لكل زمن حاجاته التي تتراكم لتحدث تحولا يفضي إلى مكان جديد. وهكذا تستمر الحياة في التحولات التي يفرضها الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي مع الزمن المتصاعد. ولا يمكن تحديد نقطة الوقوف، كما أن هذا التحويل لا يمكن التحكم به، ولكن يجب اللحاق به لإدراكه وفهمه على الرغم من أن هذا الفهم والإدراك قاصر عن اللحاق بالسرعة نفسها للتحول إلى المرحلة القادمة.
وإذا كانت الحداثة في مكان ما تُعد تفكيكًا للواقع القديم لإعادة إنتاج العالم الجديد، فإن هذا العالم سيجد نفسه مع الوقت بحاجة إلى إعادة تفكيك لإنتاج العالم القادم، في حداثة جديدة، ويستمر هذا الأمر للوصول إلى عوالم لا ندركها الآن، وإنما هي رهن بالأجيال القادمة؛ فعلى سبيل المثال: إذا كانت اللغة هي وعاء الفكر، فإن هذه اللغة أيضا، سيلحق بها الأمر نفسه، لانها ستحتاج أيضًا الى مفردات جديدة تستوعب الفكر الجديد لتعبر عنه، ومن ثَمَّ فإن الحداثة هي إعادة إنتاج كل ما يؤدي إلى زمنها للتعبيرعن حاجاتها. أما “ما بعد الحداثة” والتي هي حداثة الحداثة أو حداثة جديدة، فهي بحاجة إلى تفكيك القديم لإعادة إنتاج أغراضها ومفرداتها.
وللوهلة الأولى، يتجسد بحر من الفوضى، وما ذلك ألا لأن التبدلات التاريخية تولد نفسها بنفسها دون أن يكون الأفراد هم الفاعلين الأساسيين في هذا الحراك؛ فالجاذبية- على سبيل المثال- موجودة قبل أن يدركها نيوتن لها. إنه من الصعوبة بمكان، تحديد تعريف لحركة فكرية ما، كما أنه لا يمكن تحديد تعريف ل “العولمة “ والتي تمثل مفهوماً ما بعد حداثي، وهي تطول جميع مناحي الحياة بكل الأشكال، والظروف، والمستجدات.وعلى سبيل المثال، يشير مصطلح ما بعد الحداثة Postmodernity، إلى مرحلة تاريخية محددة، اما مصطلح ما بعد الحداثية Postmodernism فهو يمثل لحظة زمنية يمكن محاكاتها ومحاكاة نماذجها وإن امتدت إلى يومنا الحاضر.
وتشير حالة ما بعد الحداثة إلى معالجة المنهج والنظرية النقدية فلسفيًا ومعرفيًا، في حين تُعد ما بعد الحداثية بمثابة ممارسةً عمليةً وتطبيقًا لهذه المنهجية والنظرية على حقل معيَّن كالأدب، أو الفن، أو الموسيقى، أو العمارة…ان ما بعد الحداثة “تنبع من تحوُّل تاريخي شهده الغرب صوب شكل جديد من الرأسمالية، وصوب عالمٍ من التكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية وصناعة الثقافة، عالم سريع التبدد والزوال، بعيدًا عن التمركز، انتصرت فيه صناعات الخدمات والمال والمعلومات على المصنع التقليدي، وأخلت فيه السياسات الطبقية الكلاسيكية الميدان لسلسلة واسعة من السياسات المرتبطة بقضية الهوية. أما ما بعد الحداثية فهي أسلوب في الثقافة يعكس شيئًا من هذا التغير التاريخي…وما يبقى من مسألة خلاف وسجال هو مدى سيطرة هذه الثقافة أو انتشارها، أي ما إذا كانت قد قطعت كامل الشوط أم أنها تمثل نطاقًا محددًا فحسب ضمن الحياة المعاصرة” 1
لقد تأثرت فنون ما بعد الحداثة بالتحولات الكبرى على كافة الأصعدة التي طغت على مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونذكر منها التطورات العلمية والتقنية وظهور المناهج النقدية الحديثة؛ فجاءت التجارب الجديدة تعبيرًا عن واقع المجتمع ومتطلباته. لقد قدمت ما بعد الحداثة أطروحات جديدة للخطاب الجمالي عملت على استيعاب مجموعة لانهائية من الدلالات الفكرية والبنائية المتشظية. ونقصد بفنون ما بعد الحداثة، بالنتاجات الفنية التي جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي اتسمت بإزاحة الحواجز بين فروع الفن ليصبح العمل الفني مجالا للتأمل العقلي وموضوعا للتساؤل.
1- إيغلتون، تيري: (ما بعد الحداثة وما بعد الحداثية): ما بعد الحداثة، إعداد وترجمة: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، ط.١، دار توبقال للنشر، المغرب، 2007، ص. 10.
مؤرخة فنية وقيّمة، رئيسة تحرير مجلة التشكيل، حاصلة على درجة دكتوراه بامتياز في "الفن وعلوم الفن"، وماجستير في الفنون وماجستير في فلسفة الفن ودبلوم دراسات عليا في الفن والتصميم، نشرت العديد من الكتب وحاضرت على نطاق واسع حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والجماليات الفنية المعاصرة، وفي جعبتها العديد من الكتب المنشورة التي تؤرخ وتوثق من خلالها الفن في العالم العربي