محمد بولحية (2016-1953)
في أواسط الثمانينيات انضم الفنان الإماراتي النحات محمد عبد الله بولحيه إلى جمعية الإمارات للفنون التشكيلية حيث أصبح عضواً فيها، واستمرّ منذ ذلك الحين في إنتاج أعماله النحتية التي تميّز بها في الساحة الفنية في الإمارات، والتي شارك بها في معظم معارض الجمعية، الأمر الذي أهّله للفوز بجوائز عدة، والمشاركة في ملتقيات دولية كثيرة لفن النحت، كما كتب الكثير من الكُتاب والنقاد عن أعماله وطبيعتها الفِطرية البدائية، ولذلك تبدو سيرتهُ الفنية حافلةً بالمشاركات والإنجازات، فقد شارك الفنان محمد بولحيه في عامة معارض جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، داخل الدولة وخارجها، منذ العام 1985، وشارك في الدورات الثلاث الأولى من بينالي الشارقة 1993، 1995، و1997، كما أقام أربعة معارض شخصية، من بينها معرض بعنوان (فن بلا حدود) في الجامعة الأمريكية بالشارقة، وقد مثَّلَ الإمارات في المهرجان العالمي للمحبة والسلام في كوريا الجنوبية، وحصل هناك على ميدالية ذهبية،
كما حصل على جوائز أخرى عدة في مجال النحت، منها جائزة المركز الأول في المعرض العام الحادي والعشرين لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، ومنها جائزة النحت لفئة المحترفين في معرض (الإمارات في عيون فنانيها) الذي أقيم بالمجمع الثقافي في أبوظبي، وغير ذلك من الجوائز، والإنجازات، وشهادات التقدير.
ينطلق الفنان محمد بولحيه في إنتاج أعماله النحتية من حبّه الشديد لتجسيد أفكاره في تكويناتٍ ثلاثية الأبعاد، يُساعده في ذلك الإنتاج خبرته التطبيقية، فقد اكتسب العديد من المهارات الصناعية أثناء دراسته في المدرسة الصناعية القديمة في الشارقة في أواخر الستينيات، وهو يُنتج أعمالَه النحتية – كما عرفته شخصياً – بعد أن تلمع فكرةٌ ما في ذهنه، وكل ما ينقصها هو تجسيدها في عمل ثلاثيّ الأبعاد، فيقوم حينئذٍ بإعداد المواد اللازمة لإنتاج العمل، وتجسيد فكرته تلك، ومما يؤكد رأيي هذا عدمُ وجود احتمالات لدى الفنان لتغيير ملامح التكوين في أثناء العمل غالباً، وهذا ما شهدته بنفسي من خلال علاقتي بالفنان التي امتدت لسنوات عديدة، فذهن الفنان بولحيه يكتفي في العادة بحدود الفكرة المُتخيَّلة، وحدود تجسيدها كذلك منذ البداية. من جانبٍ آخر قد نجد أفكارَ الفنان تتسِمُ بالمباشرة، وهو ما قد ينتقل إلى تكوينات أعماله، فيراها كثيرٌ من المشاهدين سطحيةً لِما تحتملهُ من المباشَرة في الطرح، ومع ذلك عليّ التنبيه إلى أن محمد بولحيه لم يترك أعمالَه بتلك المباشرة الظاهرة، بل هو يطبعُ أعمالَه برمزيةٍ ذكيةٍ تحافظ على طبيعة الفن فيها، كما أنه لا يسعى إلى تفاصيلَ كثيرةٍ في أعماله النحتية، بل أراهُ يسعى خلف جوهرٍ صلبٍ من الشكل ذي المعنى الخالد أو الأبديّ في تكويناته، وهو ما يجعلُ لأعماله مظهراً بدائياً فِطرياً لا يمكن إنكارُه، ولعل هذا ما قصدَ غليه الفنان بقوله: “إني أكتشفُ كُنهَ الأشياء، أصلَها، هدفَها.. مادّتها الأساسية.”(1)
يتضح ذلك في أعماله المنفذة بخامة الخشب، وبصورة أعمق في خامة الحجر، والرخام، حيث نجد الفنان في بعض أعماله الحجرية أو الرخامية يكتفي بصنع بعض الحزوز في قطعة النحت ليصل بها إلى مبتغاه التكويني، وهذه الحزوز الخفيفة تُلطّفُ شكلَ المنحوتة الخارجيّ، الذي هو الحجم، كما أنها تُعطي المعنى للتكتلات إن وُجدت في المنحوتة، وذلك كله تأكيدٌ للنزعةِ الفطرية في منهج الفنان بولحيه، فهذا الكشفُ عن معاني النفس بواسطة التحزيز في الحجارة ليس سوى صدى آثار الإنسان القديم، الذي كان يبحث عن نتوءٍ بارزٍ في الكهف كي يصنع حولهُ حزوزاً تُجسّد الحيوان الوحشيّ الذي يريد اصطياده، فكان ذلك النتوء يمنح شكلَ الوحش الحياة، ويزيدهُ رهبة.
أما بالنسبة لموضوعات أعماله فهي تتوزع بين الأمثولات أو الرموز المحليّة، وبين القضايا الإنسانية العامة، وقد تتداخل هذه في تلك، فكثيراً ما يظهر شكلٌ من الألفة الإنسانية في التكوينات ثنائية التشخيص لديه، والثنائية بشكلٍ عام هي رمز التزاوج، والتعايش، والاندماج، والاختلاف النوعيّ، أو الإيجابيّ، كما أنها – من جهةٍ أخرى – رمز التناقض، أو التضاد بين الثنائيات، كالنور والظلام، الخير والشر، القوة والضعف، وهكذا، فهل الثنائية في أعمالهِ تتجسّد بشكلٍ يدل على التناقض؟ كلا، فهو يعرض الثنائية باحتمالاتها، وبكثير من الاقتراحات المتضمنة في حجم النحت، ونسيجه، والعلاقات المتنوعة بين التكتلات والفراغات، ولهذا فالثنائية في أعماله النحتية منسجِمة، تكاملية، وفيها إشعارٌ بالاقتراب من جوهر الإنسان. وفي موضوعاتٍ أخرى، قد نجد عملاً يُجسّد تقارباً بين الإنسان والآلة، أو تلخيصاً رؤيوياً (Visual) لأمثولات الماضي، ورموز الحياة القديمة في الإمارات، كالقوارب والمجاديف، وكثيراً ما نجد شخوصاً للمرأة الإماراتية بغطاء الرأس التقليديّ، أو الأم، مع طفلٍ أو أكثر، كما نجد بعض التصوير النحتيّ الطريف لبعض مخلوقات البيئة المحلية، ويدعمُ الحضورَ المؤثرَ لهذه الأعمال إنتاجُها بمواد بيئية محلية، أو مواد صناعية كانت ومازالت تُستعملُ محلياً، بمعنى أنها حاضرةٌ في لاوعي المُشاهِد، وهذا اقترابٌ في المضمون والشكل من المُشاهِد المحليّ بصفةٍ خاصة.
في أعماله التي أنتجها في الثمانينيات وبداية التسعينيات، لم يكن بولحيه يهتم كثيراً – في رأيي الخاص – بمدى تأثير أعماله في الفراغ، والتي هي ميزة النحت، فكان الأهم لديه أن تعبّرَ المنحوتة؛ بل أن تجسّد فكرة معيّنة في ذهنه، و لربما جاء ذلك على حساب جمالية الحجم التي تُستخلَصُ من تأثير حجم ما في الفراغ المحيط، فنجده يهتم ببعض التفاصيل التي يمكن قراءتها بسهولة من قِبل المُشاهِد، والتي توصل فكرة الفنان المبتغاة من وراء العمل بكل وضوح، لكن هذا الأمر قد جعل من بعض أعماله الأولى منحوتاتٍ قاصرةَ الدلالة على مضمونها الحاضر، أو بعبارة أخرى؛ لم يكن لتلك المنحوتات احتمالات تعبيرية تسمحُ بدراسة مقترَحات جمالية جديدة، حيث كان الاكتفاء بتجسيد الفكرة كما هي في الذهن طاغياً على أعمال الفنان في تلك المرحلة.
مع مضيّ السنين، وكثرة اطلاعه على أعمال النحت في المعارض، والمشاركة التطبيقية في ملتقيات النحت المحليّة والخارجية؛ اكتسبت أعمال الفنان محمد بولحيه ميزاتٍ جعلتها أكثرَ تطوّراً وتأثيراً، فنرى أن تأثيرات المدرسة التجريدية التعبيرية (Abstract Expressionism) في النحت قد وجدت طريقها إلى أعماله، وهي المدرسة التي سلكت سبيل التخفيف من “النحتيـّة” في أعمالها الفنية، و لا أدلّ على ذلك من منحوتة الفنان الأمريكي ديفيد سميث الشهيرة (منظر نهر هدسون – إنتاج 1951)، وكذلك أعمال غيره من نحّاتي التجريدية التعبيرية التي قلــّصت الفارق الجوهري بين اللوحة والمنحوتة، فقد تم التحرّر من التكتل، بل ومن الكثير من قيود النحت المعهودة باستعمال الفولاذ، أو الصلب الملحوم في إنتاج النحت، ولأهمية هذه المدرسة أو هذا الأسلوب الفنيّ الذي اصطبغ به الكثيرُ من أعمال الفنان محمد بولحيه النحتية، ومن أجل تعريف القارئ به؛ رأيتُ أن أضعَ هنا نبذةً عن هذا الأسلوب التجريدي التعبيري في النحت، لخّصتُها بترجمتي الخاصة من كتابين، هما (الحركات الفنية منذ 1945) للناقد إدوارد لوسي سميث، و(الفن التجريدي) للناقدة آنّـا موزينسكا:
“بدا واضحاً منذ بدايات النصف الأول من القرن العشرين أن طريقة إنتاج الأعمال النحتية كانت مهتمةً بفكّ قيود النحت المعهودة في المواد والأدوات، فقد أنتج فنانون مثل بيكاسو، وبرانكوزي، ورودشينكو، وجياكوميتي، وكالدر؛ أعمالاً نحتيةً بها مزايا كانت في السابق حكراً على التصوير أو تكاد، فمن ذلك إضافة الألوان إلى المنحوتة، ومحاولة خلق الانطباعات الخادعة للبصر فيها، ومن ذلك أيضاً توكيد الواجهة المباشرة للمنحوتة، كما نراه جلياً في وجوه بيكاسو الإفريقية، وهذا بلا شك مجاراة للمباشرة التي تتميز بها اللوحة، كما نرى ابتداع التلفيق بين المجسَّم النحتي وقاعدته، وإدراك النحت كشيءٍ مستقل عند برانكوزي، ومع جياكوميتي جاء توكيد الشكل المصغر للنحت، فبالنسبة إليه كانت أعماله تبدو نحتاً كلما كانت أصغرَ حجماً،(2) وهكذا أصبح النحت على أيدي هؤلاء الفنانين منفتحاً، مَعنيّاً أكثرَ بتأثيرات الأضواء والحركة، وأقلّ منليثية (Monolithic). (3)
كل ذلك بدا وكأنه يُمثل جواباً جاهزاً بالنسبة إلى مجموعة من النحاتين الأمريكيين، كانوا يتساءلون عن مدى قدرة النحت على مجاراة مدرسة الفن الفخمة في نيويورك في خمسينيات القرن الماضي، وهي التجريدية التعبيرية، فقام فنانون مثل سيمور ليبتون، ودافيد هير، وهربرت فيربر، وإبرام لاساو، وروبن ناكيان، وثيودور روزاك، ودافيد سميث بإنتاج نحتٍ معدنيٍّ وازى الأعمالَ التصويرية للتجريدية التعبيرية. لقد تحرّر هؤلاء من الكتلة أو التكتل في العمل النحتيّ، بل ومن الكثير من قيود النحت المعهودة، وذلك عبرَ استعمال الفولاذ أو الصلب الملحوم في أعمالهم. ومن جهةٍ أخرى وفّرت لهم هذه التقنية إمكاناتٍ تركيبيةً هائلة. لقد أصبحت أعمالُ هؤلاء تجريديةً أكثر فأكثر، ووصلت في بعض الأحيان – مع تناقص الكثافة النحتية – إلى حدود “اللا نحت”.
ربما كان الفنان دافيد سميث أكثر هذه المجموعة أصالة، فقد بدأ بإنتاج النحت المعدني في أوائل الثلاثينيات، وكان – قبل ذلك – قد درس أصول التصوير مع أرشيل غوركي، ووليام دي كوننغ؛ الفنان التجريدي التعبيري الأكثر شهرة، وذلك في Art Students’ League في نيويورك، فهذه الخلفية اللونية المكتسبة من دراسته قادتهُ إلى الشعور بأنه لا يوجد فارق جوهري بين التصوير والنحت، وهكذا بدأ سميث في العمل على أعماله النحتية بصورة مشابهة لطريقة عمل الفنان جاكسون بولوك في مجال التصوير، فكان سميث ينتج أعماله النحتية بصورة مسطحة ممتدة على الأرض، حيث كان يرسم الأشكال على ألواح من الفولاذ، ثم يقوم بتقطيعها، وتجميعها مرة أخرى عن طريق لحام بعضِها ببعضها، وكما يقول بعض النقاد فقد وصلت أعمال سميث في بعض الأحيان إلى حدٍ تكاد فيه أن تكون ضد “النحتية”، سواءٌ من حيث الأهداف أو التأثير، وأوضح مثال على ذلك هو عمله الشهير الذي ذكرتهُ سابقاً (منظر نهر هدسون)، وكنتيجة حتمية لموهبته اكتسب سميث سمعة في النحت توازي سمعة بولوك في التصوير في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهكذا تلاشى السؤال عن قدرة النحت على مجاراة التصوير التجريدي التعبيري الذي كانت الأضواء مسلطة عليه في حقبةٍ ما”.(4) (4)
لقد اشتهر الفنان محمد بولحيه بإنتاج الكثير من أعماله المتأخرة بتقنية المعدن الملحوم، وكما أسلفت فقد ساعده في ذلك خبرته التطبيقية التي اكتسبها من دراسته الصناعية، وقد عرَفَتْ هذه الأعمالُ بالذات تطوراتٍ هامةً في إنتاجها، وأشادَ بها النقاد والمهتمون، ومنهم د. محمود شاهين حيث قال إن الفنان في تلك الأعمال قد: “حقق الوضعية النحتية المتكاملة الخصائص والمقومات الفنية بأقل ما يمكن من العناصر والمفردات، وفق رؤية فنية حداثية تنم عن خبرة متراكمة، نهضت في الأساس على موهبة.”(5)
وأرى أن الفنان محمد بولحيه قد تميّز في معالجتهِ العلاقةَ بين الحجم والفراغ في هذه الأعمال بجعل الأطراف المعدنية لأعماله الملحومة مؤثرةً في الفراغ المحيط بها بواسطة تكويناتها ثنائية التشخيص، ولكنه لم يكتفِ بذلك، ففي بعض الأحيان قام أيضاً بتقييد الفراغ ضمن قضبانه الحديدية الملحومة، ولكنّ هذا الفراغ في ذاتهِ، وفي الوقت نفسهِ؛ حجمٌ مُتَخَيَّل، فكأن أطرافَ أعمالهِ خطوطٌ نحتية واهية، إلا أنها تحتوي الفراغ المحيط بها، وتسيطر عليه لتجعل منه حجماً بذاته، ومن ثَمَّ شكلاً ذا دلالة.
1. من كتيّب خاص بمعرض للفنان محمد بولحيه، أقيم بعد وفاته، وذلك في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في فبراير 2013.
2. Movements in art since 1945 by Edward Lucie-Smith, London 1989, page: 195
3. المنليث: حجر ضخم مفرد يكون عادة على شكل عمود أو مسلة. انظر معجم (المورد) طبعة 1991، ص 589.
4. Abstract Art by Anna Moszynska, London 1990, page: 186-170
5. مجلة (الإمارات الثقافية)، العدد التاسع، ص 84.
باحث في المعرفة، فنان تشكيلي، ناقد فني، شاعر وعازف، مدير إدارة التراث الفني بمعهد الشارقة للتراث.