مات، في عصر الخليفة المهدي، فأتت هذه اللوحة تعبيراً واضحاً لتلك الحادثة لتتشكل اللوحة من أبعاد النسيج الأحمر الذي أراقه الفنان على لوحته كدماء شاعره وصاحب الكلمات لتندمج اللوحة مع الشكل ولتصبح الخلفية هي جسد الشاعر المضرج بالدماء ولتبقى أماكن السياط ظلاً أسودَ فوق هذا الإبداع.
1 – مجموعة مؤلفين: “الشعر العربي الحديث”، ج.2، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2005، ص 63.
2 – المرجع نفسه، ص 103.
3 – مقابلة شخصية: أدونيس، قهوة أوتيل اللوفر، مقابلة مسجلة، باريس، فرنسا، 25/12/2015.
4 – مقابلة شخصية: أدونيس، مرجع مذكور.
5 – قيمة، مصطفى: “من سفر إلى سفر”، دار الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، ص 91-92.
6 – مقابلة شخصية: أدونيس، مرجع مذكور.
7 – قيمة، مصطفى: المرجع السابق، ص 92.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي