صالح الشكيري: «مراحل العشق 150x150 ،» سم، 2022 ، بإذن من «كلمات » جاليري

التنوير الذهني والعقلي

مقدمة:

عادة ما يتمُّ تأويل اللوحة في الفنون التشكيلية من جهة كونها “ملاء” يقاوم “الخلاء”؛ أي بوصفها بياضًا جاهزًا يتمُّ تأثيثها بالألوان، والأشكال، والخطوط، والأحجام، والظلال، والأضواء. لكن ماذا لو أنَّ الرسَّام لا يفعل في كلِّ مرَّة سوى اختراع الفراغ داخل اللوحة؛ أي اختراع إمكانية اللا متوقَّع أو “ما ليس بعدُ”؟ ماذا لو تعلَّق الأمر في فنِّ الرسم تحديدًا بتحرير اللوحة في كل مرَّة من أحكامنا المسبقة بشأنها؟ أي بوصفها محاكاة للواقع أو للفكرة أو للطبيعة، أو بوصفها تمثيلًا لذات صمَّمتها وفق قيم ذوقية وجمالية محدَّدة؟ نادرًا ما يتمُّ تأويل الفنون التشكيلية من جهة مفهوم الفراغ، وهذا هو الغرض من هذا البحث. من أجل ذلك سنحاول الاستئناس بحدس طريف نَعُدُّه خيطًا ناظمًا لهذا البحث نعثر عليه في كتاب بعنوان “ما هي الفلسفة؟” وفيه نقرأ أنَّ اللوحة “ليست عملًا فنِّيًّا، كما يقول الفنَّان الصيني، إلا إذا أبقت على ما يكفي من الفراغات لجعل الخيول تعدو فيها” . [1]. وانطلاقًا من هذا النصِّ ينبغي التأريخ لفكرة الفراغ انطلاقًا من الخيال الصيني تحديدًا بحيث مثَّل الفراغ لدى الشرق عمومًا وفي الفلسفة الطاويَّة خصوصًا الحالة الأصلية للأشياء، وهو ما يحدِّثنا عنه الفيلسوف الصيني شانغ تساي؛ إذ يحدثنا عن “الفراغ الأسمى” أو اللا شيء بوصفه “ما وُجد قبل السماء والأرض…” [2] وبما يتجلَّى انطلاقًا من الدخان، والضباب، والسحاب”[3]. هذا الفراغ يصبح مفهومًا تشكيليًّا أيضًا بحيث يقول لنا الفيلسوف الصيني ما يلي: “ثمَّة داخل كلِّ لوحة يحرِّكها الفراغ الحقيقي روح تتجوَّل هناك بشكل حرٍّ” [4] . وفي الحقيقة يتعلّق الأمر بمعركة فلسفية وجمالية بين تصوُّرين حول الفراغ: تصوُّر غرب “يخشى الفراغ” فلا ينفكُّ يسطو على بياض العالم بالمعارف، والتقنيات، والتمثيلات، وبالمجازات والتأويلات من أجل تملُّكه، وتصور شرق يحبُّ الفراغ ويميل نحو التأمُّل وإفراغ العالم من كلِّ أشكال الضجيج التأويلي حوله. وإنَّ هذه المعركة الفلسفية حول الفكرة الجمالية للفراغ هي الفرضية الإشكالية لهذا البحث.

ما المقصود بالفراغ؟ ما الفرق بين الخلاء، واللا شيء، والعدم، واللا شكل، واللا وجود؟ لماذا يخشى الغرب الفراغ في حين يسعد الشرق باختراعه وبتأمُّله؟ ما الفرق بين كثافة الخطوط وقدرة نقاط الفراغ على تشكيل روحنة فنِّية للعالم؟

تاريخ مفهوم الفراغ:

لقد كانت مسألة الفراغ موضع جدل فلسفي وعلمي منذ فيثاغورس، وديمقريطس، وزينون الإيلي، وأرسطو حتى ديكارت، وباسكال، وكانط، ومنذ إمبادوقليس وأبيقور حتى نيوتن، وأينشتاين، وفيزياء الكوانطوم. في الحقيقة يمكن القول: إنَّ الفلاسفة والعلماء ينقسمون في تصوُّرهم للعالم إلى فئتين: “الفراغيِّين”؛ أي الذين يعتقدون أنًّ العالم مليء بالذرات والفراغ، و”الملائيِّين” الذين يرفضون القول بالفراغ في الطبيعة؛ لأنَّ الطبيعة منذ أرسطو تخشى الفراغ. حينئذ سيكون السؤال: ما خطورة القول بالفراغ من عدمه على تصوُّراتنا للعالم وعلى عقائدنا، ومعارفنا، وأشكال تخييلنا وتمثيلنا لصورة الأشياء في عقولنا؟

الفراغ -وفي العربية القديمة نقول أيضًا الخلاء في مقابل الملاء- هو في أصله مفهوم فيزيائي، ويعني تحديدًا غياب كلِّ مادَّة. وفي علم الفلك يدلُّ مفهوم الفراغ على الفضاء الذي تلتقي فيه الأجرام السماوية. وفي فيزياء الكونطوم نتحدَّث اليوم عن مفهوم الفراغ الزائف أو تقلُّبات الفراغ. وقد عُوِّض مفهوم الفراغ بمفهوم الأثير داخل نظرية النسبية العامة.

تعود فكرة الفراغ إلى الفيلسوف اليوناني ما قبل السقراطي لوسيب (460 – 370 ق.م) الذي يعتقد أنَّ المادّة تتكوَّن من أمرين هما: وحدات أساسية غير قابلة للقسمة وهي الذرَّات، وفضاء فارغ ضمنه يمكن للذرَّات أن تتحرَّك وأن تنمو. وقد استؤنفت فكرة الفراغ مع تلميذه لوسيب أي ديمقريطس ( قرابة 440 ق.م) مؤسس الفلسفة الذريّة الذي دافع عن الفكرة القائلة بأنَّ العالم لا متناهٍ، وهو مسكون بجسيمات صلبة وغير قابلة للقسمة، وهذه النظرية هي التي سيلتقطها أبيقور وسوف يؤسس عليها فلسفته. في سنة 400 ق.م؛ أي قرابة قرن على ظهور فكرة الفراغ يظهر الفيلسوف اليوناني زينون الإيلي بمفارقاته ضدَّ نظرية الحركة، ويجري وفقًا لهذه النظرية دحض فكرة الفراغ مع إمبادوقليس الذي يعتقد أنَّ العالم مليء بالأجسام ولا يوجد فيه أيُّ فراغ. ومن هنا تولدت نظرية أنَّ الفضاء ليس فارغًا بل هو يسبح داخل “الأثير” بوصفه جوهرًا لا متعيَّنًا أضافه أرسطو فيما بعد إلى ما سمّاه الحكماء الإغريق القدامى بالعناصر الأربعة (الماء، والهواء، والنار، والتراب). وقد أُعيد تأهيل فكرة الفراغ مع إبيقور ومن بعده لوكراس اللذين دافعا عن ضرورة وجود الفراغ من أجل أن تكون حركة الذرَّات ممكنة. أمَّا في العصور الحديثة فقد استمرَّ هذا الجدل حول فكرة الفراغ منذ غاليلي حتى أينشتاين، وإذا كان غاليلي (1564-1642) قد اهتمَّ بفكرة الفراغ بوصفه مكانًا تجريبيًّا لاختبار الشروط العلمية المثالية للجاذبية الأرضية فإنَّ نيوتن الذي أسَّس علم الميكانيكا الكلاسيكية يدافع عن فكرة الأثير ضدَّ فكرة الفراغ معتبرًا أنَّ الفضاء مليء بالأثير؛ وهو نوع من الجوهر الذي لا يملك أيَّ خاصية فيزيائية، وهو الذي يجعل حركة الأجسام ممكنة. وهي فكرة انتصر لها أينشتاين الذي يرى أنَّ الأشياء الفيزيائية لا توجد ‘في المكان’ بل هي تملك ‘امتدادًا مكانيًّا’، وعليه فإنَّ مفهوم المكان الفارغ يفقد معناه. أمَّا فيزياء الكوانطوم -وهي آخر المحطَّات في التاريخ العلمي لفكرة الفراغ- فهي تعترف بمفهوم الفراغ بوصفه ضربًا من حالة الطاقة الدنيا وليس بوسعنا وفق مبدأ اللا يقين معرفة القيمة الدقيقة لهذه الطاقة. رغم ذلك يمكننا القول بالتقلُّبات الكوانطية للفراغ؛ أي تلك التقلبات القائمة على نوع من الحقل المغناطيسي الذي تلتقي فيه الجسيمات والجسيمات المضادة وفق “طاقة الفراغ”.

في الفرق بين الفراغ، والعدم، واللا وجود، واللا شيء:

يشتغل الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني في نَصٍّ له منشور على موقع إلكتروني على الفرق بين الفراغ، والعدم، واللا وجود [5] وفق أطروحة طريفة مفادها أنَّ الفراغ فكرة خاصة بالحضارات الصينية والبوذية، وأنَّ اللا وجود فكرة وثنية يونانية، وأنَّ العدم هو “المساهمة الميتافيزيقية العليا للإبراهيميين”. فالشرق يعتقد أنَّ الفراغ هو الأصل في الأشياء، واليونانيون كانوا يتصوَّرون أنَّ أصل الأشياء هو “الكاووس”؛ أي الفوضى، أمَّا الديانات الإبراهيمية فتعتقد أن “الله خلق العالم من عدم”. لكنَّ المفهوم الأكثر إشكاليةً ههنا بحسب المسكيني هو مفهوم الفراغ؛ لأنَّه مفهوم فارغ من ماهيته، وهو فقط حالة تأمُّل، وسيكون علينا حينئذٍ وفق عبارات المسكيني أن “نفرغ العالم من أيِّ وجود خاصٍّ” . [6] . الحلُّ هو ما تقترحه ثقافة “الزان” من حيث كونها “تمارين في البحث عن الفراغ واستعماله بشكل مناسب من أجل إنتاج السكينة”[7] . وهنا يحرص المسكيني على التشديد على فكرة التناقض بين الشرق والغرب حول فكرة الفراغ؛ فإذا كان الغرب “يخشى الفراغ” فإنَّ الشرق يعمل على “إنتاج الفراغ الباطني. وحده الفراغ يهيِّئ مكانًا للقاء مع الآخر سواء أكان شخصًا أم عالَمًا”[8]

أمَّا فكرة اللا شيء فقد تحدث عنها فيلسوف التنوير والحداثة إمانويل كانط في آخر القسم الأوَّل من تحليلية نقد العقل المحض. وقد عرَّف كانط اللا شيء بأنه “مفهوم من دون موضوع” يجد في النفي تعبيراته الأساسية بحيث ينضِّد كانط لوحة مقولات اللا شيء مقسِّما دلالاته إلى أربعة معانٍ هي: أوًّلًا: “لا شيء [9]بوصفه مفهومًا فارغًا من دون موضوع”. وثانيًا: بوصفه “موضوعًا فارغًا لمفهوم”. ثم ثالثًا بوصفه “عيانًا فارغًا من دون موضوع”. ورابعًا بوصفه “موضوعًا فارغًا من دون مفهوم”. تجدر الإشارة ههنا إلى أنَّ انغلاق تحليلية الحقيقة الخاصة بالعقل الغربي الحديث على مقولة اللا شيء إنَّما يعكس في تأويلنا بداية حيرة الغرب إزاء مفهوم الفراغ. والمقصود ههنا هو أنَّ الفراغ لا مكان له إلا بالنسبة لـ”ملاء” العقل؛ أي لنظرية المعرفة التي ترى أنَّ كلَّ ما يخرج عن نطاق منظومتها المعرفية يتمُّ تصنيفه في عداد اللا شيء؛ أي المستحيل، والمستحيل هو كلُّ صورة مجرَّدة من العيان الحسِّي وكلُّ شيء ممتنع الوقوع، وهو بعبارة كانط نفسه كلُّ “كينونة خيالية” . [10].

الفراغ والخيال:

لا يمكن التفكير في الفراغ إلا انطلاقًا من تنزيله ضمن عمل المخيِّلة. إنَّ مفهوم الخيال هنا هو ما يهمُّنا؛ ذلك أنَّ التأسيس الفلسفي “للعب الحرِّ للمخيِّلة” في مجال الجماليات الحديثة مثلما رسمه كتاب كانط (نقد ملكة الحكم) هو الذي سيفتح الباب في الفلسفة المعاصرة لإمكانيات مغايِرة لعودة اشتغال مفهوم الفراغ على أنحاء عدَّة ما دام التخييل هو مجال إنتاج الفراغ؛ أي ما يستحيل على الذات معرفته. إن التخييل هو مجال الفنِّ الذي جرى الإعلاء من شأنه منذ أن أعلن الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه أنَّنا نحتاج إلى تحويل “الفنِّ إلى المهمَّة العليا والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي لهذه الحياة” [11] والإنسان إلى “أثر فنّي” .[12]يتجلى هذا المشروع الجمالي من خلال العديد من المقاربات الفلسفية للفنِّ من قبيل فلسفة مارلوبونتي وجدلية “المرئي واللا مرئي”، [13] وجاك دريدا، واستاطيقا الغياب ،[14]ودولوز في ازدواجية “الصقيل والمخدّد”[15]وهو ما انطلقت منه الفيلسوفة الفرنسية بوسي غلوكسمان لتوقيع ما تسمِّيه جماليات “الخفَّة”[16] انطلاقًا من “المربّع الأبيض”[17]انطلاقًا من “المربّع الأبيض” للرسام الروسي مؤسس الفنِّ التجريدي مالفيتش بوصفه تعبيرًا عن “الدرجة الصفر من الشكل”[18] وعن “الفراغ المثير للدوار” .[19]لكنَّنا نرى أنَّ هذا المنعرج الجمالي القائم على فكرة الفراغ التشكيلي لتحرير الأفق البصري من ضجيج السرديات والتأويلات قد صاغ نظريته الجمالية الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار الذي وضع ملامح تأويلية استثنائية في قراءة الفنون البصرية انطلاقًا من كتابه “الخطاب والشكل” [20]وخاصة في كتابه العجيب بأسلوبه[21] ومضامينه وهو كتاب ماذا يُرسم؟

صالح الشكيري: «مراحل العشق »، خشب معالج، 200x200x10 سم، 2022 ، بإذن من «كلمات » جاليري

ماذا يُرسم في لوحات الفنِّ التشكيلي؟ الفراغ أم الملاء؟

ماذا يُرسم؟ هو عنوان طريف لمساءلة فلسفية معقَّدة وإشكالية للفنون التشكيلية ما بعد الحديثة. هذا العنوان ليس عنوانًا تمامًا؛ لأنَّه يدمِّر فكرة اليقين عن العناوين المطمئنَّة إلى نفوذها التقليدي على مساحة المعنى. إنَّ الكتابة مطالَبة في ظلِّ أزمة السرديات الكبرى بأن تتحوَّل إلى مجال مغناطيسي لنموِّ الأسئلة. “ماذا يُرسم؟” سؤال – ينزع عن الكلام سلطة الذات المتكلِّمة. لوحات بلا ذات لكنَّها تنتصب أمامنا في صمت مهيب: أيّ نمط من الوجود تقترحه علينا الفنون التشكيلية اليوم؟ هل ما زال ممكنًا تشكيل العالم في صورة ما بعد نهاية السرديات الكبرى؟ هل ما زال ثمّة شكل تدَّعيه الفنون البصريَّة وتمنحنا إياه كما لو كان العالم لا يزال يتمتَّع ببراءته الأولى؟

يقترح علينا الفيلسوف الفرنسي المعاصر جون فرانسوا ليوتار الموقِّع لمفهوم ما بعد الحداثة في الفلسفة[22]نمطًا من الخطابة المرئية القائمة على حوارات، وانقطاعات، ونقاط فراغ، وأشكال أخرى من اختراع السديم والتقاط طاقة الصمت والغياب، وفيه تتوزَّع الكلمة في ضرب من المسرحة الطريفة على “أنتم”، و”هو”، و”هي”، و”الشرق”، و”الغرب” في نوع من إعادة توزيع شروط التلفُّظ داخل الخطاب الفلسفي، وفيه تنضيد لمعماريات استثنائية تتَّخذ من “الحضور”، و”الخطِّ”، و”الإعفاء”، و”فقدان الذاكرة”، و”النقطة”، والموقع”، و”العرض” عناوين ومضامين جديدة لمساءلة الفنون التشكيلية، وذلك من خلال طرح جمالي يتَّخذ من أعمال الرسَّام الإيطالي المعاصر فاليريو آدمي، والرسَّام الفرنسي المعاصر دانيال بوران، والفنَّان التشكيلي الياباني أراكوا [23]نماذج لاختبار قراءة مغايرة للفنون البصرية تنتصر للفراغ ضدَّ التصوُّر القائم على ضرورة السيطرة على بياض القماشة بالألوان، والأشكال، والأحجام، والظلال كما لو كانت اللوحة قصَّة.

كيف يُرسم؟ ماذا يُرسمُ؟ هل يُرسمُ الحضور الحسيُّ أم تُرسمُ الفكرة؟ إنَّ كلَّ لمسة لون إنَّما تُخفي عوالم وانتظارات نفسية، واجتماعية، وثقافية. وتبعًا لذلك فإنَّ ريبيَّة ما تولد أمام كلِّ لوحة فنِّية منذ ما يسمِّيه الفيلسوف الفرنسي موريس مارلوبونتي “شكّ سيزان” [24]حتى أعمال الفنَّان الياباني أراكاوا من قبيل لوحته بعنوان “ليس ثمَّة مكان بل ثمة ناظرون فقط”.[25]

إنَّ الأمر يتعلَّق هنا باختبار أطروحة أساسية هي: ثمَّة معركة بين الشرق والغرب بخصوص إشكالية الفراغ لا في الطبيعة فحسب كما حدث ذلك منذ فيثاغورس إلى أينشتاين، بل في الفنون أيضًا. المعركة هنا تجري انطلاقًا من التناقض بين رسومات أدامي وبورن من جهة الغرب، وأعمال أراكاوا من جهة الشرق بحيث ينقد ليوتار تاريخ الفنِّ الغربي موجِّهًا العين الفلسفية نحو الشرق بوصفه وجهة مغايرة تنصف الشعوب المختلفة وتمنحها حيٍّزًا جديدًا من الإنصاف والاعتراف. وهو أمر يدخل ضمن خطَّة فلاسفة الاختلاف منذ فوكو، ودريدا، ودولوز. نحن نَعُدُّ كتاب ليوتار حول “ماذا يُرسم؟” من اللحظات الأساسية للنقد ما بعد الحديث التي تشخِّص أزمة الفنِّ الغربي وتمنح الشرق

الكلمة كي يقترح وجهة نظره التشكيلية للعالم.[26]يقول ليوتارد: “أنا أعتقد أنَّ التاريخ الغربي لفنِّ الرسم لا يمكنه أن يقصَّ علينا سوى أُفول الحضور الحسِّي” . وهذا يعني أنَّ الفكرة في الفنِّ الغربي قد انتصرت دومًا على الحضور الحسي وذلك لأنَّ “كلَّ تصوير إنَّما ينخرط ضمن أشكال من القصص هي بدورها خطابات في الذاكرة”.[27]وعليه فإنَّ فنَّ الرسم الغربي قد ظلَّ طويلًا تحت سطوة الفكر في حين يغيب الحضور. بل إنَّ “فنَّ الحضور يغيب “؛ إذ ينتصر السرد على الرسم، ويصير الحنين علَّة التصوير الوحيدة. والسؤال الذي يحرج ليوتار هو: إذا كانت “قليلة هي الأشياء التي نراها، وكثيرة هي الأشياء التي نفكِّر فيها” فلماذا نرسم؟ وهذا السؤال يجد إجابة له في أعمال أراكوا؛ إذ نعثر على كوجيطو جديد للفنون التشكيلية “ليس ثمة الكثير لنراه ، لا شيء يمكن فهمه” . [28]

انطلاقًا من هذا الكوجيطو الجديد للفنون التشكيلية يقيم ليوتار مناظرة فلسفية محرجة بين النموذج السردي الذي ينتصر للذاكرة والنموذج المرئي الذي يعيد تأهيل الحضور الحسِّي بوصفه حدثًا تشكيليًّا محضًا. في مقابل رسومات أدامي التي تفتح نوافذها على الذاكرة وتتقن فنَّ الحبكة السردية داخل اللوحة يمنحنا أراكاوا اللوحة بوصفها حدثًا يحدث فقط. المهمُّ حينئذٍ في اللوحة ليس ما تريد أن تقوله لنا بل هو أنّها تحدُث فقط هنا فتكون هي الزمان والمكان معًا. هنا يقيم ليوتار تناظرًا بين دعاة السرد؛ أي الرسام الغربي الذي ما زال يعتقد أنَّ بوسعه أن يقول أكثر دومًا وأن يسيطر على العالم بخطابه عن الفكرة والمفهوم والكينونة والكونية، ودعاة التأمُّل؛ أي الرسَّام الشرقي الذي يزعزع كلَّ هذه المنظومة البصرية التأويلية التي تطرد الحضور وتنتصر للذاكرة؛ فالتشكيل الشرقي يتَّخذ من الفراغ مجالًا جماليًّا لتحرير الذات من كلِّ ادعاء سيطرة على العالم، [29] وهو في هذا السياق يقابل بين أدامي[30]وأراكاوا بحيث يَعُدُّ “أدامي ..[31] هو الحبكة، والتداخل بين الخطوط، وألف قصة تنبثق من إرادة اللمسة، ومن سيطرة الذاكرات على الموادِّ، وهو تنصيب الركح السردي؛ إنَّه الحضور، وقد جرى طرده” . وفي مقابل آدامي “ذاك الترف التمثيلي” يظهر الرسَّام الياباني أراكاوا بوصفه “ذاك الذي يخاتل الحبكات” ويزعزعها. وفي سياق هذا التقابل بين نمطين من الفنِّ التشكيلي تحديدًا يولد مفهوم الفراغ بوصفه المفهوم الذي يجري وفقه تنضيد تأويلنا للفنون التشكيلية.

فحينما ننتمي إلى براديغم الإستاطيقا الغربية سنجد أنفسنا ضمن تأويل الفنون البصرية بوصفها تمثيلًا لواقع، أو فكرة، أو قصَّة، أو سردًا لذاكرة، لكن حين يتعلق الأمر بتغيير في البراديغم سنحتاج فقط إلى النظر إلى اللوحة على أنها ما يحدث هنا الآن في ضرب من الصدفة التي لا تحتاج إلى أيِّ علَّة سابقة عليها ولا إلى أيِّ ذات تشرّع لقيمها الجمالية.

الحوار التشكيلي بين الخطِّ والنقطة:

يتجلى الفرق بين التشكيل الغربي للعالم والتشكيل الشرقي له في الفرق بين الخطِّ والنقطة؛ ذلك أنَّ الفراغ انَّما يظهر في أعمال الرسَّام الياباني أراكوا من خلال اعتماده على النقطة بدلًا من الخطِّ. وهو الصراع بين نمطين من الهندسة التشكيلية للعالم: خطوط آدامي ونقاط الفراغ المبثوثة في أعمال أراكوا. وهنا يخصِّص ليوتار “للنقطة” فصلًا كاملًا في كتابه “ماذا يُرسمُ؟” وفي هذا الفصل ينتصب الركح الفلسفي بين “الشرق” و”الغرب” بحسب هندسة ليوتار لعناوينه. كما لو أنَّ تأهيل الفراغ داخل الفنِّ التشكيلي هو الطريق نحو إعادة تأهيل الحوار بين الشرق والغرب مرَّة أخرى. لكنَّ هذا الحوار لن يكون تقليديًّا؛ أي حوار غرب منتصر بعلمه على بلدان الشرق، بل هو حوار جديد على أرضية الفنون التشكيلية يكون فيه الفراغ التشكيلي حافزًا لاستعادة الشرق الكلمةَ في تاريخ الفنون. إنَّه الحوار بين سردية الملاء القائمة على غزو المكان بالخطوط، وثقافة الزان التأمُّلية التي تفسح المجال لنقاط الفراغ؛ أي للأرواح الحرَّة في ضرب من روحنة الأمكنة وتحرير النفوس من ثرثرة الكلام. نعم نحن نحتاج إلى اختراع الفراغ لتحرير أنفسنا من شدَّة زحمة العالم، وسرعة وتيرته، وضغوطه، وتوتُّر أرواحنا في قبضته، وركام بضائعه التي تغزو كلَّ مكان.

ماذا يفرض علينا الفراغ؟ أيُّ قدرة له على إعادة توزيع خريطة تشكيل العالم من جديد؟ يجيبنا ليوتار منذ بداية فصله الخاص بحوار “الشرق والغرب” حول “النقطة” بما يلي: “إن كنت تريد أن تفهم أراكوا فإنَّ أراكوا لا يطلب أن يكون مفهومًا” ؛ [32]لأنَّ نموذج الفهم هو نموذج غريب عن القيم الجمالية للشرق القائمة على التأمُّل. ما يطلبه الرسَّام الياباني هو فقط “مكان فارغ” ، [33]هو عبارة عن ” صحراء يسكنها فراغ ممتلئ”[34] وهذا الفراغ إنَّما ينبثق من ثقافة “الزان” الشرقية بحيث يدعونا أراكوا وفق تعاليم بوذا “إلى الجلوس على الجبل وأكل الأرز” .[35]

ماذا يعلِّمنا الرسَّام الشرقي عن الفراغ؟

إنّه يمنحنا العالم من جديد في قبضة من المعاني نوجزها في نقاط ثلاثة:

1) الفراغ هو ما لا يقبل التعيين ولا الفهم، بل يدعونا فقط إلى النظر والتأمُّل.

2) ليس ثمَّة فكر دون نقاط فراغ.

3)الفراغ هو مكان يمكن فيه للطاقة أن تشكِّل نفسها .[36]

4) الفراغ يحرِّرنا من اعتقال “الملاء” الذي يجري وفقه السطو على أجسادنا وأرواحنا، ويمنحنا إمكانية الظفر بصفاء النفس من جديد.

صالح الشكيري: «مراحل العشق »، خشب معالج، 200x200x10 سم، 2022 ، بإذن من «كلمات » جاليري
خاتمة:

إنَّ أهمَّ ما نظفر به انطلاقًا من هذه المقاربة الفلسفية لفكرة الفراغ التشكيلي هو النتائج التالية:

أوَّلًا: أنَّ فكرة الفراغ تفتح المجال أمام قراءات جديدة للفنون التشكيلية وتمنح اللوحة أبعادًا جمالية مغايرة وقِيَمًا ذوقية تجد في صمت اللوحة ولحظات البياض والدرجة الصفر من الشكل واللون ممكنات أخرى لتشكيل العالم في هيئات جديدة.  

ثانيًا: أنَّ مقاربة الفنون التشكيلية من وجهة نظر فكرة الفراغ بوسعها تحرير الأفق التشكيلي من كل ادعاءات المعنى التي راكمتها الاستاطيقا الغربية على ذاتيَّة جمالية مطمئنة إلى نجاح عالمها وقدرته على امتلاك خرائط الكينونة ونمط الإقامة فيها. إنَّ تأويلية الفراغ تهدف إلى فسح المجال لسعادة التأمُّل، وهو ما يتجلى في الفنِّ التجريدي بصفة خاصة. 

ثالثًا: أنَّه ثمَّة جمالية ما للفراغ تفتح عقولنا على مساحات التأمُّل فيما يحدث بصفته حدثًا فقط، وهذه الجمالية إذ ترسم حدود القيم الجمالية الغربية فإنها تمنحنا نحن الذين نحمل فكرة الشرق في أنفسنا العميقة مكانةً تشكيلية متميِّزة في صلب خرائط الهندسة البصرية للعالم، وهو ما يتجسّد في فنّ الخطّ العربي. 

رابعًا: إنَّ جمالية الفراغ التشكيلي لا نحتاج فيها دومًا إلى ذاكرة تجعل من الحنين علَّةً للتصوير، بل نحن فقط في صلب ضرب من الاحتفاء بالدرجة الصفر من المرئي، نحن في الزمان، بل نحن الزمان والمكان؛ لذلك يكون فعل التشكيل هو احتفال بما يحدث فقط دون أوهام، ولا ادعاءات، ولا ضجيج. إنَّنا في صلب تصوُّر تشكيلي يدعونا إلى إفراغ العالم من كلِّ أشكال الضجيج الميتافيزيقي حوله.  

[1] جيل دولوز، فيلكس غاتاري، ما هي الفلسفة، بيروت، مركز الإنماء القومي، المركز الثقافي العربي، 1997،ص 173.

[2] Francois Cheng , Vide et plein , le language pictural des chinois , Paris , Seuil, 1979, 27

[3] Ibid

[4] Ibid

[5] فتحي المسكيني ، الإبراهيميّون والعدم ، السيرة الخفيّة للاستخلاف، موقع مؤمنون بلا حدود ، 3 جوان 2018

[6] Ibid

[7] Ibid

[8] Ibid

[9] Kant, Immanuel, Paul Guyer, and Allen W Wood. Critique of Pure Reason. Cambridge ; New York: Cambridge University Press, 1998, page 383

[10] Ibid

[11] F. Nietzsche , Naissance de la tragédie, Paris , Gallimard , 1949 , p.20

[12] Ibid, page 26

[13] Maurice Merleau – Ponty, Le visible et l’invisible , Gallimard , 1988

[14] Jacques Derrida , La vérité en peinture, Paris , Flammarion , 1978

[15] G. Deleuze, F. Guattari , Mille Plateaux, Paris , Minuit , 1980

[16] Christine Buci- Glucksmann, L’œil cartographique de l’art, Paris , Galilée , p.145

[17] Kasimir Malevitch

[18] Christine Buci – Glucksmann, L’œil cartographique de l’art, op.cit , p. 146

[19] Ibid

[20] J.F, Lyotard , Discours ,Figure, Paris , Kliencksieck , 1971

[21] Jean- Francois Lyotard , Que Peindre , Hermann Editeurs, 2008

[22] Lyotard. J.F , La condition postmoderne , Paris , Minuit , 1979

[23] Shusaku Arakawa (1936-2010)

[24] Maurice Merleau – Ponty , Sens et non Sens , Paris , Nagel , 1948

[25] Arakawa, there is no space but the Vieuwer, 1986

[26] Jean-Francois Lyotard, Que Peindre ?, Adami, Arakawa, Buren, Paris, Hermann, 2008, pp.11-12

[27] Ibid,pp.12-13

[28] Ibid, p.14

[29] Ibid, p.60

[30] Ibid

[31] Ibid, p. 58

[32] Ibid, p.109

[33] Blank, Ibid, p.109

[34] Ibid

[35] Ibid, p.60

[36] Ibid, p.141

باحثة في الفلسفة وناقدة في الجماليات، أستاذة التعليم العالي- قسم الفلسفة- المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس اختصاص: الفلسفة الغربية الحديثة والجماليات المعاصرة.

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.