Al-Tayeb Al-Hajj: “untitled”, A4, ink on paper, 2022, courtesy of the Artist.

النــاي والوردة
قراءةٌ في أعمال الفنان السودانيّ الطيب الحاج

حرصت جمعية الإمارات للفنون التشكيلية منذ تأسيسها على دعم ورعاية الإبداعات في سياق الفنون المَرئيّة، وذلك تحقيقاً للأهداف التي التزمت بها الجمعية، والتي تصب في صالح تطوير حركة الفنون التشكيلية في الإمارات خاصةً، ومواكبة حركة الفنون التشكيلية العربية والعالمية عامةً، وعلى مدى السنوات عملت الجمعية على تحقيق تلك الأهداف بكل الإمكانات المتاحة، وبمختلف أنواع النشاط، من معارض عامة وخاصة، ومن منشورات تثقيفية، ومقالات نقدية، ومحاضرات وندوات، وغير ذلك، وفي هذا السياق أتى المعرض الشخصي للفنان السودانيّ الأستاذ الطيب الحاج الذي أقامته جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في صالتها في الخامس والعشرين من شهر مايو 2022؛ توكيداً لالتزامها بتوفير مساحةٍ للتجاور الفنيّ والبصريّ، ومن ثم خلق فرصة الوجود الإبداعي، وإثراء لغته المتجددة، وإيجاد الفضاء الملائم لعرض الأسلوب الخاص بالفنان الحاج، حيث يتمكن جمهور المعرض من اكتشاف القيم الجمالية والفنية التي تختزنها لوحاتهُ المتميزة، وفيما يلي قراءةٌ موجزةٌ في أعمال ذلك المعرض.

بالرغم من اختلاف التناول في كل لوحة من لوحاته في معرضه الشخصيّ، فإن الفنان الطيب الحاج يؤلفُ معجماً خاصاً برموزه الفنية – الأدبية في لوحاته تلك، وهو معجمٌ بصريٌّ يضمّ: الشخوص البشرية في حالاتٍ فاعلة أو منفعلة، الطيور، الأهلّة أو أشباهها كالقرون، مجازات رقعة الشطرنج، النايات والمزامير، أشباحُ الكواكب والنجوم، قضبانٌ مزخرفة، وفوق ذلك كله الأفق الكونيّ الذي يمتد في خلفية العديد من اللوحات، والفنان يُنوّع السياقات التي يضع تلك الرموز فيها، مستثمراً في سبيل ذلك العديد من الأساليب الفنية، منها خبرته الظاهرة بالنظام اللونيّ وعلاقاته، ومنها تجريبيّتهُ الظاهرة أيضاً في تأليف موضوعات اللوحات، وما يُمثلُ تلك الموضوعات من تكويناتٍ شكلية، فنراهُ يُجدد في تنظيم الوحدة الجمالية من خلال توزيع غير متوقع للتقابلات الضدية، التي عن طريق تضادّها ذاتِه تتكون الوحدة الجمالية، ومنها أيضاً استلهامُهُ،

الطيب الحاج:“ بدون عنوان”، اكريليك على كانفاس، 90X90 سم، 2022 ، بإذن من الفنان.

بل استثمارُهُ للأسلوب الفنيّ الشهير في بلدهِ السودان، والذي يتمثل في تغطية خلفية الموضوع، وكذلك تحديد الخطوط الخارجية للشخوص وعناصر التكوين بإحدى درجات اللون الأبيض، فيصبح لسطح اللوحة مفهومٌ نحتيّ، يتمثل في توكيد الحجم في مقابل الفراغ،

وعلينا الانتباه إلى أن هذا اللون الأبيض لا يُغطي في العادة منطقةً خاماً من القماش (الكانفس)، ولكنه يُغطي منطقةً سبقَ الاشتغالُ عليها بشيءٍ من التلوين، من أجل أن تظهر بعض آثار ذلك التلوين في نسيج الغطاء الأبيض، فهي طريقةٌ لجعل الخلفية مُوحِيَة وشفافة، لكنّ الطيب الحاج يتدخل في هذا التقليد الفنيّ السودانيّ، فيستبدل اللون التقليديّ لتغطية الخلفية، وهو الأبيض؛ باللون الرماديّ،

سعادة محمد القصير ، مدير إدارة الشؤون الثقافية في دائرة الثقافة بالشارقة، وسعادة سالم الجنيبي رئيس الجمعية خلال افتتاح معرض الفنان الطيب الحاج “إلى الأفق البعيد”، 25 مايو 2022 .
الطيب الحاج:“ بدون عنوان”، اكريليك على كانفاس، 50X70 سم، 2018 ، بإذن من الفنان.

كما – على سبيل المثال – في اللوحات الثلاث التي غلبَ على شخوصها وعناصر الموضوع فيها اللون الأزرق الغامق، وفي لوحاتٍ أخرى اشتغل الفنان على تجزئة التكوين بشيءٍ من الجرأة، حيث المساحات المستطيلة الملوّنة فيها تتجاور وتتصل، بالرغم من تباعدها عن بعضها، وذلك التجاور والاتصال يُحققه الفنان ببعض الاشتغال الدقيق على تصوير أشكالٍ صغيرة مجردة، تُعبّئ بعض المواضع داخل تلك المساحات المستطيلة في اللوحة، وفي هذه اللوحات أيضاً نجده قد غطى الخلفية باللون الرماديّ، بل إن بعض المساحات المستطيلة نفسها ضمن التكوين قد لُوّنت بدرجةٍ من اللون الرماديّ كذلك، لكنها أخفّ من درجة الخلفية، وفي لوحات أخرى كذلك نرى الخلفية قد غُطّيت بألوانٍ أخرى، مثل البنيّ الفاتح، والبنيّ الغامق، وغيرهما، وهنالك لوحة من المجموعة قد بقيت على الأسلوب الأصليّ، فكان لون الخلفية فيها أبيضَ، وبشكلٍ عام يعكسُ هذا التنويع في تلوين الخلفية أمريْن حيويّين لدى الفنان، الأول هو رغبته في التجديد والتغيير، والثاني هو أن هذا التغيير لم يأتِ صدفة، بل هو نتيجة فهمٍ واستيعابٍ للهُويّةِ الفنية، فمن الواضح أن الفنان يعرفُ جيداً من هو فنياً، وهو ينطلقُ من هذه المعرفة لينحتَ شخصيته الفنية المتجددة.

في مقابل ذلك نجد الفنان الحاج قد استعمل اللون الرماديّ بمختلف درجاته ليُجسّد به موضوع إحدى لوحاته، حيث نرى عناصر التكوين قد رُسمت بدرجات اللون الرماديّ، في حين أن الخلفية قاتمة، وفي لوحةٍ أخرى يمزج الفنان بين الألوان، الرئيسة منها والثانوية، ليُحقق منها لوناً رمادياً بطريقة التكميل، وهي التي تُوضع فيها الألوان الرئيسة في تقابل مع الألوان الثانوية، فيُصبح كل لونيْن متكامليْن (Complementary colors)

يلتقيان في منطقةٍ رمادية، وبعبارةٍ أخرى: تُكمّل الألوان بعضَها البعض لإنتاج درجةٍ قلقةٍ من الرماديّ غير الصريح، وهذا ما يؤكد قولي السابق حول خبرة الفنان بالنظام اللوني وعلاقاته. أما بالنسبة لعناصر وشخوص اللوحات فنجدها في الغالب تأخذ حظاً مؤثراً من التخطيط والتلوين، بل إن بعض المساحات والفضاءات الصغيرة في اللوحات تحظى باشتغالٍ دقيقٍ يجعلها أشبه باللوحات داخل اللوحات، ولا شك في أن هذه الطريقة هي التي يُحقق بها الطيب الحاج الوحدة الجمالية في هذه الأعمال، حيث التقابل الضديّ الكبير بين دقة التخطيط وتنوع التلوين في العناصر والشخوص والرموز من جهة، وبين الفضاء المتسع باللون الأحاديّ غالباً في الخلفية من جهةٍ أخرى، وهو مفهومٌ نحتيّ، نابعٌ من العلاقة بين الحجم والفراغ كما سبقت الإشارة إليه، وغالباً ما يتبع الفنان هذه الطريقة في عامةِ لوحاته، الكبيرة منها والصغيرة، بل إن اشتغاله الدقيق على الرموز والمساحات المحيطة بها في بعض لوحاته الصغيرة يُحيلُ بشكلهِ الظاهر إلى فن الغرافيك، وقد اقتصر على اللونين الأبيض والأسود في عددٍ من هذه اللوحات الصغيرة، وإن مجموع هذه التصرفات يدل – في رأيي الخاص – على منحىً أدبيٍّ لدى الفنان، أو نزعةٍ إلى الشِعر،

فبعد قراءةٍ بصريّةٍ لمجمل لوحات الفنان الطيب الحاج، يقودك المَرئيُّ فيها إلى المُدرَك ذهنيّاً منها، وهو الشاعريّة، فهذه اللوحات نصوصٌ تتكثفُ فيها الرموز والإشارات لتخلقَ الدهشة من جديدٍ في الاعتياديّ، أو فيما يظن المشاهد أنه يعرفه، وفيها أيضاً تأويلاتٌ رقيقة للشخوص والرموز وما يُحيط بها، وإشاراتٌ عميقة للأفق في كل لوحة، كما أنها تُخاطبُ اللاوعيَ التاريخيّ لمجتمع الفنان، وربما للعالَم بأسره، من خلال الاقتراحات الجمالية التي تصطبغُ بها رموزهُ وشخوصه المنحدرة من أوائل الحضارات الإنسانية، والفنان يؤكد هذا بطريقةٍ تأويليةٍ غير مباشرة، وأحياناً بطريقةٍ واضحة، ولكنه وضوح الرموز السريالية، التي تنقلك من مباشرتها إلى آفاقٍ أخرى، كما نرى في اللوحة التي فيها غصنٌ منفصلٌ من إحدى الأشجار، وقد حصلت به ثقوب، ونبتت على طرفه وردة، فهل في البدء كان الناي؟ وهل الوردةُ النابتةُ عليه هي إغراءُ الأرض كما كانت التفاحةُ إغراءَ السماء؟

الطيب الحاج:“ بدون عنوان”، اكريليك على كانفاس، 140X100 سم، 2022 ، بإذن من الفنان.
الكتاب

باحث في المعرفة، فنان تشكيلي، ناقد فني، شاعر وعازف، مدير إدارة التراث الفني بمعهد الشارقة للتراث.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.