“عملت مؤسسة الشارقة للفنون منذ تأسيسها في عام 2009، على دعم مختلف السياقات السردية حول الفن العالمي، وذلك عبر معارضها وبرامجها المتنوعة وإصداراتها ومقتنياتها الفنية، مساهمة بذلك في توسيع آفاق الخطاب التاريخي، وبناء مرتكزات عديدة تعزز من نهجها ومن مطلقاتها الجذرية…كما أسهمت شبكة علاقاتها الوثيقة وصداقاتها طويلة الأمد مع المؤسسات الفنية في آسيا وإفريقيا، في ترسيخ رسالتها الرامية إلى إنشاء منصّات نوعية تحتضن فنانين ومفكرين يتخطى إرثهم الفكري نظريات المعرفة الغربية. ويُعّد معرض “البوب في جنوب آسيا: استكشافات في الفن الشعبي” من أحدث التظاهرات الفنية التي نتجت عن تلك المبادرات… ”

الشيخة حور القاسمي، رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون.

عندما يصبح “الفن هو الواقع نفسه” يسعى الفنان إلى إنتاج فن تتقلص فيه إمكانية تدخله الفعلي متخليًا بذلك عن أسس تكوينه وأبعاده الوجدانية والجمالية، وفي حين يُعد بذلك فنًا خارجًا عن السائد والمعروف، أو قد يصنف بأنه فن “اللا فن”، لكنه بكل بساطة فن جماهري ينطوي على الكثير من المفاهيم والثقافة الشعبية.
إن عبارة Pop، مصدرها كلمة ( Popular) بمعنى شعبي، وقد استخدمها الناقد الإنجليزي لورنس الوي، ما بين عامي 1945- 1957؛ وذلك لتعريف أعمال جماعة المستقلين من الفنانين الشباب المعارضين للفن اللا شكلي، والمطالبين بالعودة إلى مظاهر الحياة الحديثة ووسائل الثقافة الشعبية، ويعد فن البوب أو الفن الجماهيري أحد الاتجاهات الفنية الأنجلو-سكسونية التي ظهرت في أواخر الخمسينيات في إنجلترا، وانتشرت بشكل شائع في أمريكا في مطلع الستينيات من القرن الماضي.
وقد عُرف فن البوب بأنه حركة ضد النظام الثقافي القائم؛ فقد أتى مناهضًا للمؤسسات الثقافية كالمتحف، ومخالفًا لما يُعرف بفن النخبة، فاهتم بتعزيز الثقافة الشعبية وأساليب الاستهلاك، وموضوعات الإعلانات والفكاهة، وتصميمات الصحف والمجلات المطبوعة، ومنتجات الأسواق، ونشرها عبر وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري. للفن الشعبي مظاهر كثيرة؛ منها إعادة إنتاج الصورة، وارتباطه أيضًا بالقضايا الاجتماعية والسياسية في المجتمع، ومن أهم فنانيه ريتشارد هاملتون، وآندي وارهول، وروي ليشتنشتاين، وكلايس أولد ينبيرغ، وجاسبر جونز، وروبرت روشنبيرغ، وديفيد هوكني، وغيره.
يعرف الفن الشعبي بتياراته المتعددة وتقنياته وأساليبه المختلفة التي يصعب حصرها. وقد استعمل مارسيل دوشامب تعبير “الدادا الجديدة” (New dada) لوصف مجموعة الاتجاهات والتيارات الفنية التي أعقبت التعبيرية التجريدية، وعلى رأسها الفن الشعبي؛ ومنها: التركيب Assemblage، والتجميع Instalation ، والأشياء الجاهزة Ready Made ، وفن الأشياء المهملةThe Art of Found Objects ، وفن النفايات The Art of Waste Materials ، وفن إعادة التدوير The Art of Recycled Materials ، وفن الإعلان Media Art ، وفن التصوير الفوتوغرافي Photography ، وفن التعليب Art of Packaging ، وفن الجرافيتي Graffiti Art ، وفن الفيديو Video Art ، والفن الهابط Kitsch Art/كيتش.

معرض: البوب في جنوب آسيا: استكشافات في الفن الشعبي

لم تكن الفنون البصرية في جنوب آسيا موضع اهتمام كبير، بل قد يُخيّل للبعض أن هذا النوع الفني لا وجود له في تلك الأصقاع. هذا إضافة إلى أن هذه البلاد عاشت دائمًا صراعات ونزاعات جعلتها مكانًا لا يوجد فيه استقرار وأمن، لكن ذلك لا يمنع أبدًا وجود فن حقيقي، ومحاولات، وتجارب، وتطور لأنماط واتجاهات مختلفة من الفنون البصرية؛ فبعدما تهيأت الظروف المناسبة للحداثة والتحضر والتبادل الثقافي والمعرفي ظهر العديد من الاتجاهات الفنية والممارسات الثقافية؛ مما أتاح الفرصة للعديد من الفنانين للتعبير عمَّا يدور في أفكارهم من إرهاصات، وفي خيالهم من هواجس، ويأتي المعرض الفني “البوب في جنوب آسيا: استكشافات في الفن الشعبي” ليتوج رؤية ما أبدعه الفنانون، وعرض نتاجهم الفني المتنوع من أعمال تشكيلية تصويرية، وصور فوتوغرافية، وشرائط فيديو، وأعمال تجهيز، وغيرها؛ إذ يسرد كل منهم بأسلوب ذاتي واقعَه، ويومياته، ومعاناته بعد أن “بدأت قضايا عديدة تثير قلق الفنانين من قبيل النضال في سبيل المواطنة والمساواة، وثقافة الاحتجاج البصرية، والأبعاد السياسية للفن الشعبي، إضافة إلى قضية كيفية سيطرة أنظمة الدول القومية على تنقلات الأفراد عبر حدودها وداخلها، فلجأ هؤلاء الفنانون إلى توظيف السخرية والفكاهة لنقد هذه المعضلات”.
نظمت مؤسسة الشارقة للفنون ومتحف كيران نادار للفنون في نيودلهي معرض “البوب في جنوب آسيا: استكشافات في الفن الشعبي” في المباني الفنية بساحة المريجة بمنطقة للفنون في الشارقة بتقييم من افتخار دادي وروبينا كارودي، وهو يُعد معرضًا استقصائيًا واسعًا للفن الحديث والمعاصر المعني بالثقافة الشعبية في منطقة جنوب آسيا، ويتضمن أعمالًا فنية منذ منتصف القرن العشرين حتى الوقت الحاضر، ويستضيف فنانين تناولوا قضايا معقدة، وواجهوا الفرد والمجتمع من خلال السخرية، واللعب، والتهكم. ينسج المعرض حوارًا متعدد الأجيال من خلال تقديم أكثر من 100 عمل مميز لفنانين من أفغانستان، وبنغلادش، والهند، ونيبال، وباكستان، وسريلانكا، ودول الشات، ويتناول ثيمات مفصلية متنوعة تسلط الضوء على مدى تماهي فناني تلك الدول مع جماليات الوسائط الطباعية، والسينمائية، والرقمية بالتوازي مع غوصهم عميقًا في الممارسات السائدة المتصلة بالعبادات، والحرف اليدوية، والفولكلور، وتعاطيهم مع الأشكال المختلفة للرأسمالية المحلية التي تتراوح بين الصناعات العملاقة، والبازارات أو الأسواق الشعبية، وما هو على اتصال بقضايا الهوية، والانتماء، والجندرية، والسياسة، والحدود.
يشير القيم الفني افتخار دادي بأن المعرض يركز على “التطور الكبير الذي شهده الفن الحديث والمعاصر في جنوب آسيا، وعلاقته بالثقافة الشعبية على التطور السريع بترتمنذ منتصف القرن العشرين حتى الوقت الحاضر. إذ للرأسمالية والعمران والميديا والتكنولوجيا والسياسات الجماهيرية منذ القرن التاسع عشر أصداءٌ وإرهاصاتٌ متعددة في المجتمعات المعقدة في دفع بالفنانين إلى الانغماس في التطورات الشعبية على امجنوب آسيا، ًالمستويين الثقافي والاجتماعي، بحيث أصبحت منطقة جنوب آسيا مثالا عن التطورات الأوسع التي شهدها الجنوب العالمي، والتي تواصل سعيها عباءة الفهم السائد لما نمنحو الحداثة والتمدن، وليخرج فن البوب فيها السياق الأوروبي المتصل بثقافة الاستهلاك الرأسمالي وصور مساب فرعي . )1(الميديا”(1)

، مطبوعات رقمية وخلفية ، أبعاد متفاوتة ، بإذن من الفنان 2012-2013 سامسول علم هلال : “استوديو الحب “،

وجد العديد من الفنانين الأفغان طريقته الخاصة للتعبير، في وقت ندر فيه الأمن والاستقرار الحقيقي. الفنانة الأفغانية هانغاما أميري (مواليد 1989- بيشاور) هي أحد هؤلاء الفنانين الذين عملوا ضمن ظروف استثنائية. ولدت هانغاما أميري في مخيم للاجئين بباكستان، واضطرت للنزوح عدة مرات أثناء طفولتها نتيجة الصراع القائم في بلدها الأم أفغانستان، وعندما كانت لاجئة يافعة وجدت في الفن ملاذًا ساعدها في الشعور بالأمان وفهم مجريات الأمور من حولها.
تدور أعمالها الفنية حول مفاهيم المواطنة والسبل التي تؤثر فيها القيم الجندرية، والمعايير الاجتماعية، والصراع الجيوسياسي، وتأثيرهم على الحياة اليومية للمرأة الأفغانية. تستكشف أعمالها الفنية النسيجية الغنية بالألوان قضايا متعلقة بحقوق المرأة والوطن والذاكرة، وتجسد القوة في تمثيل الأشياء المستخدمة في الحياة اليومية مثل جواز سفر، أو مزهرية، أو بطاقات بريدية عليها صور لمشاهير.
في عملها التركيبي “بازار” 2020 تشير الفنانة إلى التحولات الاجتماعية والثقافية الكبيرة إثر سقوط نظام طالبان عام 2001، ومنها حرية المرأة الأفغانية في العمل وفي التعبير عن نفسها. في العمل الفني تستعيد الفنانة ذكريات طفولتها وتجوالها في الساحات التجارية في كابول برفقة فتيات ونساء من عائلتها في وقت كانت إدارة جميع الأعمال وملكيتها بيد الرجال فقط. وهي تدعو المشاهد إلى تجربة ذلك الواقع المعاد بناؤه بوصفه شكلًا من العبث، وهي تستحضر تلك الحقبة التاريخية من خلال أعمال تركيبية نسيجية ضخمة تجسد البيئات التجارية والسوق الشعبي.

هانغاما أميري : “بازار”، ،2020، نطق، شيفون، موسلين، ريرح، جلد سويدي، نسيج محبوك رقمياً، قماش مموه، نسيج ساري، طبوعات بر على الورق والقماش، ورق، بلاستيك، طلاء أكريليك، قلم تخطيط، بوليستر، شرفم طاولة، جلد صناعي، نسيج مجمّ ع؛ 792.48 × 426.72 سم، بإذن من الفنانة وغاليري تي 293، روما

تعتمد هانغاما أميري على فن “الكيتش” في إطار مقاربة نقدية للمجتمع الذي تعيش فيه، وكلمة (Kitch) “كيتش” هي كلمة ألمانية مشتقة من اللغة اليديشية وتعني (استجلاب وحل من الطرقات)، وقد استعملها تجار الفن في ميونخ بعد منتصف القرن التاسع عشر للدلالة علـى قطع فنية رخيصة، واستُخدمت منذ بداية القرن العشرين كمصطلح فني يُعنى بفن إعادة التدوير واستخدام الأشياء البالية إضافة إلى الذوق الرديء كإشارة إلى الروح المادية، والعالم المعولب والصناعي، والاستهلاك اليومي من أجل تقديم فن يجمل الواقع، فلا ينظر إلى الكيتش بمعايير فنية، بل هو يعد قضية اجتماعية؛ فالجماليات وحدها لم تعد كافية، وأصبح العالم في نظر فناني الكيتش ومنظريها بحاجة ملحة إلى فن حقيقي.

ك. م. مادهز سودهانان: “السلطة والمعرفة”، 2016، زيت على قماش، 48.26×76.2 سم، بإذن من الفنان وغاليري فاديرا للفنون، نيودلهي

أوكلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين و«تويتر» إلى الفنانة الأفغانية الكندية هانغاما أميري مهمة تصميم الرمز التعبيري الخاص بيوم اللاجئ العالمي، والذي يُحتفل به في 20 يونيو من كل عام، وهذه أول مرة يصمم فيها أحد اللاجئين هذا الرمز التعبيري، ويتضمن الرمز قلبًا باللون الأزرق بين يدين ترمزان إلى الحماية والتضامن.

راميش ماريو نيثيندران: “لكش الخصوبة 3″، 2022، آنية فخارية وياقة جلدية، 35 × 53 × 140 عم لكش ،مس رأس “سبايكي”،2022، آنية فخارية، 41 × 64 × 25 عم لكش ،مس رأس “سبايكي” 2، 2022، آنية فخارية، 29 × 37 × 73 ،مس بإذن من الفنان وجهافري كنتيمبروري، مومباي

وكما هي الحال دائمًا، رأينا لدى كلٍّ من الفنانين الأفغان طريقته الخاصة في التعبير، ونعرج الآن على عمل فني للفنان ك.م. مادهوسودهانان، (مواليد ألابوزها- 1956- الهند)، تحت عنوان “السلطة والمعرفة” 2016 يتكون من سلسلة من اللوحات القائمة على ذاكرته عن تجميع ملصقات أعواد الثقاب عندما كان طفلًا، والفترة الأولى من الحركات النقابية في كيرلا، لا سيما في صناعة أعواد الثقاب والسجائر المصنوعة يدويًا. تحاكي الرسومات تصميمات الحزم التجارية القديمة، وتتصور تواريخ بديلة عنها، فتظهر في هذه السردية التاريخية المضادة عدة رموز للسلطة، والعنف، والإمبريالية تجتمع معًا لتشكل تناقضًا صارخًا مع التعبير المتكرر “أعواد ثقاب آمنة”. نذكر أن ابتكار عود الثقاب كلف الكثير من الأرواح خلال مراحل تطويره التي استمرت قرنين ونصف قرن من الزمن، فضلًا عن ضحايا الحرائق الناجمة عن سوء استعماله.

عرف الفنان والكاتب إعجاز حسن (مواليد لاهور-1940 ) بأعماله الفنية ذات الطابع السياسي التحريضي في محاولة لدفع شعبه إلى اليقظة والدفاع عن حقوقهم. تدور موضوعات أعماله حول حقوق الإنسان، وحقوق المرأة في شكل خاص، وتتضمن لوحته “تاه” معانيَ رمزيةً تدور حول أهمية المرأة في تنشئة الأجيال وصون القيم والدفاع عنهما، وهو يجسد في عمله الفني صورة ملصق إعلاني سينمائي للممثلة الباكستانية الشهيرة فردوس، وصورة أم تقاتل في حرب فيتنام، وهي تُعد رمزًا لتحرير المرأة ودعم الحركات الاحتجاجية المناهضة للحرب.

يتميز الفنان راميش ماريو نيثيندران (مواليد كولمبو – 1988) بجذوره القوية في الثقافة القديمة لوطنه، والتي استند إليها في نقده الوضعين الاجتماعي والسياسي اللذين يعانيان الانقسامات العرقية والأصولية الدينية، وهو يعبر في أعماله عن قضايا الجندر، والعرق، والتدين، وطقوس العبادة من خلال صنع منحوتات خزفية لشخصيات خرافية وغريبة الشكل تجسد الصراع بين المعتقدات الراسخة والحداثة، والتي تقارب نهجه في التدين والنحت.

إعجاز الحسن: “هات”، 1974، تيز على قماش، 183.3 × 121.5 مس، بإذ نم متحف الفنون الآسيوي في فوكوك، بإذن نم الفنان

تسرد بعض أعمال الفنان تشانراغوبثا ثينووارا (مواليد جالي، سريلانكا – (1960 قصة “يوليو الأسود” التي تجسد سلسلة من المذابح التي تعرض لها التاميل في 23 يوليو 1983، وأدت إلى موت جماعي ودمار هائل في سريلانكا. يعرف تشانراغوبثا بأسلوبه المسمى “البرميلية”، المناهض للحرب، والذي يمثل مجازيًا نقاط التفتيش البرميلية التي أُنشئت في منتصف التسعينيات في سيرلانكا إبان الحرب الأهلية (1983-2009)، ويجسد في عمله الفني “خريطة سياحية برميلية” خريطة سياحية حقيقية لمدينة كولومبو نشرتها دائرة السياحة بوصفها وسيلة إيضاح حول مكان وجود حواجز البراميل. أما عمله “مشهد برميلي” (1998- حتى الآن) فهو عمل تجهيزي يحمل دعوة للحفاظ على الوطن وحمايته، وهو عبارة عن براميل جاهزة مطلية بالأسود، والأخضر، والأصفر مثبتة كمتاهات تعوق حركة الطرق.

تشانراغوبثا ثينووارا: “مشهد برميلي”، 1998 حتى الآن ، براميل مطلية، أبعاد متفاوتة، لك برميل، 58.42 × 88.9 مس، بإذن نم الفنان وغاليري ساسكي فرناندو، كولومبو

المراجع

1. افتخار دادي: “البوب في جنوب آسيا: استكشافات في الفن الشعبي”، مؤسسة الشارقة للفنون، ص: .2022 ،316

رئيسة التحرير

مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي

مجلة التشكيل

he first issue of “Al Tashkeel” Magazine was published back in 1984, four years after the formation of the Emirates Fine Arts Society. The fine arts movement was witnessing growth and gaining traction on all other artistic levels.