الصورة – الراهن:
تختزل الصورة اليوم الوجودَ برُمته، وتعيد إنتاج رؤيتنا إلى العالم ليس بكونها أداة، أو انعكاسًا، أو تمثل، أو نسخة بل بوصفها الفاعل، والأصل، والحضور الفعلي، وهذا ما تفعله الصورة بنا لا ما نفعله نحن. ولعل هذا الحال الباعث على الغرابة والاستهجان قد يجعلنا أسرى فعلها لنكون منفعلين دومًا في عالم تهيمن عليه المصطنعات الصورية، وهذا ما يجعل البحث فيها هدفًا على قدر عالٍ من الأهمية.
عن السميولاكراSimulacra ، أو الصورة المزيفة (أو الشبحية) التي يجب الكشف عن هيمنتها على العقل الإنساني بإخفائها الحقيقة، والاستبدال التأثيري والإيحائي منها للواقع، حد التحول إلى حقيقة، وهي المصطنع الذي جرد الرمز من كل دلالاته حتى أضحت الصورة – بمعناها المطلق- لا تدل إلا على وهمٍ اصطنع لنفسه التمثيل الرسمي للحقيقة مع كونه لا يرتبط بها من قريب أو بعيد. تلك هي حال ما فوق الواقع لا علوًا بل إيهامًا. إنها حال الواقعية المفرطة؛ فالصورة تستهلك الحدث؛ ( بمعنى أنها تمتصه وتبذله للاستهلاك، ومما لا شك فيه أنها تكسبه تأثيرًا غير مسبوق إلى الآن، وبدلًا من أن يكون الواقع ماثلًا أولًا ثم تُضاف إليه رعشة الصورة تكون الصورة ماثلة أولًا ثم تُضاف إليها رعشة الواقع). (1)نعم يصبح الواقع صوريًا أو الصورة واقعًا، بحيث تستنزف كل دلائل الواقع الأصل لغيابه بسبب كثرة النسخ والصور المنبثقة عنه.
كل شيء نراه اليوم هو واقع مفرط؛ أي أنه فوق الواقع كثيرًا إلى حد انزياح المعنى؛ فالصورة أصبحت قرينة المعنى محتوية إياه، بل مختزلة له كذلك، وهذا رهان قاسٍ لحياتنا؛ فقد استطاع (الرمز أن يؤدي إلى عمق المعنى، وإذا تمكن رمز من التبادل مع المعنى، وكان هناك ما يؤدي دور الضامن فحينذاك يصبح النظام بأكمله فاقدًا للوزن، ولا يعود غير مصنع هائل – لا يكون وهميًا، بل يكون تمثالًا وصورة؛ أي غير قابل للمبادلة أبدًا مع الواقع، بل يتبادل مع ذاته في دائرة مغلقة غير منقطعة؛ إذ مرجعيتها ومحيطها ليسا في أي مكان). (2) بهذا المعنى تموت مرجعيات الواقع وتنتهي معايير الحقيقة وكونيتها؛ ولذلك فالبحث في الاصطناع والكشف عنه يبدأ معرفيًا ليمر بصنع الصورة والفن إلى تسويقها ثم إلى إشهارها إعلاميًا. ولعل ما يفعله بودريار وغيره ممن يسعون إلى تقليص أهمية أحداث معقدة (ومصطنعة) هو محاولة لإعادتها إلى حيزها الحقيقي في أطر التصنع والوهم والواقع المفرط كما أنها تلقي الضوء على البعد الإضافي العالي التقنية للأحداث الإعلامية). (3)
ولعل بعض الأعمال الفنية حاولت الإفادة من بودريار بشكل مباشر في تجسيد فنانيها للتصور القائل بأننا نعيش في عصر تسيطر فيه الاصطناعات والتمثلات الرمزية للأشياء في عالمنا، بل حتى الأشخاص، وممن تصور ذلك الفنان بيتر هالي؛ وهو فنان – رسام وأكاديمي أمريكي ولد في 24 سبتمبر 1953 في نيويورك – الولايات المتحدة. وقد حاول أن يقدم أعمالًا فنية تشير إلى ذلك البعد الذي يجعل الأشياء مختزلة في رمز أو لون؛ لذلك يحسبه بعضهم على الاختزاليين.
من خلال التصور بأننا نعيش في عصر تهيمن فيه التمثيلات الرمزية للأشياء والعالم عتبات الصورة وتحولاتها:
يمكن تعقُّب مراحل الصورة وتحولات علاقتها بالواقع بصفتها مرجعًا والحقيقة كحكم على النحو التالي(4):
- أنها انعكاس لحقيقة عميقة.
- أنها تحجب حقيقة عميقة وتشوهها.
- تحجب غياب الحقيقة العميقة.
- تكون بلا علاقة بأي حقيقة؛ لأنها اصطناع.
إن تغلغل وسائل الاتصال الجماهيرية في حياتنا في كل مكان منها إنما يخلق عالمًا من الواقع المفرط الذي يتكون من اختلاط أنماط السلوك البشري من جهة، والصور الإعلامية من جهة أخرى() ليتألف واقع افتراضي خليط ومتداخل يكتسب معانيه ودلالاته من صور ومشاهد أخرى مكررة فوق- فوق الواقع. (5)
يقول بودريار: “بإمكاننا أن نحلم بتطابق سعيد بين الفكرة والواقع، كما حدث مع الأنوار والحداثة خلال الفترة الذهبية للفكر النقدي، لكن هذا الأخير انتهى في جوهره، كما انتهت العلاقة المثالية بين المفهوم والواقع؛ إذ تم مجاوزتها تحت ضغط تقني ومعرفي هائل لصالح استقلالية الافتراضي الذي تخلص من الواقع وانطوى على ذاته، وتحول إلى إستراتيجية هذيانية لا نهائية”.(6)
الإعلام والصورة وإنتاج المعنى:
أما عن دور الإعلام وعلاقته بالصورة والمعنى والحقيقة فإنه لا يبتعد عن واحدة من هذه الأصناف (7):
- إما أن يُنتِج الإعلام المعنى، لكنه يخسر خسارة حادة في الدلالة، وخسارة في المعنى، وهنا لا حل إلا بإعادة إنتاجه على مستوى القاعدة بغرض استبدال ما فشل من وسائله.
- وإما أنه ليس للإعلام علاقة بالدلالة، ولا ارتباط له بالمعنى في حد ذاته؛ إذ إنه ليس إلا مجرد وسيلة أو وسيط تقني يوصل الخطاب ولا ينطوي على غائية في المعنى.
- وإما أنه على العكس من ذلك فإنه يتلازم ضروريًا بالمعنى، بل إنه مدمرٌ ومزيلٌ له ولدلالته.
ولعل الفرضية الأخيرة أقرب؛ إذ إن الإعلام يسرع في إنتاج المعنى، بل إنه فائض في القيمة للمعنى، كما هو فائض القيمة في الاقتصاد الناتج عن التداول المسرع ل رأسمال، كما أن الإعلام يلتهم مضامينه- نفسه القائمة على البعد التواصلي والاجتماعي(8)، ويستبدل بذلك هيمنة وجماهيرية.
يبدو المجتمع المستهلك – المشهد – المصطنع – الجماهيري حاملًا كفنه بيده، إنه مجتمع مشارف على الموت، وهو واقع المجتمعات المعاصرة، أو مجتمعات ما بعد الحداثة. إنها مجتمعات نخرها فيضٌ وكمٌّ هائل من صور استهلاك بمواد إعلان وسلطة إعلامية حولته إلى خاضع ومتسلِّم ومشاهد، وكأن الحياة تعرض أمامهم وهم يُبدون رأيهم من بعيد لا بقصد التأثير بل لأنهم متأثرون. يربط بودريار بين طبيعة مجتمع المشهد والفعل السياسي فيتساءل: “هل يمكن عَدُّ الصورة التي لا تُحيل إلا إلى ذاتها صورةً؟ ومن ثم تجاهلها لذاتها – وهذا مشكل سياسي. عندما تتحول التلفزة إلى فضاء إستراتيجي وافتراضي للحدث فإنها تصبح آلة للتصفية؛ إذ يُباد الموضوع الواقعي لصالح موضوع افتراضي في قبضة الوسيط الإعلامي)، (9) فكل الأحداث الواقعة والجارية لا يمكن الحديث عنها أو تمثيلها بقدر ما تنتج الصور أحداثًا وتخبر عنها، هكذا هي تصطنع ما نريده وما لا نريده بإرادتها فقط؛ لأنها الوسيلة المثلى لسيطرة الإعلام. يجب أن ندرك أثر المصطنع في إيهام الناس بشأن موضوعات صورية لم تقع حقيقة.
التضليل والتزييف: أدواته وأنظمته
إن التضليل هو سيطرة السميولاكرا والميديالاكرا وتحويل الإنسان إلى آلة للواقع الافتراضي مثقلة بجراحات التقنية ومرتبطة إلى حد الإغراق بالتزييف، ولا يتم الانفكاك عن كل ذلك التضليل إلا بتشخيص مصدره وماهيته، إنه:
- النظام العولمي وسياسته الردعية.
- النظام الرأسمالي وسياسته الاستهلاكية.
- النظام الإعلامي وسياسته الزيفية.
هكذا تتضح الصورة أكثر، إنها ثلاثية السياسي والاقتصادي والإعلامي، هذه هي مكبلات حرية الإنسان وأدوات خداعه وتضليله، وكأننا أمام نقد جديد للأيدولوجيا، لكن لا طبقية هنا بقدر ما نستطيع أن نحاكيها بطبقية فوق الواقع، الواقع وما فوقه، فما فوق الواقع بإفراطه هو الأيديولوجي بلا فكر أيديلولوجي؛ إنها أيديولوجيا الضياع، أيديولوجيا الاستغراق في التيه.
قد يبدو التاريخ المعاصر بمجمله تاريخًا إيهاميًا لسلطوية توتاليتارية أتقنت السلب التقني للإنسان، ويظهر التاريخ على أنه انكشاف الحقيقة التكنولوجية التي تتحول دائمًا إلى النقيض؛ إذ يوظف النظام عناصر أخرى باستمرار ويُنتج نظامًا تكنولوجيًا متطورًا يصبح بعدها غير حقيقي أو صائب بسبب إسرافه وأوهامه وجلبه عواقب غير متوقعة. هكذا يبدو الواقع وهمًا، والحرب لعبة إلكترونية، والدافعية السياسية كأنها ضحك تقني على عقول البشر! هذا من نتائج الصورة المصطنعة الشبحية التي لا يمكن دون فضحها أن نتكلم عن بداية التحرر. (10) وعلى ما سبق ستكون الصورة برمزيتها وإمكانية تمثيلها قابلة لأن ترسل رسائل، وتسيطر وتهيمن، وتجعل ما عجز عنه الواقع ممكنًا.
1. جان بودريار وآخرون، ذهنية الإرهاب، لماذا يقاتلون بموتهم؟ إعداد وترجمة بسام حجار، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، ط1، 2003، ص 33-34
2. جان بودريار، الاصطناع والمصطنع، ترجمة: جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص51
3. Douglas Kellner, Jean Baudrillard After Modernity, Provocations On A Provocateur and Challenger,p24
4. جان بودريار، الاصطناع والمصطنع، ص 52
5. أنتوني غدنز، علم الاجتماع (مع مدخلات عربية) ترجمة فائز الصيَّاغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2005، ص 513
6. جان بودريار، الفكر الجذري، أطروحة موت الواقع، ترجمة منير الحجوجي وأحمد القصوار، دار توبقال، المغرب، ط1، 2006، ص 14.
7. جان بودريار، الاصطناع والمصطنع، ص147-148
8. المصدر نفسه، ص 150-151
9. انظر: جان بودريار وآخرون، ذهنية الإرهاب، لماذا يقاتلون بموتهم؟ ص 46.
10. Douglas Kellner, Jean Baudrillard After Modernity, Provocations On A Provocateur and Challenger, p24.
أستاذ الفلسفة المعاصرة في كلية الآداب والفنون - جامعة بغداد، مؤسس وأمين عام- الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة.