الأشياء التي تحيط بي، والقريبة جداً منّي، هي مادتي الخام
حسين شريف
حسين شريف: “وجوه من الورق”، ورق ومواد مختلفة، 2022
لَطالَما رأيتُ الفنان حسين شريف من أقوى الفنانين الإماراتيين، وأكثرهم إبداعاً وجرأة، ويتميز إنتاجُه الفنيّ بتنوّع الأفكار، وتنوّع الأساليب، بطريقةٍ غير متوقعة، وهو من مواليد دبي عام 1961، وكان قد درسَ فن الديكور المسرحيّ في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت بين عامَي 1983 و1986، وشارك في معظم المعارض العامة لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية منذ العام 1980، وكذلك في معارض عامةٍ وخاصة، داخلَ الإمارات وخارجَها، وأقام أكثرَ من معرضٍ شخصيّ، واشتهر بلوحاته من التجريد البحت، وكذلك من فن التلصيق (Collage)، كما اشتهر برسم الكاريكاتير، وفي جميع أعماله، من اللوحة إلى النحت إلى التركيب؛ تظهرُ ميزة خاصة بالفنان حسين شريف، هي الجرأة غير العاديّة في التعامل مع المواد، وانتهاء تلك الجرأة بالسيطرة التامة على مجرى العمل الفنيّ، وليس من الغريب حصوله على جوائزَ في مختلِفِ مجالات الفنون المَرئيّة (Visual arts)، فقد أهّلهُ أسلوبُه القويّ والمتنوع إلى حصولهِ على الجائزة الأولى لفن النحت في بينالي الشارقة الدوليّ عامَ 1997، وفي العام التالي 1998 حصل على الجائزة الأولى في معرض البورتريه الذي أقامته جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، وقد قامت شخصياتٌ وجهاتٌ ثقافيةٌ عدة باقتناء مجموعاتٍ من أعماله، منها متحف الشارقة للفنون، ومنها مركز سيترد للفنون بهولندا، كما كُتِبت مقالاتٌ ونصوصٌ عدة عن أعمال الفنان حسين شريف، معظمها عن لوحاتهِ وأعمالهِ التركيبية، لكنني سأقتصرُ في هذا المقال على أعمالِهِ النحتية التي يُنتجها في مجموعات، فهي أعمالٌ نحتيّةٌ مثيرةٌ للانتباه، ترمي نوعاً من التهكم على كثيرٍ من الأمور، من بينها النحت التقليديّ نفسه، وذلك عبرَ انتقال حسين بطريقة تكوين وإنتاج العمل النحتيّ من التقاليد الكلاسيكية والنظامية إلى اليوميّ، والمُعتاد، والمُبتَذَل، أكثرَ فأكثر، وذلك بغرض أن يكشفَ النحتُ الواقعَ، إن لم يتمكن من كشفِ الحقيقة، وفيما يلي قراءةٌ مُوجَزةٌ في تلك المجموعات النحتيّة.
في أواسط التسعينيات أنتجَ حسين شريف عملَهُ النحتيّ (وجوه – Faces)، وهو مجموعةٌ من العُلَب المعدنية الفارغة المستعملة، قام الفنان بجمعِها، ثم الطرق عليها، وثقبها، وقطع وتطويع أجزاءٍ منها بآلاتٍ حادةٍ في الغالب، وذلك لكي يمنحَ تلك الوجوهَ أشكالَ العيون والأنوفِ والأفواه، كما منحَها تكويناتٍ تُقدِّمُها جامدةَ المظهر، غامضة، ومع ذلك تبدو ناطقة، ولديها الكثيرُ لِتقولَه، فكلُّ تجويفٍ أو اعوجاجٍ فيها لهُ دلالة. ولقد عُرِضَ هذا العمل في متحف الشارقة للفنون عامَ 1998، بحجم ومساحة عرض تُقدَّرُ بـ 200 × 200 × 15 سم، والمُلفت للنظر أن هذا العمل قد عُرِضَ على أرضيّةِ المعرِض مباشرةً. وقد يتوهّم المشاهد أن طبيعة عرض هذا العمل في شكل المجموعة تقضي بأن تضيع خصوصية كل وجهٍ من تلك الوجوه من حيث التعبير والدلالة في الصورة الكلية للمجموعةِ المعروضة، أي أن تفقد المُفرَدةُ تأثيرَها بذاتها لتصبح مؤثرةً بغيرها، ولكن إذا ما نظرنا إلى كل وجهٍ منها على حِدَة، نجدهُ مؤثراً بذاتِه أيضاً، لا بالمجموعة في شكلها العام وحسب، وإذن فـ (وجوه) حسين شريف تتمتع بنوعيْن من التأثير في آنٍ، التأثير الجماعيّ، والتأثير الفرديّ، ويقول الفنان الإماراتيّ الراحل حسن شريف مُعلِّقاً على عمل أخيه حسين: “أصبح موضوع العمل الفنيّ ليس فقط رسمَ المَشاهد من المدينة، أو رسمَ وجوه قاطنيها، ولكن أصبح جوهرُ الموضوع الفنيّ وحمولته يكمنُ في الأشياء الموجودة والمبعثرة في المدينة، هذه الأشياء تمثل حطامَ ومخلفات قاطنيها. هذه الأشياء أصبحت مَنسيّة. هذه الأشياء مثل الكراتين، والعلب، والأوراق، تعطي طاقة جديدة، أي [إن] حسين شريف يجعلها غير مَنسيّة، أي يخلق لها مرةً أخرى وجوداً جديداً في ذاكرة المشاهد، وبهذه الطريقة يخلق حسين نوعاً من الاتحاد بين العمل الفنيّ والمشاهد” . (1)
ومن المهم هنا أيضاً أن نقرأ ما كتبه الفنان حسين شريف نفسهُ عن عملهِ هذا، إذ يقول في فقراتٍ أرسلها لي: “عام 1998 قمتُ بتنفيذ هذا العمل للمشاركة في معرض (البورتريه) الذي تنظمه جمعية الإمارات للفنون التشكيلية. كنتُ مشغولاً في تلك الفترة بإنتاج أعمال فنية تزاوج بين اللوحة التقليدية والنحت، وأنتجتُ قبل هذا العمل عدة أعمال ضمن صنف الأعمال التركيبية، باستخدام مواد أولية من البيئة المحيطة. هنا تعاملتُ مع علب المواد الغذائية كخامة أولية وأساسية للعمل، وهي متوفرة جداً، ويتعامل معها أغلب الناس، وقريبة من حياتهم اليومية. هذه العلب منتج وشيء أساسيّ قبل استهلاك ما تحتويه، ويتم التخلص منها. هنا أردت إعطاءها صفة الديمومة عبر توظيفها كعنصر في إنتاج شيء فنيّ، وتستمر أهميتها إلى حين. بَدَت أنها فكرة جديدة، وسهلة التنفيذ، وتحوي عنصر التشكيل لسهولة وطواعية المادة، وكذلك العمل فنياً ملائم لأسئلتي ولتجربتي فى الفن، كما يمكن إنتاجه وعرضه بأعداد كبيرة، ومنها يأتي عنصر التأكيد عبر التكرار. حاولت إعطاءها ملامح مختلفة نسبياً، والتنويع المطلوب لإضفاء جمالية بصرية، كترك البعض للصدأ. كذلك يأتي – كبقية أعمالي – يحمل جزءاً من السلوكيات والتصرفات الاستهلاكية، ويحمل أيضاً الطابعَ المسرحيّ عند عرضه. أنجزتُ الجزء الأول من العمل سنة 1998، وشاركتُ به فی بینالي القاهرة السابع 1998، وعُرض في متحف آخن بألمانيا 2003، كما عُرض فى معارض عديدة بداخل الدولة. أما الجزء الثاني فهو من إنتاج 2017، وشاركتُ به في أحد المعارض العامة في منارة السعديات بأبوظبي، وآرت دبي 2021”.
مؤخراً أنتج حسين عملاً جديداً من الوجوه، ولكنه بالورق هذه المرة، وتبلغ هذه المجموعة الجديدة نحو أربعين وجهاً، وعلى خلاف مجموعة الوجوه المعدنيّة، التي أُنتجت بالقطع، والثقب، والإزالة؛ نرى مجموعة الوجوه الورقية قد أُنتجت بالإضافةِ والتركيب، أي بإضافة لفّاتٍ من أنواع الورق المُقوّى والورق العاديّ، وأحياناً بإضافة قطع من النسيج أو القماش، وأحياناً أخرى بإضافة قطعٍ معدنيّة، ومُجملُ هذا التصرف سلباً وإيجاباً في إنتاج هاتيْن المجموعتيْن، يُذكّرني بما كان يقولهُ بعضُ النحّاتين القُدامى مِن أن “مَن يُحسِنُ الإضافة في النحت؛ يُحسِنُ الإزالة كذلك”، وفي رأيي إن حسين شريف قد أبدع في إنتاج هاتيْن المجموعتيْن، فلكلٍّ منهما تعبيراتٌ مستقلة، وهذه الوجوهُ تنظرُ إلينا نحن المشاهدين كما ننظرُ إليها، وقد ترى وجوهَنا جامدةً كما نظنها هي جامدة، لكننا قد نرى فيها أنفسَنا، وتعبيراتِنا، وربما انعكاساتِ وجوهِنا، وقد تُذكّرُنا بوجوهٍ عرفناها، أو مررنا بها في مدينةٍ ما، أو رأيناها في فيلمٍ سينمائيٍّ ما، وهكذا نتركُ نظراتِنا على تلك الوجوه المعدنيّةِ والورقية، كما تركَ الشاعرُ الإماراتيّ إبراهيم الملا نظرَتَهُ في البئر.
في عام 2002 شارك حسين شريف في معرض أقيم بمدينة آخن بألمانيا بأحد أشهر أعمالهِ النحتية، وهو بعنوان (إضراب – Strike)، وهو مجموعةٌ من الشخوص الذين يبدو عليهم الغضب والتمرّد وهم يتقدّمون نحوَ أمرٍ ما، وقد أنتج حسين هذا العمل عن طريق لَيٍّ قاسٍ لأسلاكٍ معدنية، يُنتجُ أشكالاً إنسانيةً مَنصوبةً على الأرض مباشرةً، دون اعتمادٍ على أية قواعد، إذ إنها تُنافي بطبيعتها القواعدَ التي يُنصَبُ عليها النحت التقليديّ، لكنّ العملَ حين عُرِضَ في أحد المعارض في الإمارات وُضِع على قاعدة، ولا أدري إن كان حسين شريف هو الذي عرضها على القاعدة، أم أن مُنظّمي المعرض اختاروا ذلك، لأنني أعلمُ أن الفنان نفسَه كان يقصِدُ دائماً إلى عرض العمل على الأرض للتخلص من قيود وسياقات النحت التقليديّ، وعلى أية حال فمقاسُ هذا العمل 400 × 300 × 50 سم. ولعلّ هذا العملَ لا ينطبقُ عليه كثيراً ما ذكرتهُ في العمل سابق الذكر (وجوه) من تأثير المفردة الواحدة بذاتها، فضلاً عن التأثير العام للمجموعة بصفتها عملاً واحداً، فإذا ما نظرتُ إلى الشخص الواحد من شخوص مجموعة (إضراب)، وجدتهُ أقلَّ تأثيراً منهُ ضمنَ المجموعة، بخلافِ ما لو نظرتُ إلى المجموعة التي ينتمي ذلك الشخص إليها، وهذا نزوعٌ إلى طاقةِ الاجتماع في مقابل طاقة الاستقلال، وهذا النزوعُ مناسبٌ لعنوان العمل كما لا يخفى، ولذلك فهذه المجموعة من الشخوص تُخاطِبُ فضاءَ العرض المحيط بها، مؤثِّرةً فيه بمجموعِها، لا بكل فردٍ منها على حِدة، فهي تستمدُ قوتها وتأثيرَها من مجموعِها، ومع ذلك فإن الفنان حسين شريف سيُنتجُ قطعاً أخرى من شخوص مجموعة (إضراب)، تُفارقُ المجموعة الأساسية من حيث الشكل، فنرى بعضَ الشخوص جالساً وهو يضم قدَمَيْه، أو يضعُ كفّيْهِ على رُكبتيْه، في حالةِ إرهاقٍ وتعب، وربما إحباط، وهذا تنويعٌ مثيرٌ في قصة العمل التي يُحاولُ سَردَها، ومن الطريف أن أحد الشخوص قد أُنتِجَ في هيئةِ إنسانٍ جالس، وقد دَلّى إحدى ساقَيْهِ إلى الأسفل، بحيث يُمكنُ عرضُهُ على رَفٍّ في مكتبة، أو على طرَفِ طاولة، كما يُمكنُ عرضُهُ على قاعدة، وهذا مرةً أخرى تهكمٌ واضحٌ بطريقةِ عرض النحت التقليديّ.
للفنان حسين شريف عملٌ مشهورٌ آخَر، هو (سيّارات)، وهي مجموعة من السيارات صغيرة الحجم، أنتجها حسين من عُلَبٍ وأغطيةٍ واسطواناتٍ بلاستيكيةٍ مُلَوَّنة، وعرضها في أحد المعارض العامة لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، وكانت تبدو رائعةً، برّاقةً وجذّابة في ذلك المعرض، لكنّ حسين شريف أنتجَ نسخةً جديدةً من هذا العمل عام 2021، وهي أقربُ إلى روح الاشتغال باليوميّ المعتاد القريب من إنسان اليوم، إنسان المدينة، أي إنها أقربُ إلى المفهوم الذي يعتمدهُ الفنان، فهذه النسخة الجديدة تبدو مصنوعةً من مواد مُهملة، تشمل العلب المعدنية، التي يُرى في بعضِها الصدأ، وكذلك من بقايا العلب البلاستيكية المُلَوَّنة المُستهلَكة، وهذا ما يوافقُ كلامَ حسين شريف عن مفهوم القريب اليوميّ، حيث يقول عن الموادّ التي يستعملها في أعماله ضمنَ نصوصٍ أرسلها لي: “ما يُهمّني هو توافرُها بسهولة، فلستُ مَعنيّاً بالأشياء البعيدة، أما القريبة جداً فنستطيع من خلالها تلمّسَ الحقيقة، واللحظة التي نعيشها هي وعاءُ الماضي والمستقبل”، ويقول حسين أيضاً إن مثلَ هذه الأعمال الفنية قد “أعطت الفنانَ الحقَّ في أن لا تكون إنجازاتُهُ خارقةً، ومُبهِرةً، ورائعةً جداً، بل كلما قَلَّت براعتُه، وفخامتُه، وادّعاؤه؛ كان أفضلَ، وأنقى، وأهمَّ، وأشدَّ تأثيراً”.
وهذا العمل على كل حال واقعيٌّ جدً، إن لم يكن مرتبطاً بالثقافةِ المحليّة أشدَّ الارتباط، فهو تأويلٌ معاصِرٌ لألعاب السيارات الصغيرة الشعبية القديمة، التي كانت تُصنع للأطفال في الماضي، لكنّ تلك السيارات كانت في ذاتِها نتيجة تعامل القدماء مع مُنتجات الحياةِ الحديثة، وذلك لأن تلك السيارات كانت مصنوعةً من موادّ صناعيةٍ حديثة، كالصفائح، والعلب المعدنية، ونحو ذلك، ولا تخلو طريقة حسين شريف في تشكيل هذه السيارات من غِوايةِ المُشاهِد، فهي تُحرِّضُهُ على اللعبِ بها، وهو يقفُ قائماً في قاعة العرض ينظرُ إليها، بينما هي تقفُ في صَمْتٍ عارِمٍ على الأرض، إذ إن صمتَها مشحونٌ بذكرى اللعبِ في اللاوعي الجَمْعيّ للمجتمع المَحليّ، ويمكن رؤيةُ ذلك في عَيْني مَن حضروا المعرض حين وقفوا أمام هذا العمل للفنان حسين شريف. إن هذه السيارات تريد منا أن نعودَ أطفالاً، وقد قال بول فاليري: “حين لا نعودُ أطفالاً، نُصبحُ مَوتى”.
1 انظر كتاب “الخمسة” حسين شريف اصدار دائرة الثقافة بالشارقة 2003 ص 51.
باحث في المعرفة، فنان تشكيلي، ناقد فني، شاعر وعازف، مدير إدارة التراث الفني بمعهد الشارقة للتراث.